الآيات 82-93

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴿82﴾ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿83﴾ حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿84﴾ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ ﴿85﴾ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿86﴾ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴿87﴾ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴿88﴾ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴿89﴾ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿90﴾ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿91﴾ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿92﴾ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿93﴾

بيان:

هي من تمام الفصل السابق من الآيات تشير إلى البعث وبعض ما يلحق به من الأمور الواقعة فيه وبعض أشراطه وتختم السورة بما يرجع إلى مفتتحها من الإنذار والتبشير.

قوله تعالى ﴿وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون﴾ مقتضى السياق - بما أن الآية متصلة بما قبلها من الآيات الباحثة عن أمر المشركين المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو خصوص أهل مكة من قريش وقد كانوا أشد الناس عداوة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته - أن ضمائر ﴿عليهم﴾ و﴿لهم﴾ و﴿تكلمهم﴾ للمشركين المحدث عنهم لكن لا لخصوصهم بل بما أنهم ناس معنيون بالدعوة فالمراد بالحقيقة عامة الناس من هذه الأمة من حيث وحدتهم فيلحق بأولهم من الحكم ما يلحق بآخرهم وهذا النوع من العناية كثير الورود في كلامه تعالى.

والمراد بوقوع القول عليهم تحقق مصداق القول فيهم وتعينهم لصدقه عليهم كما في الآية التالية: ﴿ووقع القول عليهم بما ظلموا﴾ أي حق عليهم العذاب، فالجملة في معنى ﴿حق عليهم القول﴾ وقد كثر وروده في كلامه تعالى، والفرق بين التعبيرين أن العناية في ﴿وقع القول عليهم﴾ بتعينهم مصداقا للقول وفي ﴿حق عليهم القول﴾ باستقرار القول وثبوته فيهم بحيث لا يزول.

وأما ما هو هذا القول الواقع عليهم فالذي يصلح من كلامه تعالى لأن يفسر به قوله: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ حم السجدة: 53، فإن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية والأرضية التي هي بمرآهم ومسمعهم دائما قطعا بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها وتضطر للإيمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشيء من آيات السماء والأرض التي هي تجاه أعينهم وتحت مشاهدتهم.

وبهذا يظهر أن قوله: ﴿أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون﴾ تعليل لوقوع القول عليهم والتقدير لأن الناس، وقوله: ﴿كانوا﴾ لإفادة استقرار عدم الإيقان فيهم والمراد بالآيات الآيات المشهودة من السماء والأرض غير الآيات الخارقة، وقرىء إن بكسر الهمزة وهي أرجح من قراءة الفتح فيؤيد ما ذكرناه وتكون الجملة بلفظها تعليلا من دون تقدير اللام.

وقوله: ﴿أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم﴾ بيان لآية خارقة من الآيات الموعودة في قوله: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ وفي كونه وصفا لأمر خارق للعادة دلالة على أن المراد بالإخراج من الأرض إما الإحياء والبعث بعد الموت وإما أمر يقرب منه، وأما كونها دابة تكلمهم فالدابة ما يدب في الأرض من ذوات الحياة إنسانا كان أو حيوانا غيره فإن كان إنسانا كان تكليمه الناس على العادة وإن كان حيوانا أعجم كان تكليمه كخروجه من الأرض خرقا للعادة.

ولا نجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية وأن هذه الدابة التي سيخرجها لهم من الأرض فتكلمهم ما هي؟ وما صفتها؟ وكيف تخرج؟ وما ذا تتكلم به؟ بل سياق الآية نعم الدليل على أن القصد إلى الإبهام فهو كلام مرموز فيه.

ومحصل المعنى: أنه إذا آل أمر الناس - وسوف يئول - إلى أن كانوا لا يوقنون بآياتنا المشهودة لهم وبطل استعدادهم للإيمان بنا بالتعقل والاعتبار آن وقت أن نريهم ما وعدنا إراءته لهم من الآيات الخارقة للعادة المبينة لهم الحق بحيث يضطرون إلى الاعتراف بالحق فأخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم.

هذا ما يعطيه السياق ويهدي إليه التدبر في الآية من معناها، وقد أغرب المفسرون حيث أمعنوا في الاختلاف في معاني مفردات الآية وجملها والمحصل منها وفي حقيقة هذه الدابة وصفتها ومعنى تكليمها وكيفية خروجها وزمان خروجها وعدد خروجها والمكان الذي تخرج منه في أقوال كثيرة لا معول فيها إلا على التحكم، ولذا أضربنا عن نقلها والبحث عنها، ومن أراد الوقوف عليها فعليه بالمطولات.

قوله تعالى: ﴿ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون﴾ الفوج كما ذكره الراغب - الجماعة المارة المسرعة، والإيزاع إيقاف القوم وحبسهم بحيث يرد أولهم على آخرهم.

وقوله: ﴿ويوم نحشر﴾ منصوب على الظرفية لمقدر والتقدير واذكر يوم نحشر والمراد بالحشر هو الجمع بعد الموت لأن المحشورين فوج من كل أمة ولا اجتماع لجميع الأمم في زمان واحد وهم أحياء، ومن في قوله: ﴿من كل أمة للتبعيض﴾ وفي قوله: ﴿ممن يكذب﴾ للتبيين أو للتبعيض.

والمراد بالآيات في قوله: ﴿يكذب بآياتنا﴾ مطلق الآيات الدالة على المبدأ والمعاد ومنها الأنبياء والأئمة والكتب السماوية دون الساعة وما يقع فيها وعند قيامها ودون الآيات القرآنية فقط لأن الحشر ليس مقصورا على الأمة الإسلامية بل أفواج من أمم شتى.

ومن العجيب إصرار بعضهم على أن الكلام نص في أن المراد بالآيات هاهنا وفي الآية التالية هي الآيات القرآنية قال: لأنها هي المنطوية على دلائل الصدق التي لم يحيطوا بها مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا مثل الساعة وما فيها انتهى.

وفساده ظاهر لأن عدم كون أمثال الساعة وما فيها مرادة لا يستلزم إرادة الآيات القرآنية مع ظهور أن المحشورين أفواج من جميع الأمم وليس القرآن إلا كتابا لفوج واحد منهم.

وظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة لأنه حشر للبعض من كل أمة لا لجميعهم وقد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة: ﴿وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا﴾ الكهف: 47.

وقيل: المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق فهو حشر بعد حشر.

وفيه أنه لو كان المراد الحشر إلى العذاب لزم ذكر هذه الغاية دفعا للإبهام كما في قوله تعالى: ﴿ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها﴾ حم السجدة: 20 مع أنه لم يذكر في ما بعد هذه الآية إلا العتاب والحكم الفصل دون العذاب والآية كما ترى مطلقة لم يشر فيها إلى شيء يلوح إلى هذا الحشر الخاص المذكور ويزيدها إطلاقا قوله بعدها: حتى إذا جاءوا فلم يقل: حتى إذا جاءوا العذاب أو النار أو غيرها.

ويؤيد ذلك أيضا وقوع الآية والآيتين بعدها بعد نبإ دابة الأرض وهي من أشراط الساعة وقبل قوله: ﴿ويوم ينفخ في الصور﴾ إلى آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، ولا معنى لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذكر شروعه ووقوع عامة ما يقع فيه فإن الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كل أمة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين.

وقد تنبه لهذا الإشكال بعض من حمل الآية على الحشر يوم القيامة فقال: لعل تقديم ذكر هذه الواقعة على نفخ الصور ووقوع الواقعة للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة.

وأنت خبير بأنه وجه مختلق غير مقنع، ولو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الإبهام المذكور أولى بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه.

فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة وإن لم تكن نصا لا يقبل التأويل.

قوله تعالى: ﴿حتى إذا جاءوا قال أ كذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما﴾ أما ذا كنتم تعملون المراد بالمجيء - بإعانة من السياق - هو الحضور في موطن الخطاب المدلول عليه بقوله: قال أكذبتم إلخ والمراد بالآيات - كما تقدم في الآية السابقة - مطلق الآيات الدالة على الحق، وقوله: ﴿ولم تحيطوا بها علما﴾ جملة حالية أي كذبتم بها حال كونكم لا علم لكم بها لإعراضكم عنها فكيف كذبتم بما لا تعلمون أي رميتموها بالكذب وعدم الدلالة من غير علم، وقوله: ﴿أما ذا كنتم تعملون﴾ أي غير التكذيب.

والمعنى: حتى إذا حضروا في موطن الخطاب قال الله سبحانه لهم: ﴿أكذبتم بآياتي﴾ حال كونكم لم تحيطوا بها علما أم أي شيء كنتم تعملون غير التكذيب، وفي ذلك عتابهم بأنهم لم يشتغلوا بشيء غير تكذيبهم بآيات الله من غير أن يشغلهم عنه شاغل معذر.

قوله تعالى: ﴿ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون﴾ الباء في بما ظلموا للسببية وما مصدرية أي وقع القول عليهم بسبب كونهم ظالمين، وقوله: ﴿فهم لا ينطقون﴾ تفريع على وقوع القول عليهم.

وبذلك يتأيد أن المراد بالقول الذي يقع عليهم قوله تعالى: ﴿إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ الأنعام: 144، والمعنى: ولكونهم ظالمين في تكذيبهم بالآيات لم يهتدوا إلى ما يعتذرون به فانقطعوا عن الكلام فهم لا ينطقون.

وربما فسر وقوع القول عليهم بوجوب العذاب عليهم والأنسب على هذا أن يكون المراد بالقول الواقع عليهم قضاؤه تعالى بالعذاب في حق الظالمين في مثل قوله: ﴿ألا إن الظالمين في عذاب مقيم﴾ الشورى: 45، والمعنى: ولكونهم ظالمين قضي فيهم بالعذاب فلم يكن عندهم ما ينطقون به، والوجه السابق أوجه.

وأما تفسير وقوع القول بحلول العذاب ودخول النار فبعيد من السياق لعدم ملاءمته التفريع في قوله: ﴿فهم لا ينطقون﴾.

قوله تعالى: ﴿ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم﴾ يؤمنون لما وصف في الآيات السابقة أن كثيرا من الناس في صمم وعمي من استماع كلمة الحق والنظر في آيات الله والاعتبار بهما، ثم ذكر دابة الأرض وأنه سيخرجها آية خارقة للعادة تكلمهم، ثم ذكر أنه سيحشر فوجا من كل أمة من المكذبين فيعاتبهم فتتم عليهم الحجة بقولهم بغير علم بالآيات لإعراضهم عنها وبخهم في هذه الآية ولامهم على تكذيبها بالآيات مع الجهل أنهم كانوا يرون الليل الذي يسكنون فيه بالطبع وأن هناك نهارا مبصرا يظهر لهم بها آيات السماء والأرض فلم لم يتبصروا؟.

وقوله: ﴿إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون﴾ أي في جعل الليل سكنا يسكنون فيه والنهار مبصرا يبصرون فيه آيات السماء والأرض آيات لقوم فيهم خاصة الإذعان والتصديق للحق اللائح لهم.

والمراد بالآيات العلامات والجهات الدالة فيهما على التوحيد وما يتبعه من حقائق المعارف، ومن جملة ذلك دلالتهما على أن الإنسان عليه أن يسكن فيما من شأنه أن يسكن فيه، وهو الليل الذي يضرب بحجاب ظلمته على الأبصار، ويتحرك فيما من شأنه أن يتحرك فيه وهو النهار المبصر الذي يظهر به الأشياء التي تتضمن منافع الحياة للأبصار.

فعلى الإنسان أن يسكت عما حجبته عنه ظلمة الجهل ولا يقول بغير علم ولا يكذب بما لا يحيط به علما وأن يقول ويؤمن بما تجليه له بينات الآيات التي هي كالنهر المبصرة.

قوله تعالى: ﴿ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين﴾ النفخ في الصور كناية عن إعلام الجماعة الكثيرين كالعسكر بما يجب عليهم أن يعملوا به جمعا كالحضور والارتحال وغير ذلك، والفزع كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع، والدخور الذلة والصغار.

قيل: المراد بهذا النفخ النفخة الثانية للصور التي بها تنفخ الحياة في الأجساد فيبعثون لفصل القضاء، ويؤيده قوله في ذيل الآية: ﴿وكل أتوه داخرين﴾ والمراد به حضورهم عند الله سبحانه، ويؤيده أيضا استثناؤه من شاء الله من حكم الفزع ثم قوله فيمن جاء بالحسنة: وهم من فزع يومئذ آمنون حيث يدل على أن الفزع المذكور هو الفزع في النفخة الثانية.

وقيل: المراد به النفخة الأولى التي يموت بها الأحياء بدليل قوله: ﴿ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون﴾ الزمر: 68، فإن الصعقة من الفزع وقد رتب على النفخة الأولى وعلى هذا يكون المراد بقوله: ﴿وكل أتوه داخرين﴾ رجوعهم إلى الله سبحانه بالموت.

ولا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذ مطلق النفخ أعم مما يميت أو يحيي فإن النفخ كيفما كان من مختصات الساعة، ويكون ما ذكر من فزع بعضهم وأمن بعضهم من الفزع وسير الجبال من خواص النفخة الأولى وما ذكر من إتيانهم داخرين من خواص النفخة الثانية ويندفع بذلك ما يورد على كل واحد من الوجهين السابقين.

وقد استثنى سبحانه جمعا من عباده من حكم الفزع العام الشامل لمن في السماوات والأرض، وسيجيء كلام في معنى هذا الاستثناء في الكلام على قوله الآتي: وهم من فزع يومئذ آمنون.

والظاهر أن المراد بقوله: ﴿وكل أتوه داخرين﴾ رجوع جميع من في السماوات والأرض حتى المستثنين من حكم الفزع وحضورهم عنده تعالى، وأما قوله: ﴿فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين﴾ الصافات: 127، فالظاهر أن المراد نفي إحضارهم في الجمع للحساب والسؤال لا نفي بعثهم ورجوعهم إلى الله وحضورهم عنده فآيات القيامة ناصة على عموم البعث لجميع الخلائق بحيث لا يشذ منهم شاذ.

ونسبة الدخور والذلة إلى أوليائه تعالى لا تنافي ما لهم من العزة عند الله فإن عزة العبد عند الله ذلته عنده وغناه بالله فقره إليه نعم ذلة أعدائه بما يرون لأنفسهم من العزة الكاذبة ذلة هوان.

قوله تعالى: ﴿وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون﴾ الآية بما أنها واقعة في سياق آيات القيامة محفوفة بها تصف بعض ما يقع يومئذ من الآيات وهو سير الجبال وقد قال تعالى في هذا المعنى أيضا: ﴿وسيرت الجبال فكانت سرابا﴾ النبأ: 20، إلى غير ذلك.

فقوله: ﴿وترى الجبال﴾ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد به تمثيل الواقعة، كما في قوله: ﴿وترى الناس سكارى﴾ الحج: 2، أي هذا حالها المشهودة في هذا اليوم تشاهدها لو كنت مشاهدا، وقوله: ﴿تحسبها جامدة﴾ أي تظنها الآن ولم تقم القيامة بعد جامدة غير متحركة، والجملة معترضة أو حالية.

وقوله: ﴿وهي تمر مر السحاب﴾ حال من الجبال وعاملها ترى أي تراها إذا نفخ في الصور حال كونها تسير سير السحاب في السماء.

وقوله: ﴿صنع الله الذي أتقن كل شيء﴾ مفعول مطلق لمقدر أي صنعه صنعا وفي الجملة تلويح إلى أن هذا الصنع والفعل منه تعالى تخريب للدنيا وهدم للعالم، لكنه في الحقيقة تكميل لها وإتقان لنظامها لما يترتب عليه من إنهاء كل شيء إلى غايته وإيصاله إلى وجهته التي هو موليها من سعادة أو شقاوة لأن ذلك صنع الله الذي أتقن كل شيء فهو سبحانه لا يسلب الإتقان عما أتقنه ولا يسلط الفساد على ما أصلحه ففي تخريب الدنيا تعمير الآخرة.

وقوله: ﴿إنه خبير بما تفعلون﴾ قيل: إنه تعليل لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعا محكما له تعالى فإن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب آثارها من الثواب والعقاب عليها بعد البعث والحشر وتسيير الجبال.

وأنت ترى ما فيه من التكلف وأن السياق بعد ذلك كله لا يقبله.

وقيل: إن قوله: ﴿إنه خبير بما تفعلون﴾ استئناف في حكم الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل بقوله: ﴿من جاء بالحسنة فله خير منها﴾ إلى آخر الآيتين.

وهاهنا وجه آخر مستفاد من الإمعان في سياق الآيات السابقة فإن الله سبحانه أمر فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوكل عليه ويرجع أمر المشركين وبني إسرائيل إليه فإنه إنما يستطيع هداية المؤمنين بآياته المستسلمين للحق وأما المشركون في جحودهم وبنو إسرائيل في اختلافهم فإنهم موتى لا يسمعون وصم عمي لا يسمعون ولا يهتدون إلى الحق بالنظر في آيات السماء والأرض والاعتبار بها باختيار منهم.

ثم ذكر ما سيواجههم به - وحالهم هذه الحال لا يؤثر فيهم الآيات - وأنه سيخرج لهم دابة من الأرض تكلمهم وهي آية خارقة تضطرهم إلى قبول الحق وأنه يحشر من كل أمة فوجا من المكذبين فيتم عليهم الحجة، وبالآخرة هو خبير بأفعالهم سيجزي من جاء بحسنة أو سيئة بعمله يوم ينفخ في الصور ففزعوا وأتوه داخرين.

وبالتأمل في هذا السياق يظهر أن الأنسب كون يوم ينفخ ظرفا لقوله: إنه خبير بما يفعلون وقراءة يفعلون بياء الغيبة أرجح من القراءة المتداولة على الخطاب.

والمعنى: وإنه تعالى خبير بما يفعله أهل السماوات والأرض يوم ينفخ في الصور ويأتونه داخرين يجزي من جاء بالحسنة بخير منها ومن جاء بالسيئة بكب وجوههم في النار كل مجزي بعمله، وعلى هذا تكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير﴾ العاديات: 11، وقوله: ﴿يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء﴾ المؤمنون: 16، ويكون قوله: من جاء بالحسنة إلخ، تفصيلا لقوله: ﴿إنه خبير بما يفعلون﴾ من حيث لازم الخبرة وهو الجزاء بما فعل وعمل كما أشار إليه ذيلا بقوله: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿هل تجزون﴾ إلخ، لتشديد التقريع والتأنيب.

وفي الآية أعني قوله: ﴿وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب﴾ إلخ، قولان آخران: أحدهما: حملها على الحركة الجوهرية وأن الأشياء كالجبال تتحرك بجوهرها إلى غاية وجودها وهي حشرها ورجوعها إلى الله سبحانه.

وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما في قوله: ﴿تحسبها جامدة﴾ من التلويح إلى أنها اليوم متحركة ولما تقم القيامة، وأما جعل يوم القيامة ظرفا لحسبان الجمود وللمرور كالسحاب جميعا فمما لا يلتفت إليه.

وثانيهما: حملها على حركة الأرض الانتقالية وهو بالنظر إلى الآية في نفسها معنى جيد إلا أنه أولا: يوجب انقطاع الآية عما قبلها وما بعدها من آيات القيامة وثانيا: ينقطع بذلك اتصال قوله: ﴿إنه خبير بما يفعلون﴾ بما قبله.

قوله تعالى: ﴿من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون﴾ هذه الآية وما بعدها - كما تقدمت الإشارة إليه - تفصيل لقوله: ﴿إنه خبير بما يفعلون﴾ من حيث أثره الذي هو الجزاء والمراد بقوله: ﴿من جاء بالحسنة فله خير منها﴾ أن له جزاء هو خير مما جاء به من الحسنة وذلك لأن العمل أيا ما كان مقدمة للجزاء مقصود لأجله والغرض والغاية على أي حال أفضل من المقدمة.

وقوله: ﴿وهم من فزع يومئذ آمنون﴾ ظاهر السياق أن هذا الفزع هو الفزع بعد نفخ الصور الثاني دون الأول فيكون في معنى قوله: ﴿لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾ الأنبياء: 103.

قوله تعالى: ﴿ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ يقال: كبه على وجهه فانكب أي ألقاه على وجهه فوقع عليه فنسبة الكب إلى وجوههم من المجاز العقلي والأصل فكبوا على وجوههم.

وقوله: ﴿هل تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ الاستفهام للإنكار، والمعنى ليس جزاؤكم هذا إلا نفس العمل الذي عملتموه ظهر لكم فلزمكم فلا ظلم في الجزاء ولا جور في الحكم.

والآيتان في مقام بيان ما في طبع الحسنة والسيئة من الجزاء ففيهما حكم من جاء بالحسنة فقط ومن أحاطت به الخطيئة واستغرقته السيئة وأما من حمل حسنة وسيئة فيعلم بذلك حكمه إجمالا وأما التفصيل ففي غير هذا الموضع.

قوله تعالى: ﴿إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء﴾ الآيات الثلاث - من هنا إلى آخر السورة - ختام السورة يبين فيها أن هذه الدعوة الحقة تبشير وإنذار فيه إتمام للحجة من غير أن يرجع إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمرهم شيء وإنما الأمر إلى الله وسيريهم آياته فيعرفونها ليس بغافل عن أعمالهم.

وفي قوله: ﴿إنما أمرت﴾ إلخ، تكلم عن لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو في معنى: قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، والمشار إليها بهذه الإشارة مكة المشرفة، وفي الكلام تشريفها من وجهين: إضافة الرب إليها، وتوصيفها بالحرمة حيث قال: ﴿رب هذه البلدة الذي حرمها﴾.

وفيه تعريض لهم حيث كفروا بهذه النعمة نعمة حرمة بلدتهم ولم يشكروا الله بعبادته بل عدلوا إلى عبادة الأصنام.

وقوله: ﴿و له كل شيء﴾ إشارة إلى سعة ملكه تعالى دفعا لما يمكن أن يتوهم أنه إنما يملك مكة التي هو ربها فيكون حاله حال سائر الأصنام يملك الواحد منها على عقيدتهم جزء من أجزاء العالم كالسماء والأرض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا، فيكون تعالى معبودا كأحد الآلهة واقعا في صفهم وفي عرضهم.

وقوله: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدي إليه الخلقة ويهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم.

قوله تعالى: ﴿وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين﴾ معطوف على قوله: ﴿أن أعبد﴾ أي أمرت أن أقرأ القرآن والمراد تلاوته عليهم بدليل تفريع قوله: فمن اهتدى إلخ، عليه.

وقوله: ﴿فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه﴾ أي فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه ولا يعود نفعه إلي.

وقوله: ﴿ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين﴾ أي ومن لم يهتد به بالإعراض عن ذكر ربه وهو الضلال فعليه ضلاله ووبال كفره لا علي لأني لست إلا منذرا مأمورا بذلك ولست عليه وكيلا والله هو الوكيل عليه.

فالعدول عن مثل قولنا: ﴿ومن ضل فإنما أنا من المنذرين﴾ وهو الذي كان يقتضيه الظاهر إلى قوله: ﴿فقل إنما أنا من المنذرين﴾ لتذكيره (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تقدم من العهد إليه أنه ليس إلا منذرا وليس إليه من أمرهم شيء فعليه أن يتوكل على ربه ويرجع أمرهم إليه كما قال: ﴾ فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى﴾ إلخ، فكأنه قيل: ومن ضل فقل له قد سمعت أن ربي لم يجعل علي إلا الإنذار فلست بمسئول عن ضلال من ضل.

قوله تعالى: ﴿وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون﴾ معطوف على قوله: فقل إنما أنا من المنذرين وفيه انعطاف إلى ما ذكره بعد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتوكل عليه في أمرهم من أنه سيجعل للمشركين عاقبة سوء ويقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه ويريهم من آياته ما يضطرون إلى تصديقه ثم يجزيهم بأعمالهم.

ومحصل المعنى: وقل الثناء الجميل لله تعالى فيما يجريه في ملكه حيث دعا الناس إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وهدى الذين آمنوا بآياته وأسلموا له وأما المكذبون فأمات قلوبهم وأصم آذانهم وأعمى أبصارهم فضلوا وكذبوا بآياته.

وقوله: ﴿سيريكم آياته فتعرفونها﴾ إشارة إلى ما تقدم من قوله: ﴿وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض﴾ وما بعده، وظهور قوله: آياته في العموم دليل على شموله لجميع الآيات التي تضطرهم إلى قبول الحق مما يظهر لهم قبل قيام الساعة وبعده.

وقوله: ﴿وما ربك بغافل عما تعملون﴾ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن أعمالكم معاشر العباد بعين ربك فلا يفوته شيء مما تقتضيه الحكمة قبال أعمالكم من الدعوة والهداية والإضلال وإراءة الآيات ثم جزاء المحسنين منكم والمسيئين يوم القيامة.

وقرىء عما يعملون بياء الغيبة ولعلها أرجح ومفادها تهديد المكذبين وفي قوله: ﴿ربك﴾ بإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية لجانبه.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿وإذا وقع القول عليهم﴾ الآية: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال: قم يا دابة الأرض فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أيسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة وهو الدابة الذي ذكره الله في كتابه فقال: ﴿وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض - تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون﴾.

ثم قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعداءك.

فقال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): إن العامة يقولون: إن هذه الآية إنما تكلمهم فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كلمهم الله في نار جهنم إنما هو تكلمهم من الكلام.

أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الشيعة.

وفي المجمع، وروى محمد بن كعب القرطي قال: سئل علي عن الدابة فقال: أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية.

أقول: وهناك روايات كثيرة تصف خلقتها تتضمن عجائب وهي مع ذلك متعارضة من أرادها فليراجع جوامع الحديث كالدر المنثور أو مطولات التفاسير كروح المعاني.

وفي تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما يقول الناس في هذه الآية يوم نحشر من كل أمة فوجا؟ قلت: يقولون إنه في القيامة.

قال: ليس كما يقولون إنها في الرجعة أ يحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا ويدع الباقين؟ إنما آية القيامة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا.

أقول: وأخبار الرجعة من طرق الشيعة كثيرة جدا.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿ونفخ في الصور﴾ واختلف في معنى الصور إلى أن قال وقيل: هو قرن ينفخ فيه شبه البوق وقد ورد ذلك في الحديث.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿إلا من شاء الله﴾ قيل: يعني الشهداء فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم وروي ذلك في خبر مرفوع.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿صنع الله الذي أتقن كل شيء﴾ قال: فعل الله الذي أحكم كل شيء.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿من جاء بالحسنة فله خير منها - وهم من فزع يومئذ آمنون - ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار﴾ قال: الحسنة والله ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والسيئة والله عداوته.

أقول: وهو من الجري وليس بتفسير وهناك روايات كثيرة في هذا المضمون ربما أمكن حملها على ما سيأتي.

وفي الخصال، عن يونس بن ظبيان قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد وهي الرهبة، ولكني أعبده حبا له فتلك عبادة الكرام وهو الأمن لقوله تعالى: ﴿وهم من فزع يومئذ آمنون﴾ ولقوله: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني - يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم فمن أحب الله أحبه الله ومن أحبه الله كان من الآمنين﴾.

أقول: لازم ما فيه من الاستدلال تفسير الحسنة في الآية بالولاية التي هي عبادته تعالى من طريق المحبة الموجبة لفناء إرادة العبد في إرادته وتوليه تعالى بنفسه أمر عبده وتصرفه فيه وهذا أحد معنيي ولاية علي (عليه السلام) فهو (عليه السلام) صاحب الولاية وأول فاتح لهذا الباب من الأمة وبه يمكن أن يفسر أكثر الروايات الواردة في أن المراد بالحسنة في الآية ولاية علي (عليه السلام).

وفي الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قول الله: من جاء بالحسنة فله خير منها يعني بها شهادة أن لا إله إلا الله، ومن جاء بالسيئة يعني بها الشرك يقال: هذه تنجي وهذه تردي.

أقول: وهذا المعنى مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بألفاظ مختلفة من طرق شتى وينبغي تقييد تفسير الحسنة بلا إله إلا الله بسائر الأحكام الشرعية التي هي من لوازم التوحيد وإلا لغا تشريعها وهو ظاهر.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها﴾ قال: مكة.

وفيه، عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب فقال: ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلالها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد.

فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر والبيوت فقال رسول الله إلا الإذخر: أقول: وهو مروي من طرق أهل السنة أيضا.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما كان في القرآن وما الله بغافل عما تعملون بالتاء، وما كان وما ربك بغافل عما يعملون بالياء.