الآيات 59-81

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿59﴾ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴿60﴾ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿61﴾ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿62﴾ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿63﴾ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿64﴾ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴿65﴾ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ ﴿66﴾ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ﴿67﴾ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿68﴾ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴿69﴾ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴿70﴾ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿71﴾ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ﴿72﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴿73﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿74﴾ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿75﴾ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿76﴾ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿77﴾ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ يمُ ﴿78﴾ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴿79﴾ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴿80﴾ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴿81﴾

بيان:

انتقال من القصص التي قصها سبحانه وهي نماذج من سنته الجارية في النوع الإنساني من حيث هدايته وإراءته لهم طريق سعادتهم في الحياة وإكرامه من اهتدى منهم إلى الصراط المستقيم بالاصطفاء وعظيم الآلاء وأخذه من أشرك به وأعرض عن ذكره ومكر به بعذاب الاستئصال وأليم النكال.

إلى حمده والسلام على عباده المصطفين وتقرير أنه هو المستحق للعبودية دون غيره مما يشركون ثم سرد الحديث في التوحيد وإثبات المعاد وما يناسب ذلك من متفرقات المعارف الحقة فسياق آيات السورة شبيه بما في سورة مريم من السياق على ما مر.

قوله تعالى: ﴿قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ءآلله خير أما يشركون﴾ لما قص من قصص الأنبياء وأممهم ما قص وفيها بيان سنته الجارية في الأمم الماضين وما فعل بالمؤمنين منهم من الاصطفاء ومزيد الإحسان كما في الأنبياء منهم وما فعل بالكافرين من العذاب والتدمير - ولم يفعل إلا الخير الجميل ولا جرت سنته إلا على الحكمة البالغة - انتقل منها إلى أمر نبيه بأن يحمده ويثني عليه وأن يسلم على المصطفين من عباده وقرر أنه تعالى هو المتعين للعبادة.

فهو انتقال من القصص إلى التحميد والتسليم والتوحيد وليس باستنتاج وإن كان في حكمه وإلا قيل: فقل الحمد لله (إلخ) أو فالله خير (إلخ).

فقوله: ﴿قل الحمد لله﴾ أمر بتحميده وفيه إرجاع كل حمد إليه تعالى لما تقرر بالآيات السابقة أن مرجع كل خلق وتدبير إليه وهو المفيض كل خير بحكمته والفاعل لكل جميل بقدرته.

وقوله: ﴿وسلام على عباده الذين اصطفى﴾ معطوف على ما قبله من مقول القول وفي التسليم لأولئك العباد المصطفين نفي كل ما في نفس المسلم من جهات التمانع والتضاد لما عندهم من الهداية الإلهية وآثارها الجميلة - على ما يقتضيه معنى السلام - ففي الأمر بالسلام أمر ضمني بالتهيؤ لقبول ما عندهم من الهدى وآثاره فهو بوجه في معنى قوله تعالى: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ الأنعام: 90، فافهمه.

وقوله: ﴿ءآلله خير أما يشركون﴾ من تمام الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاستفهام للتقرير ومحصل المراد أنه إذا كان الثناء كله لله وهو المصطفى لعباده المصطفين فهو خير من آلهتهم الذين يعبدونهم ولا خلق ولا تدبير لهم يحمدون عليه ولا خير بأيديهم يفيضونه على عبادهم.

قوله تعالى: ﴿أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء﴾ إلى آخر الآية، الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحدود المحوط بالحيطان وذات بهجة صفة حدائق، قال في مجمع البيان، ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه ولم يقل: ذوات بهجة لأنه أراد تأنيث الجماعة ولو أراد تأنيث الأعيان لقال: ذوات.

وأم في الآية منقطعة تفيد معنى الإضراب، و﴿من﴾ مبتدأ خبره محذوف وكذا الشق الآخر من الترديد والاستفهام للتقرير وحملهم على الإقرار بالحق والتقدير على ما يدل عليه السياق بل أمن خلق السماوات والأرض (إلخ) خير أم ما يشركون.

والأمر على هذا القياس في الآيات الأربع التالية.

ومعنى الآية: بل أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم أي لنفعكم من السماء وهي جهة العلو ماء وهو المطر فأنبتنا به أي بذلك الماء بساتين ذات بهجة ونضارة ما كان لكم أي لا تملكون وليس في قدرتكم أن تنبتوا شجرها أ إله آخر مع الله سبحانه - وهو إنكار وتوبيخ.

وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب بالنسبة إلى المشركين والنكتة فيه تشديد التوبيخ بتبديل الغيبة حضورا فإن مقام الآيات السابقة على هذه الآية مقام التكلم ممن يخاطب أحد خواصه بحضرة من عبيده المتمردين المعرضين عن عبوديته يبث إليه الشكوى وهو يسمعهم حتى إذا تمت الحجة وقامت البينة كما في قوله: ﴿ءآلله خير أما يشركون﴾ هاج به الوجد والأسف فتوجه إليهم بعد الإعراض فأخذ في حملهم على الإقرار بالحق بذكر آية بعد آية وإنكار شركهم وتوبيخهم عليه بعدولهم عنه إلى غيره وعدم علم أكثرهم وقلة تذكرهم مع تعاليه عن شركهم وعدم برهان منهم على ما يدعون.

وقوله: ﴿بل هم قوم يعدلون﴾ أي عن الحق إلى الباطل وعن الله سبحانه إلى غيره وقيل: أي يعدلون بالله غيره ويساوون بينهما.

وفي الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إلى المشركين ورجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإضراب فيه لبيان أن لا جدوى للسير في حملهم على الحق فإنهم عادلون عنه.

قوله تعالى: ﴿أمن جعل الأرض قرارا﴾ إلى آخر الآية، القرار مصدر بمعنى اسم الفاعل أي القار المستقر، والخلال جمع خلل بفتحتين وهو الفرجة بين الشيئين، والرواسي جمع راسية وهي الثابتة والمراد بها الجبال الثابتات، والحاجز هو المانع المتخلل بين الشيئين.

والمعنى: بل أمن جعل الأرض مستقرة لا تميد بكم، وجعل في فرجها التي في جوفها أنهارا وجعل لها جبالا ثابتة وجعل بين البحرين مانعا من اختلاطهما وامتزاجهما هو خير أم ما يشركون؟ والكلام في قوله: ﴿أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون﴾ كالكلام في نظيره من الآية السابقة.

قوله تعالى: ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلا ما تذكرون﴾ المراد بإجابة المضطر إذا دعاه استجابة دعاء الداعين وقضاء حوائجهم وإنما أخذ وصف الاضطرار ليتحقق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء والمسألة إذ ما لم يقع الإنسان في مضيقة الاضطرار وكان في مندوحة من المطلوب لم يتمحض منه الطلب وهو ظاهر.

ثم قيده بقوله: ﴿إذا دعاه﴾ للدلالة على أن المدعو يجب أن يكون هو الله سبحانه وإنما يكون ذلك عند ما ينقطع الداعي عن عامة الأسباب الظاهرية ويتعلق قلبه بربه وحده وأما من تعلق قلبه بالأسباب الظاهرية فقط أو بالمجموع من ربه ومنها فليس يدعو ربه وإنما يدعو غيره.

فإذا صدق في الدعاء وكان مدعوه ربه وحده فإنه تعالى يجيبه ويكشف السوء الذي اضطره إلى المسألة كما قال تعالى: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ المؤمنون: 60، فلم يشترط للاستجابة إلا أن يكون هناك دعاء حقيقة وأن يكون ذلك الدعاء متعلقا به وحده، وقال أيضا: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ البقرة: 186، وقد فصلنا القول في معنى الدعاء في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل الآية.

وبما مر من البيان يظهر فساد قول بعضهم إن اللام في ﴿المضطر﴾ للجنس دون الاستغراق فكم من مضطر يدعو فلا يجاب فالمراد إجابة دعاء المضطر في الجملة لا بالجملة.

وجه الفساد أن مثل قوله: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ وقوله: ﴿فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ يأبى تخلف الدعاء عن الاستجابة، وقوله: كم من مضطر يدعو فلا يجاب، غير مسلم إذا كان دعاء حقيقة لله سبحانه وحده كما تقدم بيانه.

على أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الإنسان يتوجه عند الاضطرار كركوب السفينة نحو ربه فيدعوه بالإخلاص فيستجاب له كقوله تعالى: ﴿وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما﴾ يونس: 12، وقوله: ﴿حتى إذا كنتم في الفلك إلى قوله وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين﴾ يونس: 22، وكيف يتصور تعلق النفس بتوجهها الغريزي الفطري بأمر لا اطمئنان لها به فما قضاء الفطرة في ذلك إلا كقضائها عند إدراك حاجتها الوجودية إلى من يوجدها ويدبر أمرها أن هناك أمرا يرفع حاجتها وهو الله سبحانه.

فإن قلت: نحن كثيرا ما نتوسل في حوائجنا من الأسباب الظاهرية بما لا نقطع بفعلية تأثيره في رفع حاجتنا وإنما نتعلق به رجاء أن ينفعنا إن نفع.

قلت: هذا توسل فكري مبدؤه الطمع والرجاء وهو غير التوسل الغريزي الفطري نعم في ضمنه نوع من التوجه الغريزي الفطري وهو التسبب بمطلق السبب ومطلق السبب لا يتخلف، فافهم.

وظهر أيضا فساد قول من قال: المراد بالمضطر إذا دعاه المذنب إذا استغفره فإن الله يغفر له وهو إجابته.

وفيه أن إشكال الاستغراق بحاله فما كل استغفار يستتبع المغفرة ولا كل مستغفر يغفر له.

على أنه لا دليل على تقييد إطلاق المضطر بالمذنب العاصي.

وذكر بعضهم: أن الاستغراق بحاله لكن ينبغي تقييد الإجابة بالمشية كما وقع ذلك في قوله تعالى: ﴿فيكشف ما تدعون إليه إن شاء﴾ الأنعام: 41.

وفيه أن الآية واقعة في سياق لا تصلح معه لتقييد الإجابة في آية المضطر وهو قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء﴾ فالساعة من القضاء المحتوم لا يتعلق بكشفها طلب حقيقي، وأما العذاب الإلهي فإن طلب كشفه بتوبة وإيمان حقيقي فإن الله يكشفه كما كشف عن قوم يونس وإن لم يكن كذلك بل احتيالا للنجاة منه فلا لعدم كونه طلبا حقيقيا بل مكرا في صورة الطلب كما حكاه الله عن فرعون لما أدركه الغرق ﴿قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾ يونس 91، وحكى عن أقوام آخرين أخذهم بالعذاب: ﴿قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين﴾ الأنبياء: 15.

وبالجملة فمورد قوله: ﴿فيكشف ما تدعون إليه إن شاء﴾ لما كان مما يمكن أن يكون الطلب فيه حقيقيا أو غير حقيقي كان من اللازم تقييد الكشف والإجابة فيه بالمشية فيكشف الله عنهم إن شاء وذلك في مورد حقيقة الطلب والإيمان ولا يكشف إن لم يشأ وهذا غير مورد آية المضطر وسائر آيات إجابة الدعوة الذي يتضمن حقيقة الدعاء من الله سبحانه وحده.

وقوله: ﴿ويجعلكم خلفاء الأرض﴾ الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضية التي جعلها الله للإنسان يتصرف بها في الأرض وما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ البقرة: 30.

وذلك أن تصرفاته التي يتصرف بها في الأرض وما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار ويسأل الله كشفه لا محالة شيء من الأشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها وتغلق عليه باب الحياة والبقاء وما يتعلق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته.

ويتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء والمسألة في قوله: ﴿إذا دعاه﴾ على الأعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: ﴿وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ إبراهيم: 34، وقوله: ﴿يسأله من في السماوات والأرض﴾ الرحمن: 29، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان ورزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه وكشف السوء الذي اضطره عنه.

وقيل: المعنى ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض تسكنون مساكنهم وتتصرفون فيها بعدهم هذا.

وما قدمناه من المعنى أنسب منه للسياق.

وقيل: المعنى: ويجعلكم خلفاء من الكفار بنزول بلادهم وطاعة الله تعالى بعد شركهم وعنادهم.

وفيه أن الخطاب في الآية كسائر الآيات الخمس التي قبلها للكفار لا للمؤمنين كما عليه بناء الوجه.

وقوله: ﴿قليلا ما تذكرون﴾ خطاب توبيخي للكفار وقرىء ﴿يذكرون﴾ بالياء للغيبة وهو أرجح لموافقته ما في ذيل سائر الآيات الخمس كقوله: ﴿بل هم قوم يعدلون﴾ ﴿بل أكثرهم لا يعلمون﴾ وغيرهما، فإن الخطاب فيها جميعا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطريق الالتفات كما مر بيانه.

قوله تعالى: ﴿أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته﴾ إلخ، والمراد بظلمات البر والبحر ظلمات الليالي في البر والبحر ففيه مجاز عقلي، والمراد بإرسال الرياح بشرا إرسالها مبشرات بالمطر قبيل نزوله والرحمة المطر، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض﴾ إلخ، بدء الخلق إيجاده ابتداء لأول مرة وإعادته إرجاعه إليه بالبعث وتبكيت المشركين بالبدء والإعادة مع إنكارهم البعث كما سيذكره بقوله: ﴿وقال الذين كفروا﴾ إلخ، بناء على ثبوت المعاد بالأدلة القاطعة في كلامه فأخذ كالمسلم ثم استدرك إنكارهم له أو شكهم فيه في الآيات التالية.

وقيل: المراد ببدء الخلق ثم إعادته إيجاد الواحد من نوعه ثم إهلاكه وإيجاد نظيره بعده وبالجملة إيجاد المثل بعد المثل فلا يرد أن المشركين منكرون للمعاد فكيف يحتج به عليهم.

هذا وهو بعيد من ظاهر الآية.

وما تتضمنه الآية من لطائف الحقائق القرآنية يفيد أن لا بطلان في الوجود مطلقا بل ما أوجده الله تعالى بالبدء سيرجع إليه بالإعادة وما نشاهده من الهلاك فيها فقدان منا له بعد وجدانه.

وأما ما أجمع عليه المتكلمون من امتناع إعادة المعدوم في بعض الموجودات كالأعراض واختلفوا في جواز إعادة بعض آخر كالجواهر، لا ارتباط له بمسألة البعث على ما تقرره الآية، فإن البعث ليس من باب إعادة المعدوم حتى يمتنع بامتناع إعادته لو امتنعت بل البعث عود الخلق ورجوعه وهو خلق من غير بطلان إلى ربه المبدىء له.

وقوله: ﴿ومن يرزقكم من السماء والأرض﴾ إشارة إلى ما وقع من تدبيره لأمرهم بين البدء والعود وهو رزقهم بأسباب سماوية كالأمطار وأسبابها والأرضية كعامة ما يتغذى به الإنسان من الأرضيات.

وقوله: ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ لما ذكر سبحانه فصولا مشتملة على عامة الخلق والتدبير مع الإشارة إلى ارتباط التدبير بعضه ببعض وارتباط الجميع إلى الخلق وعاد الخلق والتدبير بذلك أمرا واحدا منتسبا إليه قائما به تعالى وأثبت بذلك أنه تعالى هو رب كل شيء وحده لا شريك له وكان لازم ذلك إبطال ألوهية الآلهة التي يدعونها من دون الله.

وذلك أن الألوهية وهي استحقاق العبادة تتبع الربوبية التي هي تدبير عن ملك فالعبادة على ما يتداولونها إما لتكون شكرا للنعمة أو اتقاء للنقمة وعلى أي حال ترتبط بالتدبير الذي هو من شئون الربوبية -.

وكان إبطال ألوهية الآلهة من دون الله هو الغرض من الفصول الموردة في هذه الآيات كما يدل على ذلك قوله بعد إيراد كل واحد من الفصول: ﴿أءله مع الله﴾.

أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه من ألوهية آلهتهم ليظهر بانقطاعهم أنهم مجازفون في دعواهم إذ لو استدلوا على ألوهيتها بشيء كان من الواجب أن ينسبوا إليها شيئا من تدبير العالم والحال أن جميع الخلق والتدبير له تعالى وحده.

قوله تعالى: ﴿قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون﴾ لما أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إبطال ألوهية آلهتهم بانتساب الخلق والتدبير إليه تعالى وحده أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه أمره ثانيا أن يواجههم ببرهان آخر على بطلان ألوهية آلهتهم وهو عدم علمهم بالغيب وعدم شعورهم بالساعة وأنهم أيان يبعثون مع أنه لا يعلم أحد ممن في السماوات والأرض - ومنهم آلهتهم الذين هم الملائكة والجن وقديسو البشر - الغيب وما يشعرون أيان يبعثون، ولو كانوا آلهة لهم تدبير أمر الخلق - ومن التدبير الجزاء يوم البعث - لعلموا بالساعة.

وقد ظهر بهذا البيان أن قوله: ﴿لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله﴾ برهان مستقل على بطلان ألوهية آلهتهم واختصاص الألوهية به تعالى وحده وأن قوله: ﴿وما يشعرون أيان يبعثون﴾ من عطف أوضح أفراد الغيب عليه وأهمها علما بالنسبة إلى أمر التدبير.

وظهر أيضا أن ضميري الجمع في ﴿وما يشعرون أيان يبعثون﴾ لمن في السماوات لعدم تمام البيان بدونه.

فقول بعضهم: إن الضمير للمشركين وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين الضمائر الآتية الراجعة إليهم قطعا.

فيه أنه ينافي ما سيقت له الآية الكريمة من البيان كما قدمنا الإشارة إليه والتفكيك بين الضمائر مع وجود القرينة لا بأس به.

قوله تعالى: ﴿بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون﴾ ادارك في الأصل تدارك والتدارك تتابع أجزاء الشيء بعضها بعد بعض حتى تنقطع ولا يبقى منها شيء، ومعنى تدارك علمهم في الآخرة أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في غيرها حتى نفد علمهم فلم يبق منه شيء يدركون به أمر الآخرة على حد قوله تعالى: ﴿فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم﴾ النجم: 30 و﴿عمون﴾ جمع عمي.

لما انتهى احتجاجه تعالى إلى ذكر عدم شعور أحد غيره تعالى بوقت البعث وتبكيت المشركين بذلك رجع إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكره أنهم في معزل عن الخطاب بذلك إذ لا خبر لهم عن شيء عن أمور الآخرة فضلا عن وقت قيام الساعة وذلك أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في جهات الحياة الدنيا فهم في جهل مطلق بالنسبة إلى أمور الآخرة بل هم في شك من الآخرة يرتابون في أمرها كما يظهر من احتجاجاتهم على نفيها المبنية على الاستبعاد بل هم منها عمون والله أعمى قلوبهم عن التصديق بها والاعتقاد بوجودها.

وقد ظهر بهذا البيان أن تكرر كلمة الإضراب لبيان مراتب الحرمان من العلم بالآخرة وأنهم في أعلاها، فقوله: ﴿بل ادارك علمهم في الآخرة﴾ أي لا علم لهم بها كأنها لم تقرع سمعهم، وقوله: ﴿بل هم في شك منها﴾ أي أنه قرع سمعهم خبرها وورد قلوبهم لكنهم ارتابوا ولم يصدقوا بها، وقوله: ﴿بل هم منها عمون﴾ أي إنهم لم ينقطعوا عن الاعتقاد بها من عند أنفسهم وباختيار منهم بل الله سبحانه أعمى أبصار قلوبهم فصاروا عمين فهيهات أن يدركوا من أمرها شيئا.

وقيل: المراد بتدارك علمهم تكامله وبلوغه حد اليقين لتكامل الحجج الدالة على حقية البعث والجملة مسوقة للتهكم، وفيه أنه لا يلائم ما يتبعه من الإضراب بالشك والعمى.

قوله تعالى: ﴿وقال الذين كفروا أ إذا كنا ترابا وآباؤنا أ إنا لمخرجون - إلى قوله - الأولين﴾ حكاية حجة منهم لنفي البعث مبنية على الاستبعاد أي كيف يمكن أن نخرج من الأرض بشرا تامين كما نحن اليوم وقد متنا وكنا ترابا نحن وآباؤنا كذلك؟.

وقوله: ﴿لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل﴾ حجة أخرى منهم مبنية على الاستبعاد أي لقد وعدنا هذا وهو البعث بعد الموت نحن وآباؤنا وعدوه قبل أن يعدنا هذا النبي والذين وعدوا قبلا هم الأنبياء الماضون فهو وعد قديم لم نزل نوعد به ولو كان خبرا صادقا ووعدا حقا لوقع إلى هذا اليوم وإذ لم يقع فهو من الخرافات التي اختلقها الأولون وكانوا مولعين باختلاق الأوهام والخرافات والإصغاء إليها.

قوله تعالى: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين﴾ إنذار وتخويف لهم على إنكارهم وعد الأنبياء بالبعث بأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة المجرمين المكذبين للأنبياء المنذرين لهم بالبعث فإن في النظر إلى عاقبة أمرهم على ما تدل عليه مساكنهم الخربة وديارهم الخالية كفاية للمعتبرين من أولي الأبصار، وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم.

كذا قيل.

ويمكن أن تقرر الآية حجة تدل على المعاد وتقريبها أن انتهاء عاقبة أمر المجرمين إلى عذاب الاستئصال دليل على أن الإجرام والظلم من شأنه أن يؤاخذ عليه وأن العمل إحسانا كان أو إجراما محفوظ على عامله سيحاسب عليه وإذ لم تقع عامة هذا الحساب والجزاء - وخاصة على الأعمال الصالحة - في الدنيا فذلك لا محالة في نشأة أخرى وهي الدار الآخرة.

فتكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار﴾ ص: 28، ويؤيد هذا التقرير قوله: ﴿عاقبة المجرمين﴾ ولو كان المراد تهديد مكذبي الرسل وتخويفهم كان الأنسب أن يقال: عاقبة المكذبين، كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ﴿ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون﴾ أي لا يحزنك إصرارهم على الكفر والجحود ولا يضق صدرك من مكرهم لإبطال دعوتك وصدهم الناس عن سبيل الله فإنهم بعين الله وليسوا بمعجزيه وسيجزيهم بأعمالهم.

فالآية مسوقة لتطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله: ﴿ولا تكن في ضيق﴾ إلخ، معطوف على ما قبله عطف التفسير.

قوله تعالى: ﴿ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ الظاهر أن المراد بالوعد الوعد بعذاب المجازاة أعم من الدنيا والآخرة، والسياق يؤيد ذلك والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون﴾ قالوا: إن اللام في ﴿ردف لكم﴾ مزيدة للتأكيد، كالباء في قوله: ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ البقرة: 198، والمعنى تبعكم ولحق بكم، وقيل: إن ردف مضمن معنى فعل يعدى باللام.

والمراد ببعض الذي يستعجلونه هو عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة فإنهم كانوا يستعجلون إنجاز ما وعدهم الله من الحكم الفصل، وهو ملازم لعذابهم، وعذابهم في الدنيا بعض العذاب الذي يستعجلونه باستنجاز الوعد، ولعل مراد الآية به عذاب يوم بدر كما قيل.

قالوا: إن ﴿عسى ولعل﴾ من الله تعالى واجب لأن حقيقة الترجي مبنية على الجهل ولا يجوز عليه تعالى ذلك فمعنى قوله: ﴿عسى أن يكون ردف لكم﴾ سيردفكم ويأتيكم العذاب محققا.

وفيه أن معنى الترجي والتمني ونحوهما كما جاز أن يقوم بنفس المتكلم يجوز أن يقوم بالمقام أو بالسامع أو غيرهما وهو في كلامه تعالى قائم بغير المتكلم من المقام وغيره وما في الآية من الجواب لما أرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان الرجاء المدلول عليه بكلمة عسى قائما بنفسه الشريفة والمعنى: قل أرجو أن يكون ردف لكم العذاب.

وفي تفسير أبي السعود، وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها، وإنما يطلقونها إظهارا للوقار، وإشعارا بأن الرمز من أمثالهم كالتصريح ممن عداهم وعلى ذلك مجرى وعد الله تعالى ووعيده انتهى وهو وجه وجيه.

ومعنى الآية: قل لهؤلاء السائلين عن وقت الوعد: أرجو أن يكون تبعكم بعض الوعد الذي تستعجلونه وهو عذاب الدنيا الذي يقربكم من عذاب الآخرة ويؤديكم إليه، وفي التعبير بقوله: ﴿ردف لكم﴾ إيماء إلى قربه.

قوله تعالى: ﴿وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون﴾ معنى الآية في نفسها ظاهر ووقوعها في سياق التهديد والتخويف يفيد أن تأخيره تعالى العذاب عنهم مع استحقاقهم ذلك إنما هو فضل منه عليهم يجب عليهم شكره عليه لكنهم لا يشكرونه ويسألون تعجيله.

قوله تعالى: ﴿وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون﴾ أي إن تأخير العذاب ليس عن جهل منه تعالى بحالهم وما يستحقونه بالكفر والجحود فإنه يعلم ما تستره وتخفيه صدورهم وما يظهرونه.

ثم أكد ذلك بأن كل غائبة - وهي ما من شأنه أن يغيب ويخفى في أي جهة من جهات العالم كان - مكتوب محفوظ عنده تعالى وهو قوله: ﴿وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين﴾.

قوله تعالى: ﴿إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل - إلى قوله - العزيز العليم﴾ تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتمهيد لما سيذكره من حقية دعوته وتقوية لإيمان المؤمنين به، وبهذا الوجه يتصل بقوله قبلا: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ إلخ المشعر بحقية دعوته.

فقوله: ﴿إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون﴾ يشير إلى ما يقصه القرآن من قصص الأنبياء ويبين الحق فيما اختلفوا فيه من أمرهم ومنه أمر المسيح (عليه السلام) ويبين الحق فيما اختلفوا فيه من المعارف والأحكام.

وقوله: ﴿وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين﴾ يشير إلى أنه يهدي المؤمنين بما قصه على بني إسرائيل إلى الحق وأنه رحمة لهم تطمئن به قلوبهم ويثبت الإيمان بذلك في نفوسهم.

وقوله: ﴿إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم﴾ إشارة إلى أن القضاء بينهم إلى الله فهو ربه العزيز الذي لا يغلب في أمره العليم لا يجهل ولا يخطىء في حكمه فهو القاضي بينهم بحكمه فلترض نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بربه العزيز العليم قاضيا حكما ولترجع الأمر إليه كما ينبغي أن تفعل مثل ذلك في حق المشركين ولا تحزن عليهم ولا تكون في ضيق مما يمكرون.

قوله تعالى: ﴿فتوكل على الله إنك على الحق المبين﴾ تفريع على مجموع ما أمر به قبال كفر المشركين واختلاف بني إسرائيل أي إن أمرهم جميعا إلى الله لا إليك فاتخذه وكيلا فهو كافيك ولا تخافن شيئا إنك في أمن من الحق.

قوله تعالى: ﴿إنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون﴾ تعليل للأمر بالتوكل أي إنما أمرناك بالتوكل على الله في أمر إيمانهم وكفرهم لأنهم موتى وليس في وسعك أن تسمع الموتى دعوتك وإنهم صم لا يسمعون وعمي ضالون لا تقدر على إسماع الصم إذا ولوا مدبرين - ولعله قيد عدم إسماع الصم بقوله: ﴿إذا ولوا مدبرين﴾ لأنهم لو لم يكونوا مدبرين لأمكن تفهيمهم بنوع من الإشارة - ولا على هداية العمي عن ضلالتهم، وإنما الذي تقدر عليه هو أن تسمع من يؤمن بآياتنا الدالة علينا وتهديهم فإنهم لإذعانهم بتلك الحجج الحقة مسلمون لنا مصدقون بما تدل عليه.

وقد تبين بهذا البيان أولا أن المراد بالإسماع الهداية.

وثانيا: أن المراد بالآيات الحجج الدالة على التوحيد وما يتبعه من المعارف الحقة.

وثالثا: أن من تعقل الحجج الحقة من آيات الآفاق والأنفس بسلامة من العقل ثم استسلم لها بالإيمان والانقياد ليس هو من الموتى ولا ممن ختم الله على سمعه وبصره.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿وسلام على عباده الذين اصطفى﴾ قال: هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: ورواه أيضا في جمع الجوامع، عنهم (عليهم السلام) مرسلا مضمرا، وقد عرفت فيما تقدم من البيان في ذيل الآية أن الذي يعطيه السياق أن المراد بهم بحسب مورد الآية الأنبياء المنعمون بنعمة الاصطفاء وقد قص الله قصص جمع منهم فقوله (عليه السلام) - لو صحت الرواية - هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبيل الجري والانطباق.

ونظيرها ما رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الكتب عن ابن عباس،: في الآية قال: هم أصحاب محمد فهو - لو صحت الرواية - إجراء منه وتطبيق.

ومنه يظهر ما فيما رواه أيضا عن عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري: في الآية قال: نزلت في أصحاب محمد خاصة، فلا نزول ولا اختصاص.

وفي تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: ﴿بل هم قوم يعدلون﴾ قال: عن الحق.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه﴾ الآية،: حدثني أبي عن الحسن بن علي بن فضال عن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت في القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا إلى الله عز وجل فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض.

أقول: والرواية أيضا من الجري والآية عامة.

وفي الدر المنثور، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه لأن الله تعالى يقول: ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه - ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض﴾ فالخلافة من الله عز وجل فإن كان خيرا فهو يذهب به وإن كان شرا فهو يؤخذ به، عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به.

أقول: الرواية لا تخلو من شيء فقد تقدم أن المراد بالخلافة في الآية - على ما يشهد به السياق - الخلافة الأرضية المقدرة لكل إنسان وهو السلطة على ما في الأرض بأنواع التصرف دون الخلافة بمعنى الحكومة على الأمة بإدارة رحى مجتمعهم.

ومع الغض عن ذلك فمتن الرواية لا يخلو عن تدافع فإن كان المراد بكون الخلافة من الله تعالى أن سلطانه على الناس بتقدير من الله وبعبارة أخرى انتسابها التكويني إلى الله سبحانه كما ورد في ملك نمرود من قوله تعالى: ﴿أن آتاه الله الملك﴾ البقرة: 258، وقوله حكاية عن فرعون: ﴿أليس لي ملك مصر﴾ الزخرف: 51، فمن البين أن الخلافة بهذا المعنى لا تستتبع وجوب الطاعة وحرمة المخالفة وإلا كان نقضا لأصل الدعوة الدينية وإيجابا لطاعة أمثال نمرود وفرعون وكم لها من نظير، وإن كان المراد به الجعل الوضعي الديني وبعبارة أخرى انتسابها التشريعي إلى الله تعالى ثم وجبت طاعته فيما يأمر به وإن كان معصية كان ذلك نقضا صريحا للأحكام، وإن كان الواجب طاعته في غير معصية الله لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق﴾ جازت مفارقة الجماعة في الجملة وهو يناقض صدر الرواية.

ونظير الإشكال يجري في قوله ذيلا: ﴿عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به﴾ فلو كان المراد مما أمر الله به طاعته مقام الخلافة وإن كان في معصية كان نقضا صريحا لتشريع الأحكام وإن كان المراد به طاعة الله وإن استلزم معصية مقام الخلافة كان ناقضا لصدر الرواية.

وقد اتضح اليوم بالأبحاث الاجتماعية أن إمضاء حكومة من لا يحترم القوانين المقدسة الجارية لا يرضى به مجتمع عاقل رشيد فمن الواجب تنزيه ساحة مشرع الدين عن ذلك، والقول بأن مصلحة حفظ وحدة الكلمة واتفاق الأمة أهم من حفظ بعض الأحكام بالمفارقة معناه جواز هدم حقيقة الدين لحفظ اسمه.

وفي الدر المنثور، أيضا أخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية.

قلت: وما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال: وكنت متكئا فجلست وقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجلي علي ألم يقل الله: ﴿ولقد رآه بالأفق المبين﴾ ﴿ولقد رآه نزلة أخرى﴾ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: جبرئيل.

لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض.

قالت: ألم تسمع الله عز وجل يقول: ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار - وهو اللطيف الخبير﴾ أولم تسمع الله يقول: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا إلى قوله علي حكيم﴾.

ومن زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله جل ذكره يقول: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس﴾.

قالت: ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول: ﴿قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله﴾.

أقول: وفي متن الرواية شيء أما آيات الرؤية فإنما تنفي رؤية الحس دون رؤية القلب وهي من الرؤية وراء الإيمان الذي هو الاعتقاد وقد أشبعنا الكلام فيها في الموارد المناسبة له.

وأما قوله تعالى: ﴿يا أيها الرسول بلغ﴾ الآية فقد أوضحنا في تفسير الآية أنها خاصة غير عامة ولو فرضت عامة فإنما تدل على أن كل ما أنزل إليه مما فيه رسالة وجب عليه تبليغه ومن الجائز أن ينزل إليه ما يختص علمه به (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكتمه عن غيره.

وأما قوله: ﴿قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله﴾ فلا يدل إلا على اختصاص علم الغيب بالذات به تعالى كسائر آيات اختصاص الغيب به، ولا ينفي علم الغير به بتعليم منه تعالى كما يشير إليه قوله: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول﴾ الجن: 27، وقد حكى الله سبحانه نحوا من هذا الإخبار عن المسيح (عليه السلام) إذ قال: ﴿وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون﴾ آل عمران: 49، ومن المعلوم أن القائل إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخبر الناس بما يكون في غد لا ينفي كون ذلك بتعليم من الله له.

وقد تواترت الأخبار على تفرقها وتنوعها من طرق الفريقين على إخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) بكثير من الحوادث المستقبلة.