الآيات 15-44

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿15﴾ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴿16﴾ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿17﴾ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿18﴾ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴿19﴾ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴿20﴾ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿21﴾ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴿22﴾ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴿23﴾ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴿24﴾ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴿25﴾ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿26﴾ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿27﴾ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴿28﴾ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴿29﴾ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿30﴾ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴿31﴾ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴿32﴾ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴿33﴾ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴿34﴾ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴿35﴾ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴿36﴾ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴿37﴾ قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴿38﴾ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴿39﴾ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴿40﴾ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴿41﴾ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا مَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴿42﴾ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴿43﴾ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿44﴾

بيان:

نبذة من قصص داود وسليمان (عليهما السلام) وفيها شيء من عجائب أخبار سليمان بما آتاه الله من الملك.

قوله تعالى: ﴿ولقد آتينا داود وسليمان علما﴾ إلخ، في تنكير العلم إشارة إلى تفخيم أمره، ومما أشير فيه إلى علم داود من كلامه تعالى قوله: ﴿وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب﴾ (صلى الله عليه وآله وسلم): 20.

ومما أشير فيه إلى علم سليمان قوله: ﴿ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما﴾ الأنبياء: 79، وذيل الآية يشملهما جميعا.

وقوله: ﴿وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين﴾ المراد بالتفضيل إما التفضيل بالعلم على ما ربما يؤيده سياق الآية، وإما التفضيل بمطلق ما خصهما الله به من المواهب كتسخير الجبال والطير لداود وتليين الحديد له وإيتائه الملك، وتسخير الجن والوحش والطير وكذا الريح لسليمان وتعليمه منطق الطير وإيتائه الملك على ما يستدعيه إطلاق التفضيل.

والآية أعني قوله: ﴿وقالا الحمد لله﴾ إلخ، على أي حال بمنزلة حكاية اعترافهما على التفضيل الإلهي فيكون كالشاهد على المدعى الذي تشير إليه بشارة صدر السورة أن الله سبحانه سيخص المؤمنين بما تقر به عيونهم ومثلها ما سيأتي من اعترافات سليمان في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: ﴿وورث سليمان داود﴾ إلخ، أي ورثه ماله وملكه، وأما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة والعلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم وإن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري الاكتسابي والعلم الذي يختص به الأنبياء والرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر ولا من غير نبي.

وقوله: ﴿وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير﴾ ظاهر السياق أنه (عليه السلام) يباهي عن نفسه وأبيه وهو منه (عليه السلام) تحديث بنعمة الله كما قال تعالى: ﴿وأما بنعمة ربك فحدث﴾ الضحى: 11، وأما إصرار بعض المفسرين على أن الضمير في قوله: ﴿علمنا﴾ و﴿أوتينا﴾ لنفسه لا له ولأبيه على ما هو عادة الملوك والعظماء في الإخبار عن أنفسهم - فإنهم يخبرون عنهم وعن خدمهم وأعوانهم رعاية لسياسة الملك - فالسياق السابق لا يساعد عليه كل المساعدة.

والمراد بالناس ظاهر معناه وهو عامة المجتمعين من غير تميز لبعضهم من بعض وقول بعضهم إن المراد بهم عظماء أهل مملكته أو علماؤهم غير سديد.

والمنطق والنطق على ما نتعارفه هو الصوت أو الأصوات المؤلفة الدالة بالوضع على معان مقصودة للناطق المسماة كلاما ولا يكاد يقال - على ما ذكره الراغب - إلا للإنسان لكن القرآن الكريم يستعمله في معنى أوسع من ذلك وهو دلالة الشيء على معنى مقصود لنفسه، قال تعالى: ﴿وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء﴾ حم السجدة: 21، وهو إما من باب تحليل المعنى كما يستعمله القرآن في أغلب المعاني والمفاهيم المقصورة في الاستعمالات على المصاديق الجسمانية المادية كالرؤية والنظر والسمع واللوح والقلم والعرش والكرسي وغيرها، وإما لأن للفظ معنى أعم واختصاصه بالإنسان من باب الانصراف لكثرة الاستعمال.

وكيف كان فمنطق الطير هو ما تدل به الطير بعضها على مقاصدها، والذي نجده عند التأمل في أحوالها الحيوية هو أن لكل صنف أو نوع منها أصواتا ساذجة خاصة في حالاتها الخاصة الاجتماعية حسب تنوع اجتماعاتها كحال الهياج للسفاد وحال المغالبة والغلبة وحال الوحشة والفزع وحال التضرع أو الاستغاثة إلى غير ذلك ونظير الطير في ذلك سائر الحيوان.

لكن لا ينبغي الارتياب في أن المراد بمنطق الطير في الآية معنى أدق وأوسع من ذلك.

أما أولا: فلشهادة سياق الآية على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن أمر اختصاصي ليس في وسع عامة الناس أن ينالوه وإنما ناله بعناية خاصة إلهية، وهذا المقدار المذكور من منطق الطير مما يسع لكل أحد أن يطلع عليه ويعرفه.

وأما ثانيا: فلأن ما حكاه الله تعالى في الآيات التالية من محاورة سليمان والهدهد يتضمن معارف عالية متنوعة لا يسع لما نجده عند الهدهد من الأصوات المعدودة أن تدل عليها بتميز لبعضها من بعض ففي كلام الهدهد ذكر الله سبحانه ووحدانيته وقدرته وعلمه وربوبيته وعرشه العظيم وذكر الشيطان وتزيينه الأعمال والهدى والضلال وغير ذلك، وفيه ذكر الملك والعرش والمرأة وقومها وسجدتهم للشمس، وفي كلام سليمان أمره بالذهاب بالكتاب وإلقائه إليهم ثم النظر فيما يرجعون، وهذه كما لا يخفى على الباحث في أمر المعاني المتعمق فيها معارف جمة لها أصول عريقة يتوقف الوقوف عليها على ألوف وألوف من المعلومات، وأنى تفي على إفادة تفصيلها أصوات ساذجة معدودة.

على أنه لا دليل على أن كل ما يأتي بها الحيوان في نطقه من الأصوات أو خصوصيات الصوت يفي حسنا بإدراكه أو تمييزه، ويؤيده ما نقل من قول النملة في الآيات التالية وهو من منطق الحيوان قطعا ولا صوت للنملة يناله سمعنا ويؤيده أيضا ما يراه علماء الطبيعة اليوم أن الذي يناله سمع الإنسان من الصوت عدد خاص من الارتعاش المادي وهو ما بين ستة عشر ألفا إلى اثنين وثلاثين ألفا في الثانية، وأن الخارج من ذلك في جانبي القلة والكثرة لا يقوى عليه سمع الإنسان وربما ناله سائر الحيوان أو بعضها.

وقد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان من عجيب الفهم ولطيف الإدراك عند أنواع من الحيوان كالفرس والكلب والقرد والدب والزنبور والنملة وغيرها على أمور لا يكاد يعثر على نظائرها عند أكثر أفراد الإنسان.

وقد تبين بما مر أن ظاهر السياق أن للطير منطقا علمه الله سليمان، وظهر به فساد قول من قال إن نطق الطير كان معجزة لسليمان وأما هي في نفسها فليس لها نطق هذا.

وقوله: ﴿وأوتينا من كل شيء﴾ أي أعطينا من كل شيء و﴿كل شيء﴾ وإن كان شاملا لجميع ما يفرض موجودا - لأن مفهوم شيء من أعم المفاهيم وقد دخل عليه كلمة الاستغراق - لكن لما كان المقام مقام التحديث بالنعمة ولا كل نعمة بل النعم التي يمكن أن يؤتاها الإنسان فيتنعم بها تقيد به معنى كل شيء وكان معنى الجملة: وأعطانا الله من كل نعمة يمكن أن يعطاها الإنسان فيتنعم بها مقدارا معتدا به كالعلم والنبوة والملك والحكم وسائر النعم المعنوية والمادية.

وقوله: ﴿إن هذا لهو الفضل المبين﴾ شكر وتأكيد للتحديث بالنعمة من غير عجب ولا كبر واختيال لإسناده الجميع إلى الله بقوله: ﴿علمنا﴾ و﴿أوتينا﴾ واحتمل بعضهم أن تكون الجملة من كلام الله سبحانه لا من كلام سليمان والسياق يأباه.

قوله تعالى: ﴿وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون﴾ الحشر هو جمع الناس وإخراجهم لأمر بإزعاج والوزع المنع وقيل الحبس، والمعنى كما قيل: وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يمنعون من التفرق واختلاط كل جمع بآخر برد أولهم إلى آخرهم وحبس كل في مكانه.

ويستفاد من الآية أنه كان له جنود من الجن والطير يسيرون معه كجنوده من الإنس.

وكلمة الحشر ووصف المحشورين بأنهم جنود، وسياق الآيات التالية كل ذلك دليل على أن جنوده كانوا طوائف خاصة من الجن والإنس والطير سواء كانت ﴿من﴾ في الآية للتبعيض أو للبيان.

وقد أغرب في التفسير الكبير، فزعم أن الآية تدل على أن جميع الجن والإنس والطير كانوا جنوده وقد ملك الأرض كلها وأن الله تعالى جعل الطير في زمانه عقلاء مكلفين ثم عادت بعد زمانه على ما كانت عليه قبله وقال بمثله في النملة التي تكلمت، قال في تفسير الآية: والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده، ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف، فلذلك قلنا: إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره.

ووجوه التحكم فيه غنية عن البيان.

وتقديم الجن في الذكر على الإنس والطير لكون تسخيرهم ودخولهم تحت الطاعة عجيبا، وذكر الإنس بعده دون الطير مع كون تسخيرها أيضا عجيبا رعاية لأمر المقابلة بين الجن والإنس.

قوله تعالى: ﴿حتى إذا أتوا على واد النمل﴾ الآية، ﴿حتى﴾ غاية لما يفهم من الآية السابقة، وضمير الجمع لسليمان وجنوده، وتعدية الإتيان بعلى قيل: لكون الإتيان من فوق، ووادي النمل واد بالشام على ما قيل، وقيل في أرض الطائف، وقيل: في أقصى اليمن، والحطم الكسر.

والمعنى: فلما سار سليمان وجنوده حتى أتوا على وادي النمل قالت نملة مخاطبة لسائر النمل: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يكسرنكم سليمان وجنوده أي لا يطأنكم بأقدامهم وهم لا يشعرون.

وفيه دليل على أنهم كانوا يسيرون على الأرض.

قوله تعالى: ﴿فتبسم ضاحكا من قولها﴾ إلى آخر الآية، قيل: التبسم دون الضحك، وعلى هذا فالمراد بالضحك هو الإشراف عليه مجازا.

ولا منافاة بين قوله (عليه السلام): ﴿علمنا منطق الطير﴾ وبين فهمه كلام النملة إذ لم ينف فهمه كلام سائر الحيوان أو كلام بعضها كالنملة.

وقد تسلم جمع منهم دلالة قوله: ﴿علمنا منطق الطير﴾ على نفي ما عداه فتكلفوا في توجيه فهمه (عليه السلام) قول النملة تارة بأنه كانت قضية في واقعة، وأخرى بتقدير أنها كانت نملة ذات جناحين وهي من الطير، وثالثة بأن كلامها كان من معجزات سليمان (عليه السلام) ورابعة بأنه (عليه السلام) لم يسمع منها صوتا قط وإنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى هذا.

وما تقدم من معنى منطق الحيوان يزاح به هذه الأوهام.

على أن سياق الآيات وحده كاف في دفعها.

وقوله: ﴿وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه﴾ الإيزاع الإلهام.

تبسم (عليه السلام) مبتهجا مسرورا بما أنعم الله عليه حتى أوقفه هذا الموقف وهي النبوة والعلم بمنطق الحيوان والملك والجنود من الجن والإنس والطير فسأل الله أن يلهمه شكر نعمته وأن يعمل بما فيه رضاه سبحانه.

وقد جعل الشكر للنعمة التي أنعم الله تعالى بها على نفسه مختصة به، وللنعمة التي أنعم بها على والديه فإن الإنعام على والديه إنعام عليه بوجه لكونه منهما وقد أنعم الله تعالى على أبيه داود بالنبوة والملك والحكمة وفصل الخطاب وغيرها وأنعم على أمه حيث زوجها من داود النبي ورزقها سليمان النبي وجعلها من أهل بيت النبوة.

وفي كلامه هذا دليل على أن والدته من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم وهم إحدى الطوائف الأربع المذكورين في قوله تعالى: ﴿الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين﴾ النساء: 69.

وقوله: ﴿وأن أعمل صالحا ترضاه﴾ عطف على قوله: ﴿أن أشكر نعمتك﴾ ومسألته هذه: ﴿أوزعني أن أعمل﴾ إلخ، أمر أرفع قدرا وأعلى منزلة من سؤال التوفيق للعمل الصالح فإن التوفيق يعمل في الأسباب الخارجية بترتيبها بحيث توافق سعادة الإنسان والإيزاع الذي سأله دعوة باطنية في الإنسان إلى السعادة، وعلى هذا فليس من البعيد أن يكون المراد به الوحي الذي أكرم الله به إبراهيم وآله فيما يخبر عنه بقوله: ﴿وأوحينا إليهم فعل الخيرات﴾ الأنبياء: 73، وهو التأييد بروح القدس على ما مر في تفسير الآية.

وقوله: ﴿وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين﴾ أي اجعلني منهم، وهذا الصلاح لما لم يتقيد بالعمل كان هو صلاح الذات وهو صلاح النفس في جوهرها الذي يستعد به لقبول أي كرامة إلهية.

ومن المعلوم أن صلاح الذات أرفع قدرا من صلاح العمل ففي قوله: ﴿وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين﴾ تدرج في المسألة من الأدنى إلى الأعلى وقد كان صلاح العمل منسوبا إلى صنعه واختياره بوجه دون صلاح الذات ولذا سأل صلاح الذات من ربه ولم يسأل نفس صلاح العمل بل أن يوزعه أن يعمل.

وفي تبديله سؤال صلاح الذات من سؤال أن يدخله في عباده الصالحين إيذان بسؤاله ما خصهم الله به من المواهب وأغزرها العبودية وقد وصفه الله بها في قوله: ﴿نعم العبد إنه أواب﴾ ص: 30.

قوله تعالى: ﴿وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين﴾ قال الراغب: التفقد التعهد لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشيء والتعهد تعرف العهد المتقدم قال تعالى: ﴿وتفقد الطير﴾.

استفهم أولا متعجبا من حال نفسه إذ لا يرى الهدهد بين الطير كأنه لم يكن من المظنون في حقه أن يغيب عن موكبه ويستنكف عن امتثال أمره ثم أضرب عن ذلك بالاستفهام عن غيبته.

والمعنى: ما بالي لا أرى الهدهد بين الطيور الملازمة لموكبي بل أ كان من الغائبين.

قوله تعالى: ﴿لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين﴾ اللامات للقسم والسلطان المبين البرهان الواضح، يقضي (عليه السلام) على الهدهد أحد ثلاث خصال: العذاب الشديد والذبح وفيهما شقاؤه، والإتيان بحجة واضحة وفيه خلاصه ونجاته.

قوله تعالى: ﴿فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين﴾ ضمير ﴿فمكث﴾ لسليمان ويحتمل أن يكون للهدهد ويؤيد الأول سابق السياق والثاني لاحقه، والمراد بالإحاطة العلم الكامل، وقوله: ﴿وجئتك﴾ إلخ، بمنزلة عطف التفسير لقوله: ﴿أحطت﴾ إلخ، وسبأ بلدة باليمن كانت عاصمته يومئذ والنبأ الخبر الذي له أهمية، واليقين ما لا شك فيه.

والمعنى: فمكث سليمان - أو فمكث الهدهد - زمانا غير بعيد - ثم حضر فسأله سليمان عن غيبته وعاتبه - فقال أحطت من العلم بما لم تحط به وجئتك من سبإ بخبر مهم لا شك فيه.

ومنه يظهر أن في الآية حذفا وإيجازا، وقد قيل: إن في قول الهدهد: ﴿أحطت بما لم تحط به﴾ كسرا لسورة سليمان (عليه السلام) فيما شدد عليه.

قوله تعالى: ﴿إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم﴾ الضمير في ﴿تملكهم﴾ لأهل سبإ وما يتبعها وقوله: ﴿وأوتيت من كل شيء﴾ وصف لسعة ملكها وعظمته وهو القرينة على أن المراد بكل شيء في الآية كل شيء هو من لوازم الملك العظيم من حزم وعزم وسطوة ومملكة عريضة وكنوز وجنود مجندة ورعية مطيعة، وخص بالذكر من بينها عرشها العظيم.

قوله تعالى: ﴿وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله﴾ إلخ، أي إنهم من عبدة الشمس من الوثنيين.

وقوله: ﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم﴾ بمنزلة عطف التفسير لما سبقه وهو مع ذلك توطئة لقوله بعد: ﴿فصدهم عن السبيل﴾ لأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي هي سجدتهم وسائر تقرباتهم هو الذي صرفهم ومنعهم عن سبيل الله وهي عبادته وحده.

وفي إطلاق السبيل من غير إضافتها إليه تعالى إشارة إلى أنها السبيل المتعينة للسبيلية بنفسها للإنسان بالنظر إلى فطرته بل لكل شيء بالنظر إلى الخلقة العامة.

وقوله: ﴿فهم لا يهتدون﴾ تفريع على صدهم عن السبيل إذ لا سبيل مع الصد عن السبيل فلا اهتداء، فافهمه.

قوله تعالى: ﴿ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون﴾ القراءة الدائرة ﴿إلا﴾ - بتشديد اللام - مؤلف من ﴿أن ولا﴾ وهو عطف بيان من ﴿أعمالهم﴾ والمعنى: زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله، وقيل: بتقدير لام التعليل، والمعنى: زين لهم الشيطان ضلالتهم لئلا يسجدوا لله.

والخبء على ما في مجمع البيان، المخبوء وهو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه وهو مصدر وصف به يقال: خبأته أخبئه خبأ وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة.

ففي قوله: ﴿يخرج الخبء في السماوات والأرض﴾ استعارة كأن الأشياء مخبوءة مستورة تحت أطباق العدم فيخرجها الله تعالى إلى الوجود واحدا بعد آخر فيكون تسمية الإيجاد بعد العدم إخراجا للخبء قريبا من تسميته بالفطر وتوصيفه تعالى بأنه فاطر السماوات والأرض والفطر هو الشق كأنه يشق العدم فيخرج الأشياء.

ويمكن حمل الجملة على الحقيقة من غير استعارة لكنه مفتقر إلى بيان موضعه غير هذا الموضع.

وقيل: المراد بالخبء الغيب وإخراجه العلم به وهو كما ترى.

وقوله: ﴿ويعلم ما تخفون وما تعلنون﴾ بالتاء على الخطاب أي يعلم سركم وعلانيتكم، وقرأ الأكثرون بالياء على الغيبة وهو أرجح.

وملخص الحجة: أنهم إنما يسجدون للشمس دون الله تعظيما لها على ما أودع الله سبحانه في طباعها من الآثار الحسنة والتدبير العام للعالم الأرضي وغيره، والله الذي أخرج جميع الأشياء من العدم إلى الوجود ومن الغيب إلى الشهادة فترتب على ذلك نظام التدبير من أصله - ومن جملتها الشمس وتدبيرها - أولى بالتعظيم وأحق أن يسجد له، مع أنه لا معنى لعبادة ما لا شعور له بها ولا شعور للشمس بسجدتهم والله سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون فالله سبحانه هو المتعين للسجدة والتعظيم لا غير.

وبهذا البيان تبين وجه اتصال قوله تلوا ﴿الله لا إله إلا هو﴾ إلخ.

قوله تعالى: ﴿الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم﴾ من تمام كلام الهدهد وهو بمنزلة التصريح بنتيجة البيان الضمني السابق وإظهار الحق قبال باطلهم ولذا أتى أولا بالتهليل الدال على توحيد العبادة ثم ضم إليه قوله: ﴿رب العرش العظيم﴾ الدال على انتهاء تدبير الأمر إليه فإن العرش الملكي هو المقام الذي تجتمع عنده أزمة الأمور وتصدر منه الأحكام الجارية في الملك.

وفي قوله: ﴿رب العرش العظيم﴾ مناسبة محاذاة أخرى مع قوله في وصف ملكة سبإ: ﴿ولها عرش عظيم﴾ ولعل قول الهدهد هذا هو الذي دعا - أو هو من جملة ما دعا - سليمان (عليه السلام) أن يأمر أن يأتوا بعرشها إليه ليخضع لعظمة ربه كل عظمة.

قوله تعالى: ﴿قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين﴾ الضمير لسليمان (عليه السلام).

أحال القضاء في أمر الهدهد إلى المستقبل فلم يصدقه في قوله لعدم بينة عليه بعد ولم يكذبه لعدم الدليل على كذبه بل وعده أن يجرب ويتأمل.

قوله تعالى: ﴿اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون﴾ حكاية قول سليمان خطابا للهدهد كأنه قيل: فكتب سليمان كتابا ثم قال للهدهد: اذهب بكتابي هذا إليهم أي إلى ملكة سبإ وملئها فألقه إليهم ثم تول عنهم أي تنح عنهم وقع في مكان تراهم فانظر ما ذا يرجعون أي ما ذا يرد بعضهم من الجواب على بعض إذا تكلموا فيه.

وقوله: ﴿فألقه﴾ بسكون الهاء وصلا ووقفا في جميع القراءات وهي هاء السكت، ومما قيل في الآية: إن قوله ﴿ثم تول عنهم فانظر﴾ إلخ، من قبيل التقديم والتأخير والأصل فانظر ما ذا يرجعون ثم تول عنهم: وهو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿قالت يا أيها الملؤا إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم﴾ في الكلام حذف وإيجاز والتقدير فأخذ الهدهد الكتاب وحمله إلى ملكة سبإ حتى إذا أتاها ألقاه إليها فأخذته ولما قرأته قالت لملئها وأشراف قومها يا أيها الملؤا ﴿إلخ﴿.

فقوله: ﴿قالت يا أيها الملؤا إني ألقي إلي كتاب كريم﴾ حكاية ذكرها لملئها أمر الكتاب وكيفية وصوله إليها ومضمونه، وقد عظمته إذ وصفته بالكرم.

وقوله: ﴿إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ظاهره أنه تعليل لكون الكتاب كريما أي والسبب فيه أنه من سليمان ولم يكد يخفى عليها جبروت سليمان وما أوتيه من الملك العظيم والشوكة العجيبة كما اعترفت بذلك في قولها على ما حكاه الله بعد: ﴿وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين﴾.

﴿وإنه بسم الله الرحمن الرحيم﴾ أي الكتاب باسمه تعالى فهو كريم لذلك والوثنيون جميعا قائلون بالله سبحانه يرونه رب الأرباب وإن لم يعبدوه، وعبدة الشمس منهم وهم من شعب الصابئين يعظمونه ويعظمون صفاته وإن كانوا يفسرون الصفات بنفي النقائص والأعدام فيفسرون العلم والقدرة والحياة والرحمة مثلا بانتفاء الجهل والعجز والموت والقسوة فكون الكتاب باسم الله الرحمن الرحيم يستدعي كونه كريما، كما أن كونه من سليمان العظيم يستدعي كونه كريما، وعلى هذا فالكتاب أي مضمونه هو قوله: ﴿ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين﴾ وأن مفسرة.

ومن العجيب ما عن جمع من المفسرين أن قوله: ﴿إنه من سليمان﴾ استئناف وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ممن الكتاب وما ذا فيه فقالت: إنه من سليمان إلخ، وعلى هذا يكون قوله: وإنه بسم الله بيانا للكتاب أي لمتنه وأن الكتاب هو ﴿بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين﴾.

ويتوجه عليهم أولا: وقوع لفظة أن زائدة لا فائدة لها ولذا قال بعضهم: إنها مصدرية و﴿لا﴾ نافية لا ناهية وهو وجه سخيف كما سيأتي.

وثانيا: بيان الوجه في كون الكتاب كريما فقيل: وجه كرامته أنه كان مختوما ففي الحديث: إكرام الكتاب ختمه حتى ادعى بعضهم أن معنى كرامة الكتاب ختمه، يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، وقيل: إنها سمته كريما لجودة خطه وحسن بيانه، وقيل: لوصوله إليها على منهاج غير عادي، وقيل: لظنها بسبب إلقاء الطير أنه كتاب سماوي إلى غير ذلك من الوجوه.

وأنت خبير بأنها تحكمات غير مقنعة، والظاهر أن الذي أوقعهم فيما وقعوا حملهم قوله: ﴿وإنه بسم الله - إلى قوله - مسلمين﴾ على حكاية متن الكتاب وذلك ينافي حمل قوله: ﴿إنه من سليمان وإنه بسم الله﴾ إلخ، على تعليل كرامة الكتاب ويدفعه أن ظاهر أن المفسرة في قوله: ﴿ألا تعلوا علي﴾ إلخ، أنه نقل لمعنى الكتاب ومضمونه لا حكاية متنه فمحصل الآيتين أن الكتاب كان مبدوا ببسم الله الرحمن الرحيم وأن مضمونه النهي عن العلو عليه والأمر بأن يأتوه مسلمين فلا محذور أصلا.

قوله تعالى: ﴿ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين﴾ أن مفسرة تفسر مضمون كتاب سليمان كما تقدمت الإشارة إليه.

وقول بعضهم: إنها مصدرية و﴿لا﴾ نافية أي عدم علوكم علي، سخيف لاستلزامه أولا: تقدير مبتدإ أو خبر محذوف من غير موجب، وثانيا: عطف الإنشاء وهو قوله: ﴿وأتوني﴾ على الإخبار.

والمراد بعلوهم عليه، استكبارهم عليه، وبقوله: ﴿وأتوني مسلمين﴾ إسلامهم بمعنى الانقياد على ما يؤيده قوله: ﴿ألا تعلوا علي﴾ دون الإسلام بالمعنى المصطلح وهو الإيمان بالله سبحانه وإن كان إتيانهم منقادين له يستلزم إيمانهم بالله على ما يستفاد من سياق قول الهدهد وسياق الآيات الآتية، ولو كان المراد بالإيمان المعنى المصطلح كان المناسب له أن يقال: أن لا تعلوا على الله.

وكون سليمان (عليه السلام) نبيا شأنه الدعوة إلى الإسلام لا ينافي ذلك فإنه كان ملكا رسولا وكانت دعوته إلى الانقياد المطلق تستلزم ذلك كما تقدم وقد انتهت إلى إسلامها لله كما حكى الله تعالى عنها ﴿وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين﴾.

قوله تعالى: ﴿قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون﴾ الإفتاء إظهار الفتوى وهي الرأي، وقطع الأمر القضاء به والعزم عليه والشهادة الحضور وهذا استشارة منها لهم تقول: أشيروا علي في هذا الأمر الذي واجهته وهو الذي يشير إليه كتاب سليمان - وإنما أستشيركم فيه لأني لم أكن حتى اليوم أستبد برأيي في الأمور بل أقضي وأعزم عن إشارة وحضور منكم.

فالآية تشير إلى فصل ثان من كلامها مع ملئها بعد الفصل الأول الذي أخبرتهم فيه بكتاب سليمان (عليه السلام) وكيفية وصوله وما فيه.

قوله تعالى: ﴿قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين﴾ القوة ما يتقوى به على المطلوب وهي هاهنا الجند الذي يتقوى به على دفع العدو وقتاله، والبأس الشدة في العمل والمراد به النجدة والشجاعة.

والآية تتضمن جواب الملإ لها يسمعونها أولا ما يطيب له نفسها ويسكن به قلقها ثم يرجعون إليها الأمر يقولون طيبي نفسا ولا تحزني فإن لنا من القوة والشدة ما لا نهاب به عدوا وإن كان هو سليمان ثم الأمر إليك مري بما شئت فنحن مطيعوك.

قوله تعالى: ﴿قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون﴾ إفساد القرى تخريبها وإحراقها وهدم أبنيتها، وإذلال أعزة أهلها هو بالقتل والأسر والسبي والإجلاء والتحكم.

كان رأيها على ما يستفاد من هاتين الآيتين زيادة التبصر في أمر سليمان (عليه السلام) بأن ترسل إليه من يختبر حاله ويشاهد مظاهر نبوته وملكه فيخبر الملكة بما رأى حتى تصمم هي العزم على أحد الأمرين: الحرب أو السلم وكان الظاهر من كلام الملإ حيث بدءوا في الكلام معها بقولهم نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، أنهم يميلون إلى القتال لذلك أخذت أولا تذم الحرب ثم نصت على ما هو رأيها فقالت: ﴿إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها﴾ إلخ، أي إن الحرب لا تنتهي إلا إلى غلبة أحد المتحاربين وفيها فساد القرى وذلة أعزتها فليس من الحزم الإقدام عليها مع قوة العدو وشوكته مهما كانت إلى السلم والصلح سبيل إلا لضرورة ورأيي الذي أراه أن أرسل إليهم بهدية ثم أنظر بما ذا يرجع المرسلون من الخبر وعند ذلك أقطع بأحد الأمرين الحرب أو السلم.

فقوله: ﴿إن الملوك إذا دخلوا﴾ إلخ، توطئة لقوله بعد: ﴿وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة﴾ إلخ.

وقوله: ﴿وجعلوا أعزة أهلها أذلة﴾ أبلغ وآكد من قولنا مثلا: استذلوا أعزتها لأنه مع الدلالة على تحقق الذلة يدل على تلبسهم بصفة الذلة.

وقوله: ﴿وكذلك يفعلون﴾ مسوق للدلالة على الاستمرار بعد دلالة قوله: ﴿أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة﴾ على أصل الوقوع، وقيل: إن الجملة من كلام الله سبحانه لا من تمام كلام ملكة سبإ وليس بسديد إذ لا اقتضاء في المقام لمثل هذا التصديق.

قوله تعالى: ﴿وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون﴾ أي مرسلة إلى سليمان وهذا نوع من التجبر والاعتزاز الملوكي تصون لسانها عن اسمه وتنسب الأمر إليه وإلى من معه جميعا وأيضا تشير به إلى أنه يفعل ما يفعل بأيدي أعضاده وجنوده وإمداد رعيته.

وقوله: ﴿فناظرة بم يرجع المرسلون﴾ أي حتى أعمل عند ذلك بما تقتضيه الحال وهذا - كما تقدم - هو رأي ملكة سبإ ويعلم من قوله: ﴿المرسلون﴾ أن الحامل للهدية كان جمعا من قومها كما يستفاد من قول سليمان بعد: ﴿ارجع إليهم﴾ أنه كان للقوم المرسلين رئيس يرأسهم.

قوله تعالى: ﴿فلما جاء سليمان قال أ تمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون﴾ ضمير جاء للمال الذي أهدي إليه أو للرسول الذي جاء بالهدية.

والاستفهام في قوله: ﴿أتمدونن بمال﴾ للتوبيخ والخطاب للرسول والمرسل بتغليب الحاضر على الغائب، وتوبيخ القوم من غير تعيين الملكة من بينهم نظير قولها فيما تقدم: ﴿وإني مرسلة إليهم بهدية﴾ كما أشرنا إليه.

وجوز أن يكون الخطاب للمرسلين وكانوا جماعة وهو خطأ فإن الإمداد لم يكن من المرسلين بل ممن أرسلهم فلا معنى لتوجيه التوبيخ إليهم خاصة، وتنكير المال للتحقير، والمراد بما آتاني الله الملك والنبوة.

والمعنى: أتمدونني بمال حقير لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله فما آتاني الله من النبوة والملك والثروة خير مما آتاكم.

وقوله: ﴿بل أنتم بهديتكم تفرحون﴾ إضراب عن التوبيخ بإمداده بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم أي إن إمدادكم إياي بمال لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله قبيح وفرحكم بهديتكم لاستعظامكم لها وإعجابكم بها أقبح.

وقيل: المراد بهديتكم الهدية التي تهدى إليكم، والمعنى: بل أنتم تفرحون بما يهدى إليكم من الهدية لحبكم زيادة المال وأما أنا فلا أعتد بمال الدنيا هذا.

وبعده ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون﴾ الخطاب لرئيس المرسلين، وضمائر الجمع راجعة إلى ملكة سبإ وقومها، والقبل الطاقة، وضمير ﴿بها﴾ لسبإ، وقوله: ﴿وهم صاغرون﴾ تأكيد لما قبله، واللام في ﴿فلنأتينهم﴾ و﴿لنخرجنهم﴾ للقسم.

لما كان ظاهر تبديلهم امتثال أمره - وهو قوله: ﴿وأتوني مسلمين﴾ من إرسال الهدية هو الاستنكاف عن الإسلام قدر بحسب المقام أنهم غير مسلمين له فهددهم بإرسال جنود لا قبل لهم بها ولذلك فرع إتيانهم بالجنود على رجوع الرسول من غير أن يشترطه بعدم إتيانهم مسلمين فقال: ﴿ارجع إليهم فلنأتينهم﴾ إلخ، ولم يقل: ارجع فإن لم يأتوني مسلمين فلنأتينهم إلخ، وإن كان مرجع المعنى إليه فإن إرسال الجنود وإخراجهم من سبإ على حال الذلة كان مشروطا به على أي حال.

والسياق يشهد أنه (عليه السلام) رد إليهم هديتهم ولم يقبلها منهم.

قوله تعالى: ﴿قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين﴾ كلام تكلم به بعد رد الهدية وإرجاع الرسل، وفيه إخباره أنهم سيأتونه مسلمين وإنما أراد الإتيان بعرشها قبل حضورها وقومها عنده ليكون دلالة ظاهرة على بلوغ قدرته الموهوبة من ربه ومعجزة باهرة لنبوته حتى يسلموا لله كما يسلمون له ويستفاد ذلك من الآيات التالية.

قوله تعالى: ﴿قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين﴾ العفريت - على ما قيل - المارد الخبيث، وقوله: ﴿آتيك به﴾ اسم فاعل أو فعل مضارع من الإتيان، والأول أنسب للسياق لدلالته على التلبس بالفعل وكونه أنسب لعطف قوله: ﴿وإني عليه﴾ إلخ، وهو جملة اسمية عليه.

كذا قيل.

وقوله: ﴿وإني عليه لقوي أمين﴾ الضمير للإتيان أي أنا للإتيان بعرشها لقوي لا يثقل علي حمله ولا يجهدني نقله أمين لا أخونك في هذا الأمر.

قوله تعالى: ﴿قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك﴾ مقابلته لمن قبله دليل على أنه كان من الإنس، وقد وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه كان آصف بن برخيا وزير سليمان ووصيه، وقيل: هو الخضر، وقيل: رجل كان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب وقيل: جبرئيل، وقيل: هو سليمان نفسه، وهي وجوه لا دليل على شيء منها.

وأيا ما كان وأي من كان ففصل الكلام مما قبله من غير أن يعطف عليه للاعتناء بشأن هذا العالم الذي أتى بعرشها إليه في أقل من طرفة العين، وقد اعتني بشأن علمه أيضا إذ نكر فقيل: علم من الكتاب أي علم لا يحتمل اللفظ وصفه.

والمراد بالكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إما جنس الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ، والعلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علما يسهل له الوصول إلى هذه البغية وقد ذكر المفسرون أنه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب، وربما ذكر بعضهم أن ذلك الاسم هو الحي القيوم، وقيل: ذو الجلال والإكرام، وقيل: الله الرحمن، وقيل: هو بالعبرانية آهيا شراهيا، وقيل: إنه دعا بقوله: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها.

إلى غير ذلك مما قيل.

وقد تقدم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن من المحال أن يكون الاسم الأعظم الذي له التصرف في كل شيء من قبيل الألفاظ ولا المفاهيم التي تدل عليها وتكشف عنها الألفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجية التي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعا من الانطباق وهي الاسم حقيقة واللفظ الدال عليها اسم الاسم.

ولم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب، وأنه قال: أنا آتيك به، ومن المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، وبذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله والارتباط به ما إذا سأل ربه شيئا بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة وإن شئت فقل: إذا شاءه الله سبحانه.

ويتبين مما تقدم أيضا أن هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلم.

وقوله: ﴿أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ الطرف - على ما قيل - اللحظ والنظر وارتداد الطرف وصول المنظور إليه إلى النفس وعلم الإنسان به، فالمراد أنا آتيك به في أقل من الفاصلة الزمانية بين النظر إلى الشيء والعلم به.

وقيل: الطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر، وارتداده هو انضمامها ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد فقيل: قبل أن يرتد إليك طرفك ولم يقل: قبل أن يرد.

هذا.

وقد أخطأ فالطرف كالتنفس من أفعال الإنسان الاختيارية غير أن الذي يبعث إليه هو الطبيعة كما في التنفس ولذلك لا يحتاج في صدوره إلى ترو سابق كما يحتاج إليه في أمثال الأكل والشرب، فالفعل الاختياري ما يرتبط إلى إرادة الإنسان وهو أعم مما يسبقه التروي، والذي أوقع هذا القائل فيما وقع ظنه التساوي بين الفعل الصادر عن اختيار والصادر عن ترو، ولعل النكتة في إيثار الارتداد على الرد هي أن الفعل لعدم توقفه على التروي كأنه يقع بنفسه لا عن مشية من اللاحظ.

والخطاب في قوله: ﴿أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ لسليمان (عليه السلام) فهو الذي يريد الإتيان به إليه وهو الذي يراد الإتيان به إليه.

وقيل: الخطاب للعفريت القائل: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك والمراد بالذي عنده علم من الكتاب عند هذا القائل هو سليمان، وإنما قاله له إظهارا لفضل النبوة وأن الذي أقدره الله عليه بتعليمه علما من الكتاب أعظم مما يتبجح به العفريت من القدرة، فالمعنى: قال سليمان للعفريت لما قال ما قال: أنا آتيك بالعرش قبل ارتداد طرفك.

وقد أصر في التفسير الكبير، على هذا القول وأورد لتأييده وجوها وهي وجوه رديئة وأصل القول لا يلائم السياق كما أومأنا إليه.

قوله تعالى: ﴿فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي﴾ إلى آخر الآية، أي لما رأى سليمان العرش مستقرا عنده قال هذا، أي حضور العرش واستقراره عندي في أقل من طرفة العين من فضل ربي من غير استحقاق مني ليبلوني أي يمتحنني أأشكر نعمته أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه أي يعود نفعه إليه لا إلى ربي ومن كفر فلم يشكر فإن ربي غني كريم - وفي ذيل الكلام تأكيد لما في صدره من حديث الفضل -.

وقيل: المشار إليه بقوله ﴿هذا﴾ هو التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات.

وفيه أن ظاهر قوله: ﴿فلما رآه مستقرا عنده قال﴾ إلخ، إن هذا الثناء مرتبط بحال الرؤية والذي في حال الرؤية هو حضور العرش عنده دون التمكن من الإحضار الذي كان متحققا منذ زمان.

وفي الكلام حذف وإيجاز، والتقدير فأذن له سليمان في الإتيان به كذلك فأتى به كما قال: ﴿فلما رآه مستقرا عنده﴾ وفي حذف ما حذف دلالة بالغة على سرعة العمل كأنه لم يكن بين دعواه الإتيان به كذلك وبين رؤيته مستقرا عنده فصل أصلا.

قوله تعالى: ﴿قال نكروا لها عرشها ننظر أ تهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون﴾ قال في المفردات:، تنكير الشيء من حيث المعنى جعله بحيث لا يعرف، قال تعالى: ﴿قال نكروا لها عرشها﴾ وتعريفه جعله بحيث يعرف.

والسياق يدل على أن سليمان (عليه السلام) إنما قاله حينما قصدته ملكة سبإ وملؤها لما دخلوا عليه، وإنما أراد بذلك اختبار عقلها كما أنه أراد بأصل الإتيان به إظهار آية باهرة من آيات نبوته لها، ولذا أمر بتنكير العرش ثم رتب عليه قوله: ﴿ننظر أتهتدي﴾ إلخ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين﴾ أي فلما جاءت الملكة سليمان (عليه السلام) قيل له من جانب سليمان: ﴿أهكذا عرشك﴾ وهو كلمة اختبار.

ولم يقل: أهذا عرشك بل زيد في التنكير فقيل: أ هكذا عرشك؟ فاستفهم عن مشابهة عرشها لهذا العرش المشار إليه في هيئته وصفاته، وفي نفس هذه الجملة نوع من التنكير.

وقوله: ﴿قالت كأنه هو﴾ المراد به أنه هو وإنما عبرت بلفظ التشبيه تحرزا من الطيش والمبادرة إلى التصديق من غير تثبت، ويكنى عن الاعتقادات الابتدائية التي لم يتثبت عليها غالبا بالتشبيه.

وقوله: ﴿وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين﴾ ضمير ﴿قبلها﴾ لهذه الآية أي الإتيان بالعرش أو لهذه الحالة أي رؤيتها له بعد ما جاءت، وظاهر السياق أنها تتمة كلام الملكة فهي لما رأت العرش وسألت عن أمره أحست أن ذلك منهم تلويح إلى ما آتى الله سليمان من القدرة الخارقة للعادة فأجابت بقولها: ﴿وأوتينا العلم من قبلها﴾ إلخ، أي لا حاجة إلى هذا التلويح والتذكير فقد علمنا بقدرته قبل هذه الآية أو هذه الحالة وكنا مسلمين لسليمان طائعين له.

وقيل: قوله: ﴿وأوتينا العلم﴾ إلخ، من كلام سليمان، وقيل: من كلام قوم سليمان، وقيل من كلام الملكة، لكن المعنى وأوتينا العلم بإتيان العرش قبل هذه الحال - وهي جميعا وجوه رديئة -.

قوله تعالى: ﴿وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين﴾ الصد: المنع والصرف، ومتعلق الصد الإسلام لله وهو الذي ستشهد به حين تؤمر بدخول الصرح فتقول: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وأما قولها في الآية السابقة: ﴿وكنا مسلمين﴾ فهو إسلامها وانقيادها لسليمان (عليه السلام).

هذا ما يعطيه سياق الآيات وللقوم وجوه أخر في معنى الآية أضربنا عنها.

وقوله: ﴿إنها كانت من قوم كافرين﴾ في مقام التعليل للصد، والمعنى: ومنعها عن الإسلام لله ما كانت تعبد من دون الله وهي الشمس على ما تقدم في نبإ الهدهد والسبب فيه أنها كانت من قوم كافرين فاتبعتهم في كفرهم.

قوله تعالى: ﴿قيل لها ادخلي الصرح﴾ إلى آخر الآية، الصرح هو القصر وكل بناء مشرف والصرح الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف، واللجة المعظم من الماء والممرد اسم مفعول من التمريد وهو التمليس، والقوارير الزجاج.

وقوله: ﴿قيل لها ادخلي الصرح﴾ كأن القائل بعض خدم سليمان مع حضور من سليمان ممن كان يهديها إلى الدخول عليه على ما هو الدأب في وفود الملوك والعظماء على أمثالهم.

وقوله: ﴿فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها﴾ أي لما رأت الصرح ظنت أنه لجة لما كان عليه الزجاج من الصفاء كالماء وكشفت عن ساقيها بجمع ثيابها لئلا تبتل بالماء أذيالها.

وقوله: ﴿قال إنه صرح ممرد من قوارير﴾ القائل هو سليمان نبهها أنه ليس بلجة بل صرح مملس من زجاج فلما رأت ما رأت من عظمة ملك سليمان وقد كانت رأت سابقا ما رأت من أمر الهدهد ورد الهدية والإتيان بعرشها لم تشك أن ذلك من آيات نبوته من غير أن يؤتى بحزم أو تدبير وقالت عند ذلك: رب إني ظلمت نفسي إلخ.

وقوله: ﴿وقالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين﴾ استغاثت أولا بربها بالاعتراف بالظلم إذ لم تعبد الله من بدء أو من حين رأت هذه الآيات ثم شهدت بالإسلام لله مع سليمان.

وفي قوله: ﴿وأسلمت مع سليمان لله﴾ التفات بالنسبة إليه تعالى من الخطاب إلى الغيبة ووجهه الانتقال من إجمال الإيمان بالله إذ قالت: ﴿رب إني ظلمت نفسي﴾ إلى التوحيد الصريح فإنها تشهد أن إسلامها لله مع سليمان فهو على نهج إسلام سليمان وهو التوحيد ثم تؤكد التصريح بتوصيفه تعالى برب العالمين فلا رب غيره تعالى لشيء من العالمين وهو توحيد الربوبية المستلزم لتوحيد العبادة الذي لا يقول به مشرك.

كلام في قصة سليمان (عليه السلام):

1) ما ورد من قصصه في القرآن: لم يرد من قصصه (عليه السلام) في القرآن الكريم إلا نبذة يسيرة غير أن التدبر فيها يهدي إلى عامة قصصه ومظاهر شخصيته الشريفة.

منها: وراثته لأبيه داود قال تعالى: ﴿ووهبنا لداود سليمان﴾ (عليهما السلام) وقال ﴿وورث سليمان داود﴾ النمل: 16.

ومنها: إيتاؤه الملك العظيم وتسخير الجن والطير والريح له وتعليمه منطق الطير وقد تكرر ذكر هذه النعم في كلامه تعالى كما في سورة البقرة: 102 والأنبياء: 81، والنمل: 16 - 18، وسبأ: 12 - 13 وص: 35 - 39.

ومنها: الإشارة إلى قصة إلقاء جسد على كرسيه كما في سورة ص: 33.

ومنها: الإشارة إلى عرض الصافنات الجياد عليه كما في سورة ص: 31 - 33.

ومنها: الإشارة إلى تفهيمه الحكم في الغنم التي نفشت في الحرث كما في سورة الأنبياء: 78 - 79.

ومنها: الإشارة إلى حديث النملة كما في سورة النمل: 18 - 19.

ومنها: قصة الهدهد وما يتبعها من قصته (عليه السلام) مع ملكة سبإ سورة النمل: 20 - 44.

ومنها: الإشارة إلى كيفية موته (عليه السلام) كما في سورة سبأ: 14.

وقد أوردنا ما يخص بكل من هذه القصص من الكلام في ذيل الآيات المشيرة إليها الموضوعة في هذا الكتاب.

2) الثناء عليه في القرآن: ورد اسمه (عليه السلام) في بضعة عشر موضعا من كلامه تعالى وقد أكثر الثناء عليه فسماه عبدا أوابا قال تعالى: ﴿نعم العبد إنه أواب﴾ ص: 30، ووصفه بالعلم والحكم قال تعالى: ﴿ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما﴾ الأنبياء: 79 ﴿وقال ولقد آتينا داود وسليمان علما﴾ النمل: 15 وقال: ﴿وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير﴾ النمل: 16، وعده من النبيين المهديين قال تعالى: ﴿وأيوب ويونس وهارون وسليمان﴾ النساء: 163، وقال: ﴿ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان﴾ الأنعام: 84.

3) ذكره (عليه السلام) في العهد العتيق: وقعت قصته في كتاب الملوك الأول وقد أطيل فيه في حشمته وجلالة أمره وسعة ملكه ووفور ثروته وبلوغ حكمته غير أنه لم يذكر فيه شيء من قصصه المشار إليها في القرآن إلا ما ذكر أن ملكة سبإ لما سمعت خبر سليمان وبناءه وبيت الرب بأورشليم وما أوتيه من الحكمة أتت إليه ومعها هدايا كثيرة فلاقته وسألته عن مسائل تمتحنه بها فأجاب عنها ثم رجعت.

وقد أساء العهد العتيق القول فيه (عليه السلام) فذكر أنه (عليه السلام) انحرف في آخر عمره عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام فسجد لأوثان كانت تعبدها بعض أزواجه.

وذكر أن والدته كانت زوج أوريا الحتي فعشقها داود (عليه السلام) ففجر بها فحبلت منه فاحتال في قتل زوجها أوريا حتى قتل في بعض الحروب فضمها إلى أزواجه فحبلت منه ثانيا وولدت له سليمان.

والقرآن الكريم ينزه ساحته (عليه السلام) عن أول الرميتين بما ينزه به ساحة جميع الأنبياء بالنص على هدايتهم وعصمتهم وقال فيه خاصة: ﴿وما كفر سليمان﴾ البقرة: 102.

وعن الثانية بما يحكيه من دعائه (عليه السلام) لما سمع قول النملة: ﴿رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي﴾ النمل: 19، فقد بينا في تفسيره أن فيه دلالة على أن والدته كانت من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

4) الروايات الواردة في قصصه (عليه السلام) : الأخبار المروية في قصصه وخاصة في قصة الهدهد وما يتبعها من أخباره مع ملكة سبإ يتضمن أكثرها أمورا غريبة قلما يوجد نظائرها في الأساطير الخرافية يأباها العقل السليم ويكذبها التاريخ القطعي وأكثرها مبالغة ما روي عن أمثال كعب ووهب.

وقد بلغوا من المبالغة أن ما رووا أنه (عليه السلام) ملك جميع الأرض، وكان ملكه سبعمائة سنة، وأن جميع الإنس والجن والوحش والطير كانوا جنوده، وأنه كان يوضع في مجلسه حول عرشه ستمائة ألف كرسي يجلس عليها ألوف من النبيين ومئات الألوف من أمراء الإنس والجن.

وأن ملكة سبإ كانت أمها من الجن، وكانت قدمها كحافر الحمارة وكانت تستر قدميها عن أعين النظار حتى كشفت عن ساقيها حينما أرادت دخول الصرح فبان أمرها، وقد بلغ من شوكتها أنه كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل إلى غير ذلك من أعاجيب الأخبار التي لا يسعنا إلا أن نعدها من الإسرائيليات ونصفح عنها بحث روائي في الاحتجاج، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام): أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة (عليها السلام) فدك وبلغها ذلك جاءت إليه وقالت له: يا ابن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا أ فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: وورث سليمان داود.

وفي تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله عز وجل: ﴿فهم يوزعون﴾ قال: يحبس أولهم على آخرهم.

وفي الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: والناظرة في بعض اللغة هي المنتظرة ألم تسمع إلى قوله: ﴿فناظرة بم يرجع المرسلون﴾ وفي البصائر، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاث وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ورواه في الكافي، عن جابر عن أبي جعفر وعن النوفلي عن أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام).

وقوله: ﴿إن الاسم الأعظم كذا حرفا وكان عند آصف حرف تكلم به﴾ لا ينافي ما قدمنا أن هذا الاسم ليس من قبيل الألفاظ فإن نفس هذا السياق يدل على أن المراد بالحرف غير الحرف اللفظي والتعبير به من جهة أن المعهود عند الناس من الاسم الاسم اللفظي المؤلف من الحروف الملفوظة.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ ذكر في ذلك وجوه إلى أن قال والخامس أن الأرض طويت له: وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: وما رواه من الطي لا يغاير ما تقدمت روايته من الخسف.

والذي نقله من الوجوه الأخر خمسة أحدها: أن الملائكة حملته إليه.

الثاني: أن الريح حملته.

الثالث: أن الله خلق فيه حركات متوالية.

الرابع: أنه انخرق مكانه حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان.

الخامس: أن الله أعدمه في موضعه وأعاده في مجلس سليمان.

وهناك وجه آخر ذكره بعضهم وهو أن الوجود بتجدد الأمثال بإيجاده وقد أفاض الله الوجود لعرشها في سبإ ثم في الآن التالي عند سليمان.

وهذه الوجوه بين ممتنع كالخامس وبين ما لا دليل عليه كالباقي.

وفيه، وروى العياشي في تفسيره، بالإسناد قال: التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم فسأله.

قال: فدخلت على أخي علي بن محمد (عليهما السلام) إذ دار بيني وبينه من المواعظ حتى انتهيت إلى طاعته فقلت له: جعلت فداك إن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها فضحك ثم قال: هل أفتيته فيها قلت: لا.

قال: ولم؟ قلت: لم أعرفها قال: ما هي؟ قلت: قال: أخبرني عن سليمان أ كان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟ ثم ذكرت المسائل الأخر: قال: اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم سألت عن قول الله تعالى في كتابه: ﴿قال الذي عنده علم من الكتاب﴾ فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه أحب أن تعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته كما فهم سليمان في حياة داود ليعرف إمامته ونبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق.

أقول: وأورد الرواية في روح المعاني، عن المجمع ثم قال: وهو كما ترى انتهى ولا ترى لاعتراضه هذا وجها غير أنه رأى حديث الإمامة فيها فلم يعجبه.

وفي نور الثقلين، عن الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو إلى أن قال وخرجت ملكة سبإ فأسلمت مع سليمان (عليه السلام).