الآيات 8-31

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ﴿8﴾ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴿9﴾ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴿10﴾ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴿11﴾ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ﴿12﴾ وَبَنِينَ شُهُودًا ﴿13﴾ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ﴿14﴾ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴿15﴾ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴿16﴾ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴿17﴾ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿18﴾ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿20﴾ ثُمَّ نَظَرَ ﴿21﴾ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿22﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴿23﴾ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿24﴾ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿25﴾ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴿26﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴿27﴾ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ﴿28﴾ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴿29﴾ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴿30﴾ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴿31﴾

بيان:

في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنه سحر والمستهزءين لبعض ما فيه من الحقائق.

قوله تعالى: ﴿فإذا نقر في الناقور﴾ النقر القرع والناقور ما ينقر فيه للتصويت، والنقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى وإحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة والجملة شرطية جزاؤها قوله ﴿فذلك﴾ إلخ.

قوله تعالى: ﴿فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير﴾ الإشارة بقوله ﴿فذلك﴾ إلى زمان نقر الناقور ولا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب والجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفا ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفا لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفا للشهر والشهر يجعل ظرفا لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعددا مختلفا باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثم يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفا لنفسه باعتبار صفة أخرى.

والمعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع - بناء على كون قوله: ﴿يومئذ﴾ قيدا لقوله: ﴿فذلك﴾ أو لقوله: ﴿يوم﴾.

وقال في الكشاف، فإن قلت: بم انتصب إذا وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفا ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دل عليه الجزاء لأن المعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفا ليوم عسير أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور.

وقال: ويجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل بدلا من ذلك، ويوم عسير خبر كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير.

وقوله: ﴿غير يسير﴾ وصف آخر ليوم مؤكد لعسره ويفيد أنه عسير من كل وجه من وجه دون وجه.

قوله تعالى: ﴿ذرني ومن خلقت وحيدا﴾ كلمة تهديد وقد استفاض النقل أن الآية وما يتلوها إلى تمام عشرين آية نزلت في الوليد بن المغيرة، وستأتي قصته في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

وقوله: ﴿وحيدا﴾ حال من فاعل ﴿خلقت﴾ ومحصل المعنى: دعني ومن خلقته حال كوني وحيدا لا يشاركني في خلقه أحد ثم دبرت أمره أحسن التدبير، ولا تحل بيني وبينه فأنا أكفيه.

ومن المحتمل أن يكون حالا من مفعول ﴿ذرني﴾.

وقيل: حال من مفعول خلقت المحذوف وهو ضمير عائد إلى الموصول، ومحصل المعنى دعني ومن خلقته حال كونه وحيدا لا مال له ولا بنون، واحتمل أيضا أن يكون ﴿وحيدا﴾ منصوبا بتقدير ﴿أذم﴾ وأحسن الوجوه أولها.

قوله تعالى: ﴿وجعلت له مالا ممدودا﴾ أي مبسوطا كثيرا أو ممدودا بمدد النماء.

قوله تعالى: ﴿وبنين شهودا﴾ أي حضورا يشاهدهم ويتأيد بهم، وهو عطف على قوله: ﴿مالا﴾.

قوله تعالى: ﴿ومهدت له تمهيدا﴾ التمهيد التهيئة ويتجوز به عن بسطة المال والجاه وانتظام الأمور.

قوله تعالى: ﴿ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا﴾ أي ثم يطمع أن أزيد فيما جعلت له من المال والبنين ومهدت له من التمهيد.

وقوله: ﴿كلا﴾ ردع له، وقوله: ﴿إنه كان﴾ إلخ تعليل المردع، والعنيد المعاند المباهي بما عنده، قيل، ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك.

قوله تعالى: ﴿سأرهقه صعودا﴾ الإرهاق الغشيان بالعنف، والصعود عقبة الجبل التي يشق مصعدها شبه ما سيناله من سوء الجزاء ومر العذاب بغشيانه عقبة وعر صعبة الصعود.

قوله تعالى: ﴿إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر﴾ التفكير معروف، والتقدير عن تفكير نظم معان وأوصاف في الذهن بالتقديم والتأخير والوضع والرفع لاستنتاج غرض مطلوب، وقد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئا يبطل به دعوته ويرضي به قومه المعاندين ففكر فيه أ يقول: شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو أسطورة فقدر أن يقول: سحر من كلام البشر لأنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه.

وقوله: ﴿فقتل كيف قدر﴾ دعا عليه على ما يعطيه السياق نظير قوله: ﴿قاتلهم الله أنى يؤفكون﴾ التوبة: 30.

وقوله: ﴿ثم قتل كيف قدر﴾ تكرار للدعاء تأكيدا.

قوله تعالى: ﴿ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر﴾ تمثيل لحاله بعد التكفير والتقدير وهو من ألطف التمثيل وأبلغه.

فقوله: ﴿ثم نظر﴾ أي ثم نظر بعد التفكير والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه - على ما يعطيه سياق التمثيل -.

وقوله: ﴿ثم عبس وبسر﴾ العبوس تقطيب الوجه، قال في المجمع،: وعبس يعبس عبوسا إذا قبض وجهه والعبوس والتكليح والتقطيب نظائر وضدها الطلاقة والبشاشة، وقال: والبسور بدء التكره في الوجه انتهى، فالمعنى ثم قبض وجهه وأبدا التكره في وجهه بعد ما نظر.

وقوله: ﴿ثم أدبر واستكبر﴾ الإدبار عن شيء الإعراض عنه، والاستكبار الامتناع كبرا وعتوا، والأمران أعني الإدبار والاستكبار من الأحوال الروحية، وإنما رتبا في التمثيل على النظر والعبوس والبسور وهي أحوال صورية محسوسة لظهورهما بقوله: ﴿إن هذا إلا سحر﴾ إلخ، ولذا عطف قوله: ﴿فقال إن هذا إلا سحر يؤثر﴾ بالفاء دون ﴿ثم﴾.

وقوله: ﴿فقال إن هذا إلا سحر يؤثر﴾ أي أظهر إدباره واستكباره بقوله مفرعا عليه: ﴿إن هذا - أي القرآن - إلا سحر يؤثر﴾ أي يروي ويتعلم من السحرة.

وقوله: ﴿إن هذا إلا قول البشر﴾ أي ليس بكلام الله كما يدعيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

قيل: إن هذه الآية كالتأكيد للآية السابقة وإن اختلفتا معنى لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا من كلام الله، وباعتبار الاتحاد في المقصود لم تعطف الجملة على الجملة.

قوله تعالى: ﴿سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر﴾ أي سأدخله سقر وسقر من أسماء جهنم في القرآن أو دركة من دركاتها، وجملة ﴿سأصليه سقر﴾ بيان أو بدل من قوله: ﴿سأرهقه صعودا﴾.

وقوله: ﴿وما أدراك ما سقر﴾ تفخيم لأمرها وتهويل.

وقوله: ﴿لا تبقي ولا تذر﴾ قضية إطلاق النفي أن يكون المراد أنها لا تبقي شيئا ممن نالته إلا أحرقته، ولا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته بخلاف نار الدنيا التي ربما تركت بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه، وإذا نالت إنسانا مثلا نالت جسمه وصفاته الجسمية ولم تنل شيئا من روحه وصفاته الروحية، وأما سقر فلا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته قال تعالى: ﴿تدعوا من أدبر وتولى﴾ المعارج: 17، وإذا نالته لم تبق منه شيئا من روح أو جسم إلا أحرقته قال تعالى: ﴿نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة﴾ الهمزة: 7.

ويمكن أن يراد أنها لا تبقيهم أحياء ولا تتركهم يموتون فيكون في معنى قوله تعالى: ﴿الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى﴾ الأعلى: 13.

وقيل: المعنى لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد فيعذب ثانيا.

وقيل: المراد أنها لا تبقي لهم لحما ولا تذر عظما، وقيل غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿لواحة للبشر﴾ اللواحة من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد وقيل: إلى الحمرة، والبشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد.

قوله تعالى: ﴿عليها تسعة عشر﴾ يتولون أمر عذاب المجرمين وقد أبهم ولم يصرح أنهم من الملائكة أو غيرهم غير أن المستفاد من آيات القيامة - وتصرح به الآية التالية - أنهم من الملائكة.

وقد استظهر بعضهم أن مميز قوله: ﴿تسعة عشر﴾ ملكا ثم قال: ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس: أنها لما نزلت ﴿عليها تسعة عشر﴾ قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين انتهى، وأنت ترى أن لا دليل في كلامه على ما يدعيه.

على أنه سمي الواحد من الخزنة رجلا ولا يطلق الرجل على الملك البتة ولا سيما عند المشركين الذين قال تعالى فيهم: ﴿وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا﴾ الزخرف: 19.

قوله تعالى: ﴿وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة﴾ إلى آخر الآية.

سياق الآية يشهد على أنهم تكلموا فيما ذكر في الآية من عدد خزان النار فنزلت هذه الآية، ويتأيد بذلك ما ورد من سبب النزول وسيوافيك في البحث الروائي التالي.

فقوله: ﴿وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة﴾ المراد بأصحاب النار خزنتها الموكلون عليها المتولون لتعذيب المجرمين فيها كما يفيده قوله: ﴿عليها تسعة عشر﴾ ويشهد بذلك قوله بعد: ﴿وما جعلنا عدتهم إلا فتنة﴾ إلخ.

ومحصل المعنى: أنا جعلناهم ملائكة يقدرون على ما أمروا به كما قال: ﴿عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ التحريم 6.

فليسوا من البشر حتى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم ويطيقوهم.

وقوله: ﴿وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا﴾ الفتنة المحنة والاختبار.

ذكروا أن المراد بالجعل الجعل بحسب الإخبار دون الجعل بحسب التكوين فالمعنى وما أخبرنا عن عدتهم أنها تسعة عشر إلا ليكون فتنة للذين كفروا، ويؤيده ذيل الكلام: ﴿ليستيقن الذين أوتوا الكتاب﴾ إلخ.

وقوله: ﴿ليستيقن الذين أوتوا الكتاب﴾ الاستيقان وجدان اليقين في النفس أي ليوقن أهل الكتاب بأن القرآن النازل عليك حق حيث يجدون ما أخبرنا به من عدة أصحاب النار موافقا لما ذكر فيما عندهم من الكتاب.

وقوله: ﴿ويزداد الذين آمنوا إيمانا﴾ أي بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

وقوله: ﴿وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا﴾ اللام في ﴿ليقول﴾ للعاقبة بخلاف اللام في ﴿ليستيقن﴾ فللتعليل بالغاية، والفرق أن قولهم: ﴿ماذا أراد الله بهذا مثلا﴾ تحقير وتهكم وهو كفر لا يعد غاية لفعله سبحانه إلا بالعرض بخلاف الاستيقان الذي هو من الإيمان، ولعل اختلاف المعنيين هو الموجب لإعادة اللام في قوله: ﴿وليقول﴾.

وقد فسروا ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ بالشك والجحود بالمنافقين وفسروا الكافرين بالمتظاهرين بالكفر من المشركين وغيرهم.

وقولهم: ﴿ماذا أراد الله بهذا مثلا﴾ أرادوا به التحقير والتهكم يشيرون بهذا إلى قوله تعالى: ﴿عليها تسعة عشر﴾ والمثل الوصف، والمعنى ما الذي يعنيه من وصف الخزنة بأنهم تسعة عشر؟ فهذه العدة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجن والإنس.

ذنابة لما تقدم من الكلام في النفاق ذكر بعضهم أن قوله تعالى: ﴿وليقول الذين في قلوبهم مرض﴾ الآية - بناء على أن السورة بتمامها مكية، وأن النفاق إنما حدث بالمدينة - إخبار عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة.

أما كون السورة بتمامها مكية فهو المتعين من طريق النقل وقد ادعي عليه إجماع المفسرين، وما نقل عن مقاتل أن قوله: ﴿وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة﴾ الآية مدني لم يثبت من طريق النقل، وعلى فرض الثبوت هو قول نظري مبني على حدوث النفاق بالمدينة والآية تخبر عنه.

وأما حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصر عليه بعضهم محتجا عليه بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوة ونفوذ الأمر وسعة الطول بحيث يهابهم الناس أو يرجى منهم خير حتى يتقوهم ويظهروا لهم الإيمان ويلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر وهذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة.

والحجة غير تامة - كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق فإن علل النفاق ليست تنحصر في المخافة والاتقاء أو الاستدرار من خير معجل فمن علله الطمع ولو في نفع مؤجل ومنها العصبية والحمية ومنها استقرار العادة ومنها غير ذلك.

ولا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة وقد نقل عن بعضهم أنه آمن ثم رجع أو آمن عن ريب ثم صلح.

على أنه تعالى يقول: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين - وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين﴾ العنكبوت: 11.

والآيتان في سورة مكية وهي سورة العنكبوت، وهما ناطقتان بوجود النفاق فيها ومع الغض عن كون السورة مكية فاشتمال الآية على حديث الإيذاء في الله والفتنة أصدق شاهد على نزول الآيتين بمكة فلم يكن بالمدينة إيذاء في الله وفتنة، واشتمال الآية على قوله: ﴿ولئن جاء نصر من ربك﴾ إلخ لا يدل على النزول بالمدينة فللنصر مصاديق أخرى غير الفتح المعجل.

واحتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقعت بمكة بعد الهجرة غير ضائر فإن هؤلاء المفتونين بمكة بعد الهجرة إنما كانوا من الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة وإن أوذوا بعدها.

وعلى مثل ذلك ينبغي أن يحمل قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه﴾ الحج: 11 إن كان المراد بالفتنة العذاب وإن كانت السورة مدنية.

وقوله: ﴿كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء﴾ الإشارة بذلك إلى مضمون قوله: ﴿وما جعلنا عدتهم إلا فتنة﴾ إلخ.

وقوله: ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾ علق تعالى العلم المنفي بالجنود - وهي الجموع الغليظة التي خلقهم وسائط لإجراء أوامره - لا بخصوص عدتهم فأفاد بإطلاقه أن العلم بحقيقتهم وخصوصيات خلقتهم وعدتهم وما يعملونه من عمل ودقائق الحكمة في جميع ذلك يختص به تعالى لا يشاركه فيه أحد، فليس لأحد أن يستقل عدتهم أو يستكثر أو يطعن في شيء مما يرجع إلى صفاتهم وهو جاهل بها.

وقوله: ﴿وما هي إلا ذكرى للبشر﴾ الضمير راجع إلى ما تقدم من قوله: ﴿عليها تسعة عشر﴾ وتأنيثه لتأنيث الخبر، والمعنى أن البشر لا سبيل لهم إلى العلم بجنود ربك وإنما أخبرنا عن خزنة النار أن عدتهم تسعة عشر ليكون ذكرى لهم يتعظون بها.

وقيل: الضمير للجنود، وقيل: لسقر، وقيل للسورة، وقيل: لنار الدنيا وهو أسخف الأقوال.

وفي الآية دلالة على أن الخطابات القرآنية لعامة البشر.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿فإذا نقر في الناقور - إلى قوله - وحيدا﴾ فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب، وكان من المستهزءين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقعد في الحجر ويقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد؟ أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد أنشدني من شعرك قال: ما هو شعر ولكنه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه ورسله فقال: اتل علي منه شيئا! فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حم السجدة فلما بلغ قوله: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة - مثل صاعقة عاد وثمود﴾ قال: فاقشعر الوليد وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ومر إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك.

فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبا إلى دين محمد أ ما تراه لم يرجع إلينا فغدا أبو جهل إلى الوليد فقال: يا عم نكست رءوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدونا وصبوت إلى دين محمد، فقال: ما صبوت إلى دينه ولكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود فقال له أبو جهل: أ خطب هو؟ قال: لا إن الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضا.

قال: أفشعر هو؟ قال: لا أما إني لقد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر.

قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه.

فلما كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس فأنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك: ﴿ذرني ومن خلقت وحيدا﴾.

وإنما سمي وحيدا لأنه قال لقريش: أنا أتوحد لكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة، وكان له مال كثير وحدائق، وكان له عشر بنين بمكة، وكان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها وتلك القنطار في ذلك الزمان، ويقال: إن القنطار جلد ثور مملوء ذهبا.

وفي الدر المنثور، أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجعلوا لك مالا ليعطوه لك فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده.

قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا.

قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر أو إنك كاره له، قال: وما ذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، ومغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: ﴿ذرني ومن خلقت وحيدا﴾.

وفي المجمع، روى العياشي بإسناده عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله وأبي جعفر (عليه السلام) أن الوحيد ولد الزنا.

قال زرارة: ذكر لأبي جعفر (عليه السلام) عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته: أنا ابن الوحيد فقال: ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له، وما هو؟ قال، من لا يعرف له أب.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد وابن المنذر والترمذي وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حيان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال، الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي وهو كذلك فيه أبدا.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى، ﴿ثم عبس﴾ قال، عبس وجهه ﴿وبسر﴾ قال، ألقى شدقه.