الآيات 36-44

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴿36﴾ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ﴿37﴾ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ﴿38﴾ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ﴿40﴾ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿41﴾ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿42﴾ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴿43﴾ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿44﴾

بيان:

لما ذكر سبحانه في الفصل الأول من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أن لهم عذابا واقعا ليس له دافع وهو النار المتلظية النزاعة للشوى التي تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى.

ثم بين في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة وهو أن الإنسان مجهز بغريزة الهلع وحب خير نفسه ويؤديه اتباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كل حق يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، ولا ينجو من ذلك إلا الصالحون عملا المصدقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربهم.

انعطف في هذا الفصل من الآيات - وهو الفصل الثالث - على أولئك الكفار كالمتعجب من أمرهم حيث يجتمعون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبه (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم وهو كافر وقد قدر الله سبحانه أن لا يكرم بجنته إلا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله ويعجزوه بنقض ما حكم به وإبطال ما قدره كلا إن الله الذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيرا منهم ويخلق مما خلقهم منه، غيرهم ممن يعبده ويدخل جنته.

ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقطع خصامهم ويذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

قوله تعالى: ﴿فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين﴾ قال في المجمع، قال الزجاج: المهطع المقبل ببصره على الشيء لا يزايله وذلك من نظر العدو، وقال أبو عبيدة الإهطاع الإسراع، وعزين جماعات في تفرقة، واحدتهم عزة.

انتهى، وقبل الشيء بالكسر فالفتح الجهة التي تليه والفاء في ﴿فما﴾ فصيحة.

والمعنى: إذا كان الإنسان بكفره واستكباره على الحق مصيره إلى النار إلا من استثني من المؤمنين فما للذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم وهم جماعات متفرقة عن يمينك وشمالك أ يطمعون أن يدخلوا الجنة فيعجزوا الله ويسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنة إلا الصلحاء من المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم﴾ الاستفهام للإنكار أي - ما هو الذي يحملهم على أن يحتفوا بك ويهطعوا عليك؟ - هل يحملهم على ذلك طمع كل منهم أن يدخل جنة نعيم وهو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنة.

ونسب الطمع إلى كل امرىء منهم ولم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أيطمعون أن يدخلوا إلخ كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لأن النافع من الطمع في السعادة والفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان والعمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنها جماعة فطمع المجموع من حيث إنه مجموع لا يكفي في سعادة كل واحد واحد.

وفي قوله: ﴿أن يدخل﴾ مجهولا من باب الإفعال إشارة إلى أن دخولهم في الجنة ليس منوطا باختيارهم ومشيتهم بل لو كان فإنما هو إلى الله سبحانه فهو الذي يدخلهم الجنة إن شاء ولن يدخل بما قدر أن لا يدخلها كافر.

قيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزءون بكلامه، ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات.

وهذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرع صنعهم ذلك على ما مر من حرمان الناس من دخول الجنة إلا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أن اجتماعهم حوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإهطاعهم عليه إنما حملهم عليه إفراطهم في عداوته ومبالغتهم في إيذائه وإهانته، وأن قولهم: سندخل الجنة قبل المؤمنين - وهم مشركون مصرون على إنكار المعاد غير معترفين بنار ولا جنة - إنما كان استهزاء وتهكما.

فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدم من حديث النار والجنة والسؤال - في سياق التعجيب - عن السبب الحامل لهم عليه ثم استفهام طمعهم في دخول الجنة وإنكاره عليهم.

فبما تقدم يتأيد أن يكون المراد بالذين كفروا في قوله: ﴿فما للذين كفروا﴾ قوما من المنافقين آمنوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرا ولازموه ثم كفروا برد بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم﴾ المنافقون: 3، وقوله: ﴿لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ التوبة: 66، وقوله: ﴿فأعقبهم نفاقا في قلوبهم﴾ التوبة: 77.

فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا ودخلوا في جماعة المؤمنين ولازموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهطعين عليه عن اليمين وعن الشمال عزين ثم كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنهم لا ينتفعون بملازمته ولا لهم أن يطمعوا في دخول الجنة فليسوا ممن يدخلها وليسوا بسابقين ولا معجزين.

ويؤيده قوله الآتي: ﴿إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم﴾ إلخ على ما سنشير إليه.

قوله تعالى: ﴿كلا إنا خلقناهم مما يعلمون﴾ ردع لهم عن الطمع في دخول الجنة مع كفرهم.

وقوله: ﴿إنا خلقناهم مما يعلمون﴾ المراد بما يعلمون النطفة فإن الإنسان مخلوق منها.

والكلام مرتبط بما بعده والمجموع تعليل للردع، ومحصل التعليل أنا خلقناهم من النطفة - وهم يعلمون به - فلنا أن نذهب بهم ونخلق مكانهم قوما آخرين يكونون خيرا منهم مؤمنين غير رادين لشيء من دين الله، ولسنا بمسبوقين حتى يعجزنا هؤلاء الكفار ويسبقونا فندخلهم الجنة وينتقض به ما قدرنا أن لا يدخل الجنة كافر.

وقيل: ﴿من﴾ في قوله: ﴿مما يعلمون﴾ تفيد معنى لام التعليل، والمعنى أنا خلقناهم لأجل ما يعلمون وهو الاستكمال بالإيمان والطاعة فمن الواجب أن يتلبسوا بذلك حتى ندخلهم الجنة فكيف يطمعون في دخولها وهم كفار؟ وإنما علموا بذلك من طريق إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقيل: ﴿من﴾ لابتداء الغاية، والمعنى: أنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس والطهارة حتى تتطهر بالإيمان والطاعة وتتخلق بأخلاق الملائكة فتدخل وأنى لهم ذلك وهم كفار.

وقيل: المراد بما في ﴿ما يعلمون﴾ الجنس، والمعنى أنا خلقناهم من جنس الآدميين الذين يعلمون أو من الخلق الذين يعلمون لا من جنس الحيوانات التي لا تعقل ولا تفقه فالحجة لازمة لهم تامة عليهم، والوجوه الثلاثة سخيفة.

قوله تعالى: ﴿فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين﴾ المراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس ومغاربها فإن لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقا ومغربا لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، ومن المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.

وفي الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله: ﴿فلا أقسم﴾ التفات من التكلم مع الغير في ﴿إنا خلقناهم﴾ إلى التكلم وحده، والوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه.

وفي قوله: ﴿برب المشارق والمغارب﴾ التفات من التكلم وحده إلى الغيبة، والوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيل وهي ربوبيته للمشارق والمغارب فإن الشروق بعد الشروق والغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلا تاما في تكون الإنسان جيلا بعد جيل وسائر الحوادث الأرضية المقارنة له.

وفي قوله: ﴿إنا لقادرون﴾ التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإن الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكونها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله عن شيء منها ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله خيرا منه وإلا شاركه المانع في أمر التدبير والله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته فافهم ذلك.

وقوله: ﴿إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم﴾ ﴿على﴾ متعلق بقوله: ﴿لقادرون﴾ والمفعول الأول لنبدل ضمير محذوف راجع إليهم وإنما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم وعدم الاهتمام بهم، و﴿خيرا﴾ مفعوله الثاني وهو صفة أقيمت مقام موصوفها، والتقدير إنا لقادرون على أن نبدلهم قوما خيرا منهم، وخيريتهم منهم أن يؤمنوا بالله ولا يكفروا به ويتبعوا الحق ولا يردوه.

وقوله: ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، وكونه تعالى مسبوقا هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم ويأتي بدلهم بقوم خير منهم.

وسياق الآية لا يخلو من تأييد ما لما تقدم من كون المراد بالذين كفروا قوما من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإن ظاهر قوله: ﴿خيرا منهم﴾ لا يخلو من دلالة أو إشعار بأن فيهم شائبة خيرية ولله أن يبدل خيرا منهم، والمشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفظهم على ظواهر الدين مما آمنوا به ولم يردوه من خير للإسلام.

فقد بان بما تقدم أن قوله: ﴿إنا خلقناهم مما يعلمون﴾ إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله: ﴿كلا﴾ وأن محصل مضمون الآيات الثلاث أنهم مخلوقون من نطفة - وهم يعلمون ذلك - وهي خلقة جارية والله الذي هو رب الحوادث الجارية التي منها خلق الإنسان جيلا بعد جيل والمدبر لها قادر أن يذهب بهم ويبدلهم خيرا منهم يعتنون بأمر الدين ويستأهلون لدخول الجنة، ولا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدلهم خيرا منهم ويدخلهم الجنة بكمال إيمانهم من غير أن يضطر إلى إدخال هؤلاء الجنة فلا ينتقض تقديره أن الجنة للصالحين من أهل الإيمان.

قوله تعالى: ﴿فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون﴾ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم وما هم فيه، ولا يلح عليهم بحجاج ولا يتعب نفسه فيهم بعظة، وقد سمي ما هم عليه بالخوض واللعب دلالة على أنهم لا ينتفعون به انتفاعا حقيقيا على ما لهم فيه من الإمعان والإصرار كاللعب الذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون وهو يوم القيامة.

وفي إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم وهو الاختصاص بعذابهم.

قوله تعالى: ﴿يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون﴾ بيان ليومهم الذي يوعدون وهو يوم القيامة.

والأجداث جمع جدث وهو القبر، وسراعا جمع سريع، والنصب ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، وقيل: هو الصنم المنصوب للعبادة وهو بعيد من كلامه تعالى، والإيفاض الإسراع والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون﴾ الخشوع تأثر خاص في القلب عن مشاهدة العظمة والكبرياء، ويناظره الخضوع في الجوارح، ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها، والرهق غشيان الشيء بقهر.

وقوله: ﴿ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون﴾ الإشارة إلى ما مر من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعا وخشوع الأبصار ورهق الذلة.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد فقال: ما لي أراكم عزين حلقا حلق الجاهلية قعد رجل خلف أخيه.

أقول: ورواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة ولفظه: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه جلوس حلقا حلقا فقال: ما لي أراكم عزين، وروي هذا المعنى أيضا عن جابر بن سمرة.

وفي تفسير القمي، وقوله: ﴿كلا إنا خلقناهم مما يعلمون﴾ قال: من نطفة ثم علقة، وقوله: ﴿فلا أقسم﴾ أي أقسم ﴿برب المشارق والمغارب﴾ قال: مشارق الشتاء ومشارق الصيف ومغارب الشتاء ومغارب الصيف.

وفي المعاني، بإسناده إلى عبد الله بن أبي حماد رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لها ثلاثمائة وستون مشرقا وثلاثمائة وستون مغربا فيومها الذي تشرق فيه لا تعود فيه إلا من قابل.

وفي تفسير القمي، وقوله: ﴿يوم يخرجون من الأجداث سراعا﴾ قال: من القبر ﴿كأنهم إلى نصب يوفضون﴾ قال: إلى الداعي ينادون، وقوله: ﴿ترهقهم ذلة﴾ قال: تصيبهم ذلة.