الآيات 57-75

وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿57﴾ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴿58﴾ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴿59﴾ وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿60﴾ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴿61﴾ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿62﴾ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴿63﴾ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴿64﴾ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴿65﴾ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ ﴿66﴾ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴿67﴾ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿68﴾ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿69﴾ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿70﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ ﴿71﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿72﴾ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿73﴾ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿74﴾ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿75﴾

بيان:

تذكر الآيات عذرا آخر مما اعتذر به مشركو مكة عن الإيمان بكتاب الله بعد ما ذكرت عذرهم السابق: ﴿لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى﴾ وردته وهو قولهم: إن آمنا بما جاء به كتابك من الهدى وهو دين التوحيد تخطفنا مشركو العرب من أرضنا بالقتل والسبي والنهب وسلب الأمن والسلام.

فرده تعالى بأنا جعلنا لهم حرما آمنا يحترمه العرب ويجبى إليه ثمرات كل شيء فلا موجب لخوفهم من تخطفهم.

على أن تنعمهم بالأموال والأولاد وبطر معيشتهم لا يضمن لهم الأمن من الهلاك حتى يرجحوه على اتباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله واستأصلها وورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا.

على أن الذي يؤثرونه على اتباع الهدى إنما هو متاع الحياة الدنيا العاجلة ولا يختاره عاقل على الحياة الآخرة الخالدة التي عند الله سبحانه.

على أن الخلق والأمر لله فإذا اختار شيئا وأمر به فليس لأحد أن يخالفه إلى ما يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثم استشهد تعالى بقصة قارون وخسفه به وبداره الأرض.

قوله تعالى: ﴿وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾ إلى آخر الآية.

التخطف الاختلاس بسرعة، وقيل الخطف والتخطف الاستلاب من كل وجه، وكان تخطفهم من أرضهم استعارة أريد به القتل والسبي ونهب الأموال كأنهم وما يتعلق بهم من أهل ومال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم، والمراد بالأرض أرض مكة والحرم بدليل قوله بعد: ﴿أولم نمكن لهم حرما آمنا﴾ والقائل بعض مشركي مكة.

والجملة مسوقة للاعتذار عن الإيمان بأنهم إن آمنوا تخطفتهم العرب من أرضهم أرض مكة لأنهم مشركون لا يرضون بإيمانهم ورفض أوثانهم فهو من قبيل إبداء المانع ففيه اعتراف بحقية أصل الدعوة وأن الكتاب بما يشتمل عليه حق لكن خطر التخطف مانع من قبوله والإيمان به، ولهذا عبر بقوله: ﴿إن نتبع الهدى معك﴾ ولم يقل: إن نتبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك.

وقوله: ﴿أولم نمكن لهم حرما آمنا﴾ قيل: التمكين مضمن معنى الجعل والمعنى أ ولم نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم، وقيل: حرما منصوبا على الظرفية والمعنى: أ ولم نمكن لهم في حرم، و﴿آمنا﴾ صفة ﴿حرما﴾ أي حرما ذا أمن، وعد الحرم ذا أمن - والمتلبس بالأمن أهله - من المجاز في النسبة، والجملة معطوفة على محذوف والتقدير أ ولم نعصمهم ونجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم.

وهذا جواب أول منه تعالى لقولهم: ﴿إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾ ومحصله: أنا مكناهم في أرض جعلناها حرما ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب لخوفهم أن يتخطفوا منها أن آمنوا.

وقوله: ﴿يجبى إليه ثمرات كل شيء﴾ الجباية الجمع، والكل للتكثير لا للعموم لعدم إرادة العموم قطعا، والمعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء، والجملة صفة لحرما جيء بها لما عسى أن يتوهم أنهم يتضررون إن آمنوا بانقطاع الميرة.

وقوله: ﴿رزقا من لدنا﴾ مفعول مطلق أو حال من ثمرات، وقوله: ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ استدراك عن جميع ما تقدم أي إنا نحن حفظناهم في أمن ورزقناهم من كل الثمرات لكن أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أن الذي يحفظهم من تخطف العرب هو شركهم وعبادتهم الأصنام.

قوله تعالى: ﴿وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها﴾ إلى آخر الآية البطر الطغيان عند النعمة، و﴿معيشتها﴾ منصوب بنزع الخافض أي وكم أهلكنا من قرية طغت في معيشتها.

وقوله: ﴿فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا﴾ أي إن مساكنهم الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر ولم تسكن بعد هلاكهم إلا قليلا منها.

وبذلك يظهر أن الأنسب كون ﴿إلا قليلا﴾ استثناء من ﴿مساكنهم﴾ لا من قوله: ﴿من بعدهم﴾ بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم في الأسفار.

وقوله: ﴿وكنا نحن الوارثين﴾ حيث ملكوها ثم تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن ورثناهم مساكنهم، وفي الجملة أعني قوله: ﴿كنا نحن الوارثين﴾ عناية لطيفة فإنه تعالى هو المالك لكل شيء ملكا حقيقيا مطلقا فهو المالك لمساكنهم وقد ملكها إياهم بتسليطهم عليها ثم نزعها من أيديهم بإهلاكهم وبقيت بعدهم لا مالك لها إلا هو فسمى نفسه وارثا لهم بعناية أنه الباقي بعدهم وهو المالك لما كان بأيديهم كان ملكهم الاعتباري انتقل إليه ولا انتقال هناك بالحقيقة وإنما ظهر ملكه الحقيقي بزوال ملكهم الاعتباري.

والآية جواب ثان منه تعالى لقولهم: ﴿إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾ ومحصله أن مجرد عدم تخطف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء ولا يحفظ لكم أرضكم والتنعم فيها كما تشاءون فكم من قرية بالغة في التنعم ذات أشر وبطر أهلكنا أهلها وبقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها إلا الله.

قوله تعالى: ﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا﴾ أم القرى هي أصلها وكبيرتها التي ترجع إليها وفي الآية بيان السنة الإلهية في عذاب القرى بالاستئصال وهو أن عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى إلا بعد إتمام الحجة عليهم بإرسال رسول يتلو عليهم آيات الله، وإلا بعد كون المعذبين ظالمين بالكفر بآيات الله وتكذيب رسوله.

وفي تعقيب الآية السابقة بهذه الآية الشارحة لسنته تعالى في إهلاك القرى تخويف لأهل مكة المشركين بالإيماء إلى أنهم لو أصروا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب لأن الله قد بعث في أم قراهم وهي مكة رسولا يتلو عليهم آياته وهم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم.

وبذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: ﴿وما كان ربك مهلك القرى﴾ فإن في الإيماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقوية لنفسه وتأكيدا لحجته، وأما العدول بعده إلى سياق التكلم بالغير في قوله: ﴿وما كنا مهلكي القرى﴾ فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر.

قوله تعالى: ﴿وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا﴾ إلخ الإيتاء: الإعطاء و﴿من شيء﴾ بيان لما لإفادة العموم أي كل شيء أوتيتموه، والمتاع ما يتمتع به والزينة ما ينضم إلى الشيء ليفيده جمالا وحسنا، والحياة الدنيا الحياة المؤجلة المقطوعة التي هي أقرب الحياتين منا وتقابلها الحياة الآخرة التي هي خالدة مؤبدة، والمراد بما عند الله الحياة الآخرة السعيدة التي عند الله وجواره ولذا عد خيرا وأبقى.

والمعنى: أن جميع النعم الدنيوية التي أعطاكم الله إياها متاع وزينة زينت بها هذه الحياة الدنيا التي هي أقرب الحياتين منكم وهي بائدة فانية وما عند الله من ثوابه في الدار الآخرة المترتب على اتباع الهدى والإيمان بآيات الله خير وأبقى فينبغي أن تؤثروه على متاع الدنيا وزينتها أ فلا تعقلون.

والآية جواب ثالث عن قولهم: ﴿إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾ محصله لنسلم أنكم إن اتبعتم الهدى تخطفكم العرب من أرضكم لكن الذي تفقدونه هو متاع الحياة الدنيا وزينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عند الله من ثواب اتباع الهدى وسعادة الحياة الآخرة وهي خير وأبقى.

قوله تعالى: ﴿أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين﴾ الآية إلى تمام سبع آيات إيضاح لمضمون الآية السابقة - وهو أن إيثار اتباع الهدى أولى من تركه والتمتع بمتاع الحياة الدنيا - ببيان آخر فيه مقايسة حال من اتبع الهدى وما يلقاه من الوعد الحسن الذي وعده الله، من حال من لم يتبعه واقتصر على التمتع من متاع الحياة الدنيا وسيستقبله يوم القيامة الإحضار وتبري آلهته منه وعدم استجابتهم لدعوته ومشاهدة العذاب والسؤال عن إجابتهم الرسل.

فقوله: ﴿أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه﴾ الاستفهام إنكاري، والوعد الحسن هو وعده تعالى بالمغفرة والجنة كما قال تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم﴾ المائدة: 9، ولا يكذب وعده تعالى قال: ﴿ألا إن وعد الله حق﴾ يونس: 55.

وقوله: ﴿كمن متعناه متاع الحياة الدنيا﴾ أي وهو محروم من ذلك الوعد الحسن لاقتصاره على التمتع بمتاعها، والدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد والتمتيع.

وقوله: ﴿ثم هو يوم القيامة من المحضرين﴾ أي للعذاب، أو للسؤال والمؤاخذة و﴿ثم﴾ للترتيب الكلامي وإتيان الجملة اسمية كما فيما يقابلها من قوله: ﴿فهو لاقيه﴾ للدلالة على التحقق.

قوله تعالى: ﴿ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون﴾ الشركاء هم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا وكونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون إليهم بعض ما هو من شئونه تعالى كالعبادة والتدبير، وفي قوله: ﴿يناديهم﴾ إشارة إلى بعدهم وخذلانهم يومئذ.

قوله تعالى: ﴿قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا﴾ آلهتهم الذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون كالملائكة المقربين وعيسى بن مريم (عليهما السلام)، وصنف منهم كعتاة الجن ومدعي الألوهية من الإنس كفرعون ونمرود وغيرهما وقد ألحق الله سبحانه بهم كل مطاع في باطل كإبليس وقرناء الشياطين وأئمة الضلال كما قال: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان - إلى أن قال - ولقد أضل منكم جبلا كثيرا﴾ يس: 62، وقال: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ الجاثية: 23، وقال: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله﴾ التوبة: 31.

والذين يشير إليهم قوله: ﴿قال الذين حق عليهم القول﴾ هم من الصنف الثاني بدليل ذكرهم إغواءهم وتبريهم من عبادتهم وهؤلاء المشركون وإن كانوا أنفسهم أيضا ممن حق عليهم القول كما يشير إليه قوله: ﴿حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ الم السجدة: 13، ولكن المراد بهم في الآية المبحوث عنها المتبوعون منهم الذين ينتهي إليهم الشرك والضلال.

وإيراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أن المسئولين أشاروا إليهم لعله للإشارة إلى أنهم ضلوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى: ﴿ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل﴾ حم السجدة: 48.

وقوله: ﴿ربنا هؤلاء الذين أغوينا﴾ أي هؤلاء - يشيرون إلى المشركين - هم الذين أغويناهم والجملة توطئة للجملة التالية.

وقوله: ﴿أغويناهم كما غوينا﴾ أي كانت غوايتهم بإغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما كنا غوينا باختيارنا من غير إلجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غير إلجاء، والدليل على هذا المعنى ما حكاه الله عن إبليس يومئذ إذ قال: ﴿وما كان لي عليكم من سلطان﴾ .

﴿إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴿: إبراهيم: 22، وقال حاكيا لتساؤل الظالمين وقرنائهم: ﴿وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين﴾ الصافات: 32، أي ما كان ليصل إليكم منا ونحن غاون غير الغواية.

ومن هنا يظهر أن لقولهم: ﴿أغويناهم كما غوينا﴾ معنى آخر، وهو أنهم اكتسبوا نظير الوصف الذي كان فينا غير أنا نتبرأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية ما كانوا يعبدوننا بإلجاء.

وقوله: ﴿تبرأنا إليك﴾ تبر منهم مطلقا حيث لم يكن لهم أن يلجئوهم ويسلبوا منهم الاختيار، وقوله ﴿ما كانوا إيانا يعبدون﴾ أي بإلجاء منا، أو لتبرينا من أعمالهم فإن من تبرأ من عمل لم ينتسب إليه وإلى هذا المعنى يئول قوله تعالى في مواضع من كلامه في وصف هذا الموقف: ﴿وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ الأنعام: 24 ﴿وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل﴾ حم السجدة: 48 ﴿ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون﴾ يونس: 28، إلى غير ذلك من الآيات فافهم.

وقيل: المعنى تبرأنا إليك من أعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون بل كانوا يعبدون أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين.

ولا يخلو من سخافة.

ولكون كل من قوليه: ﴿تبرأنا إليك﴾ ﴿ما كانوا إيانا يعبدون﴾ في معنى قوله: ﴿أغويناهم كما غوينا﴾ جيء بالفصل من غير عطف.

قوله تعالى: ﴿وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون﴾ المراد بشركائهم الآلهة التي كانوا شركاء لله بزعمهم ولذا أضافهم إليهم.

والمراد بدعوتهم دعوتهم إياهم لينصروهم ويدفعوا عنهم العذاب ولذا قال: ﴿ورأوا العذاب﴾ بعد قوله: ﴿فلم يستجيبوا لهم﴾.

وقوله: ﴿لو أنهم كانوا يهتدون﴾ قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أن العذاب حق، ويمكن أن يكون لو للتمني أي ليتهم كانوا يهتدون.

قوله تعالى: ﴿ويوم يناديهم فيقول ما ذا أجبتم المرسلين﴾ معطوف على قوله السابق: ﴿ويوم يناديهم﴾ إلخ، سئلوا أولا: عن شركائهم وأمروا أن يستنصروهم، وثانيا: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عند الله.

والمعنى: ما ذا قلتم في جواب من أرسل إليكم من رسل الله فدعوكم إلى الإيمان والعمل الصالح؟.

قوله تعالى: ﴿فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون﴾ العمى استعارة عن جعل الإنسان بحيث لا يهتدي إلى خبر، وكان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا إلى الأنباء لكن عكس الأمر فقيل: ﴿فعميت عليهم الأنباء﴾ للدلالة على أخذهم من كل جانب وسد جميع الطرق وتقطع الأسباب بهم كما قال: ﴿وتقطعت بهم الأسباب﴾ البقرة: 166، فلسقوط الأسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدي إليهم الأخبار ولا يجدون شيئا يعتذرون به للتخلص من العذاب.

وقوله: ﴿فهم لا يتساءلون﴾ تفريع على عمى الأنباء من قبيل تفرع بعض أفراد العام عليه أي لا يسأل بعضهم بعضا ليعدوا به عذرا يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل وردهم الدعوة.

وقد فسر صدر الآية وذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرض لها فرأينا الصفح عنها أولى.

قوله تعالى: ﴿فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين﴾ أي هذه حال من كفر ولم يرجع إلى الله سبحانه فأما من رجع وآمن وعمل صالحا فمن المرجو أن يكون من المفلحين، وعسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب، والمعنى: فليتوقع الفلاح.

قوله تعالى: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون﴾ الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير.

والآية جواب رابع عن قولهم: ﴿إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾ والذي يتضمنه حجة قاطعة.

بيان ذلك: أن الخلق وهو الصنع والإيجاد ينتهي إليه تعالى كما قال: ﴿الله خالق كل شيء﴾ الزمر: 62 فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شيء هناك يلجئه تعالى على فعل من الأفعال فإن هذا الشيء المفروض إما مخلوق له منته في وجوده إليه فوجوده وآثار وجوده ينتهي إليه تعالى ولا معنى لتأثير الشيء ولا لتأثير أثره في نفسه وإما غير مخلوق له ولا منته في وجوده إليه يؤثر فيه بالإلجاء والقهر ولا مؤثر في الوجود غيره ولا أن هناك شيئا لا ينتهي في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شيء أثرا ولا يمنعه شيء من أثر كما قال: ﴿والله يحكم لا معقب لحكمه﴾ الرعد: 41، وقال: ﴿والله غالب على أمره﴾ يوسف: 21.

وإذ لا قاهر يقهره على فعل ولا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب التكوين والتشريع يتبعه فإن حقيقة التشريع هي أنه فطر الناس على فطرة لا تستقيم إلا بإتيان أمور هي الواجبات وما في حكمها وترك أمور هي المحرمات وما في حكمها فما ينتفع به الإنسان في كماله وسعادته هو الذي أمر به وندب إليه وما يتضرر به هو الذي نهى عنه وحذر منه.

فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الأحكام والقوانين ما يشاء كما أن له أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق والتدبير ما يشاء، وهذا معنى قوله: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار﴾ وقد أطلق إطلاقا.

والظاهر أن قوله: ﴿يخلق ما يشاء﴾ إشارة إلى اختياره التكويني فإن معنى إطلاقه أنه لا تقصر قدرته عن خلق شيء ولا يمنعه شيء عما يشاؤه وبعبارة أخرى لا يمتنع عن مشيته شيء لا بنفسه ولا بمانع يمنع وهذا هو الاختيار بحقيقة معناه، وقوله: ﴿ويختار﴾ إشارة إلى اختياره التشريعي الاعتباري ويكون عطفه على قوله: ﴿يخلق ما يشاء﴾ من عطف المسبب على سببه لكون التشريع والاعتبار متفرعا على التكوين والحقيقة.

ويمكن حمل قوله: ﴿يخلق ما يشاء﴾ على الاختيار التكويني وقوله: ﴿ويختار﴾ على الأعم من الحقيقة والاعتبار لكن الوجه السابق أوجه، ومن الدليل عليه كون المنفي في قوله الآتي: ﴿ما كان لهم الخيرة﴾ هو الاختيار التشريعي الاعتباري، والاختيار المثبت في قوله ﴿ويختار﴾ يقابله فالمراد إثبات الاختيار التشريعي الاعتباري.

ثم لا ريب في أن الإنسان له اختيار تكويني بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه بالعلم والإرادة وإن لم يكن اختيارا مطلقا فإن للأسباب والعلل الخارجية دخلا في أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلا متوقف على تحقق مادة الطعام خارجا وقابليته وملائمته وقربه منه ومساعدة أدوات الأخذ والقبض والالتقام والمضغ والبلع وغير ذلك مما لا يحصى.

فصدور الفعل الاختياري عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجية الداخلية في تحقق فعله، والله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعا وإليه ينتهي الكل وهو الذي خلق الإنسان منعوتا بنعت الاختيار وأعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.

ثم إن الإنسان يرى بالطبع لنفسه اختيارا تشريعيا اعتباريا فيما يشاؤه من فعل أو ترك بحذاء اختياره التكويني فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء من غير أن يكون لأحد من بني نوعه أن يحمله على شيء أو يمنعه عن شيء لكونهم أمثالا له لا يزيدون عليه بشيء في معنى الإنسانية ولا يملكون منه شيئا، وهذا هو المراد بكون الإنسان حرا بالطبع.

فالإنسان مختار في نفسه حر بالطبع إلا أن يملك غيره من نفسه شيئا فيسلب بنفسه عن نفسه الحرية كما أن الإنسان الاجتماعي يسلب عن نفسه الحرية بالنسبة إلى موارد السنن والقوانين الجارية في مجتمعه بدخوله في المجتمع وإمضائه ما يجري فيه من سنن وقوانين سواء كانت دينية أو اجتماعية، وكما أن المتقاتلين يملك كل منهما الآخر من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، وكما أن الأجير إذا ابتاع عمله وآجر نفسه فليس بحر في عمله إذ المملوكية لا تجامع الحرية.

فالإنسان بالنسبة إلى سائر بني نوعه حر في عمله مختار في فعله إلا أن يسلب باختيار منه شيئا من اختياره فيملك غيره، والله سبحانه يملك الإنسان في نفسه وفي فعله الصادر منه ملكا مطلقا بالملك التكويني وبالملك الوضعي الاعتباري فلا خيرة له ولا حرية بالنسبة إلى ما يريده منه تشريعا بأمر أو نهي تشريعيين كما لا خيرة ولا حرية له بالنسبة إلى ما يشاؤه بمشيته التكوينية.

وهذا هو المراد بقوله: ﴿ما كان لهم الخيرة﴾ أي لا اختيار لهم إذا اختار الله سبحانه لهم شيئا من فعل أو ترك حتى يختاروا لأنفسهم ما يشاءون وإن خالف ما اختاره الله والآية قريبة المعنى من قوله تعالى: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم﴾ الأحزاب: 36، وللقوم في تفسير الآية أقاويل مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطولات.

وقوله: ﴿سبحان الله وتعالى عما يشركون﴾ أي عن شركهم باختيارهم أصناما آلهة يعبدونها من دون الله.

وهاهنا معنى آخر أدق أي تنزه وتعالى عن شركهم بادعاء أن لهم خيرة بالنسبة إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو رده فإن الخيرة بهذا المعنى لا تتم إلا بدعوى الاستقلال في الوجود والاستغناء عنه تعالى ولا تتم إلا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الألوهية.

وفي قوله: ﴿وربك يخلق﴾ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة والنكتة فيه تأييد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقويته وتطييب نفسه بإضافة صفة الرب إليه فإن معناه أن ما أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله ورده، ولأنهم لا يقبلون ربوبيته.

وفي قوله: ﴿سبحان الله﴾ وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه إرجاع الأمر إلى الذات المتعالية التي هي المبدأ للتنزه والتعالي عن كل ما لا يليق بساحة قدسه فإنه تعالى يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقص لأنه هو الله عز اسمه.

قوله تعالى: ﴿وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون﴾ الإكنان الإخفاء والإعلان الإظهار، ولكون الصدر يعد مخزنا للأسرار نسب الإكنان إلى الصدور والإعلان إليهم أنفسهم.

ولعل تعقيب الآية السابقة بهذه الآية للإشارة إلى أنه تعالى إنما اختار لهم ما اختار لعلمه بما في ظاهرهم وباطنهم من أوساخ الشرك والمعصية فطهرهم بذلك بحكمته.

قوله تعالى: ﴿وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون﴾ ظاهر السياق أن الضمير في صدر الآية راجع إلى ﴿ربك﴾ في الآية السابقة، والظاهر على هذا أن اللام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، وقوله: ﴿لا إله إلا هو﴾ تأكيد للحصر المستفاد من قوله: ﴿هو الله﴾ كأنه قيل: وهو الإله - المتصف وحده بالألوهية - لا إله إلا هو.

وعلى ذلك فالآية كالمتمم لبيان الآية السابقة كأنه قيل: هو سبحانه مختار له أن يختار عليهم أن يعبدوه وحده، وهو يعلم ظاهرهم وباطنهم فله أن يقضي عليهم أن يعبدوه وحده وهو الإله المستحق للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده.

ويكون ما في ذيل الآية من قوله: ﴿له الحمد﴾ إلخ، وجوها ثلاثة توجه كونه تعالى معبودا مستحقا للعبادة وحده.

أما قوله: ﴿له الحمد في الأولى والآخرة﴾ فلأن كل كمال موجود في الدنيا والآخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحق بها جميل الثناء، وكل جميل من هذه النعم الموهوبة مترشحة من كمال ذاتي من صفاته الذاتية يستحق بها الثناء فله كل الثناء ولا يستقل شيء غيره بشيء من الثناء يثنى عليه به إلا وينتهي إليه والعبادة ثناء بقول أو فعل فهو المعبود المستحق للعبادة وحده.

وأما قوله: ﴿وله الحكم﴾ فلأنه سبحانه هو المالك على الإطلاق لا يملك غيره إلا ما ملكه إياه وهو المالك لما ملكه وهو سبحانه مالك في مرحلة التشريع والاعتبار كما أنه مالك في مرحلة التكوين والحقيقة، ومن آثار ملكه أن يقضي على عبيده ومملوكيه أن لا يعبدوا إلا إياه.

وأما قوله: ﴿وإليه ترجعون﴾ فلأن الرجوع للحساب والجزاء وإذ كان هو المرجع فهو المحاسب المجازي وإذ كان هو المحاسب المجازي وحده فهو الذي يجب أن يعبد وحده وله دين يجب أن يتعبد به وحده.

قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة﴾ إلى آخر الآية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، وقيل: هو من السرد والميم زائدة ومعناه المتتابع المطرد، وتقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة.

وقوله: ﴿من إله غير الله يأتيكم بضياء﴾ أي من الإله الذي ينقض حكمه تعالى ويأتيكم بضياء تستضيئون به وتسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، ويجري نظيره في قوله الآتي: ﴿من إله غير الله يأتيكم بليل﴾ إلخ.

وبذلك يندفع ما استشكل على الآيتين من أنه لو فرض تحقق جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة لم يتصور معه الإتيان بضياء أصلا لأن الذي يأتي به إما هو الله تعالى وإما هو غيره أما غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، وأما الله تعالى فإتيانه به يستلزم اجتماع الليل والنهار وهو محال والمحال لا يتعلق به القدرة ولا الإرادة، وكذا الكلام في جانب النهار.

وربما أجيب عنه بأن المراد بقوله: ﴿إن جعل الله عليكم﴾ إن أراد الله أن يجعل عليكم، وهو كما ترى.

وكان مقتضى الظاهر أن يقال: من إله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق المقابلة بين الليل والنهار في الكلام لكن العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل الإلزام في الحجة بأهون ما يفرض وأيسره ليظهر بطلان مدعى الخصم أتم الظهور كأنه قيل: لو كان غيره تعالى إله يدبر أمر العالم فإن جعل الله الليل سرمدا فليقدر أن يأتي بالنهار، تنزلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة لشيء على ذلك إن القدرة كلها لله سبحانه.

ولا يجري نظير هذا الوجه في الآية التالية في الليل حتى يصح أن يقال مثلا: من إله غير الله يأتيكم بظلمة لأن المأتي به إن كان ظلمة ما لم تكف للسكن وإن كان ظلمة ممتدة كانت هي الليل.

وتنكير ﴿ضياء﴾ يؤيد ما ذكر من الوجه، وقد أوردوا وجوها أخرى في ذلك لا تخلو من تعسف.

وقوله: ﴿أفلا تسمعون﴾ أي سمع تفهم وتفكر حتى تتفكروا فتفهموا أن لا إله غيره تعالى.

قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه﴾ أي تستريحون فيه مما أصابكم من تعب السعي للمعاش.

وقوله: ﴿أفلا تبصرون﴾ أي إبصار تفهم وتذكر وإذ لم يبصروا ولم يسمعوا فهم عمي صم، ومن اللطيف تذييل الآيتين بقوله: ﴿أفلا تسمعون﴾ ﴿أفلا تبصرون﴾ ولعل آية النهار خص بالإبصار لمناسبة ضوء النهار الإبصار وبقي السمع لآية الليل وهو لا يخلو من مناسبة معه.

قوله تعالى: ﴿ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون﴾ الآية بمنزلة نتيجة الحجة المذكورة في الآيتين السابقتين سيقت بعد إبطال دعوى الخصم في صورة الإخبار الابتدائي لثبوته من غير معارض.

وقوله: ﴿لتسكنوا فيه﴾ اللام للتعليل والضمير لليل، أي جعل لكم الليل لتستريحوا فيه، وقوله: ﴿لتبتغوا من فضله﴾ أي وجعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه الذي هو عطيته فرجوع ﴿لتسكنوا﴾ و﴿لتبتغوا﴾ إلى الليل والنهار بطريق اللف والنشر المرتب، وقوله: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ راجع إليهما جميعا.

وقوله: ﴿ومن رحمته جعل لكم﴾ في معنى قولنا: جعل لكم وذلك رحمة منه وفيه إشارة إلى أن التكوين كالسكون والابتغاء والتشريع وهو هدايتهم إلى الشكر من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون﴾ تقدم تفسيره وقد كررت الآية لحاجة مضمون الآية التالية إليها.

قوله تعالى: ﴿ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم﴾ إلى آخر الآية، إشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، والمراد بالشهيد شهيد الأعمال - كما تقدمت الإشارة إليه مرارا - ولا ظهور للآية في كونه هو النبي المبعوث إلى الأمة نظرا إلى إفراد الشهيد وذكر الأمة إذ الأمة هي الجماعة من الناس ولا ظهور ولا نصوصية له في الجماعة الذين أرسل إليهم نبي وإن كانت من مصاديقها.

وقوله: ﴿فقلنا هاتوا برهانكم﴾ أي طالبناهم بالحجة القاطعة على ما زعموا أن لله شركاء.

وقوله: ﴿فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ أي غاب عنهم زعمهم الباطل أن لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أن الحق في الألوهية لله وحده فالمراد بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة.

كذا فسروه، ففي الكلام تقديم وتأخير والأصل فضل عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أن الحق لله.

وعلى هذا فقوله: ﴿إن الحق لله﴾ نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا تداعيا في حق يدعيه كل لنفسه: أن الحق لفلان لا لفلان كأنه تعالى يخاصم المشركين حيث يدعون أن الألوهية بمعنى المعبودية حق لشركائهم فيدعي تعالى أنه حقه فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضل عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أن هذا الحق لله فالألوهية حق ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقا لغيره تعالى فهو حق له.

وهذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة التي يعطيها كلامه تعالى أن من خاصة يوم القيامة أن الحق يتمحض فيه للظهور ظهورا مشهودا لا ستر عليه فليرتفع به كل باطل يلتبس به الأمر ويتشبه بالحق، ولازمه أن يظهر أمر الألوهية ظهورا لا ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعا مترتبا عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء فيستنتج منه توحده تعالى بالألوهية على سبيل الاحتجاجات الفكرية فافهم ذلك.

وبذلك يندفع أولا ما يرد على الوجه السابق أن المستفاد من كلامه تعالى أنهم لا حجة عقلية لهم على مدعاهم ولا موجب على هذا لتأخر علمهم أن الحق لله إلى يوم القيامة، ويرتفع ثانيا حديث التقديم والتأخير المذكور الذي لا نكتة له ظاهرا إلا رعاية السجع.

ومن الممكن أن يكون ﴿الحق﴾ في قوله: ﴿فعلموا أن الحق لله﴾ مصدرا فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله: ﴿ويعلمون أن الله هو الحق المبين﴾ النور: 25، فكون الحق لله هو كونه تعالى حقا إن أريد به الحق في ذاته أو كونه منتهيا إليه قائما به إن أريد به غيره، كما قال تعالى: ﴿الحق من ربك﴾ آل عمران: 60، ولم يقل: الحق مع ربك.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾ الآية، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام والهجرة وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فقال الله عز وجل: ﴿أولم نمكن لهم حرما آمنا - يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا - ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾.

أقول: وروي هذا المعنى في كشف المحجة، وروضة الواعظين، للمفيد ورواه في الدر المنثور، عن ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

وفي الدر المنثور، أخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس: أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال: ﴿إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة﴾ الآية، قال: يختار الله عز وجل الإمام وليس لهم أن يختاروا.

أقول: وهو من الجري مبنيا على وجوب نصب الإمام المعصوم من قبل الله تعالى كالنبي، وقد مر تفصيل الكلام فيه.

وفيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿ونزعنا من كل أمة شهيدا﴾ يقول: من هذه الأمة إمامها.

أقول: وهو من الجري.