الآيات 39-45

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴿39﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ﴿40﴾ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴿41﴾ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴿42﴾ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿43﴾ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴿44﴾ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴿45﴾

بيان:

احتجاج على توحيد الربوبية كقوله: ﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض﴾ الآية، وقوله: ﴿إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا﴾ الآية، وعلى نفي ربوبية شركائهم ﴿قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله﴾ الآية وتوبيخ وتهديد لهم على نقضهم ما أبرموه باليمين ومكرهم السيىء.

ثم تسجيل أن الله لا يعجزه شيء وإنما يمهل من أمهله من هؤلاء الظالمين إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم جازاهم ما يستحقونه وبذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض﴾ إلخ.

الخلائف جمع خليفة، وكون الناس خلائف في الأرض هو قيام كل لاحق منهم مقام سابقه وسلطته على التصرف والانتفاع منها كما كان السابق مسلطا عليه وهم إنما نالوا هذه الخلافة من جهة نوع الخلقة وهو الخلقة من طريق النسل والولادة فإن هذا النوع من الخلقة يقسم المخلوق إلى سلف وخلف.

فجعل الخلافة الأرضية نوع من التدبير مشوب بالخلق غير منفك عنه ولذلك استدل به على توحده تعالى في ربوبيته لأنه مختص به تعالى لا مجال لدعواه لغيره.

فقوله: ﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض﴾ حجة على توحده تعالى في ربوبيته وانتفائها عن شركائهم: تقريره أن الذي جعل الخلافة الأرضية في العالم الإنساني هو ربهم المدبر لأمرهم، وجعل الخلافة لا ينفك عن نوع الخلقة فخالق الإنسان هو رب الإنسان لكن الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله هو رب الإنسان.

وقوله: ﴿فمن كفر فعليه كفره﴾ أي فالله سبحانه هو رب الإنسان فمن كفر وستر هذه الحقيقة ونسب الربوبية إلى غيره تعالى فعلى ضرره كفره.

وقوله: ﴿ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا﴾ بيان لكون كفرهم عليهم وهو أن كفرهم يورث لهم مقتا عند ربهم والمقت شدة البغض لأن فيه إعراضا عن عبوديته واستهانة بساحته، ويورث لهم خسارا في أنفسهم لأنهم بدلوا السعادة الإنسانية شقاء ووبالا سيصيبهم في مسيرهم ومنقلبهم إلى دار الجزاء.

وإنما عبر عن أثر الكفر بالزيادة لأن الفطرة الإنسانية بسيطة ساذجة واقعة في معرض الاستكمال والازدياد فإن أسلم الإنسان زاده ذلك كمالا وقربا من الله وإن كفر زاده ذلك مقتا عند الله وخسارا.

وإنما قيد المقت بقوله: ﴿عند ربهم﴾ دون الخسار لأن الخسار من تبعات تبديل الإيمان كفرا والسعادة شقاء وهو أمر عند أنفسهم وأما المقت وشدة البغض فمن عند الله سبحانه.

والحب والبغض المنسوبان إلى الله سبحانه من صفات الأفعال وهي معان خارجة عن الذات غير قائمة بها، ومعنى حبه تعالى لأحد انبساط رحمته عليه وانجذابها إليه وبغضه تعالى لأحد انقباض رحمته منه وابتعادها عنه.

قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله﴾ إلى آخر الآية إضافة الشركاء إليهم بعناية أنهم يدعون أنهم شركاء لله فهي إضافة لامية مجازية.

وفي الآية تلقين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة على نفي ربوبية آلهتهم الذين كانوا يعبدونهم وتقرير الحجة أنهم لو كانوا أربابا آلهة من دون الله لكان لهم شيء من تدبير العالم فكانوا خالقين لما يدبرونه لأن الخلق والتدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر ولو كانوا خالقين لدل عليه دليل والدليل إما من العالم أو من قبل الله سبحانه أما العالم فلا شيء منه يدل على كونه مخلوقا لهم ولو بنحو الشركة وهو قوله: ﴿أروني ما ذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات﴿.

وأما من قبله تعالى فلو كان لكان كتابا سماويا نازلا من عنده سبحانه يعترف بربوبيتهم ويجوز للناس أن يعبدوهم ويتخذوهم آلهة، ولم ينزل كتاب على هذه الصفة وهم معترفون بذلك وهو قوله: ﴿أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه﴾.

وإنما عبر عن نفي خالقيتهم في الأرض بقوله: ﴿أروني ما ذا خلقوا من الأرض﴾ ولم يقل: أنبئوني ألهم شرك في الأرض؟ وعبر في السماوات بقوله: ﴿أم لهم شرك في السماوات﴾ ولم يقل: أم ما ذا خلقوا من السماوات.

لأن المراد بالأرض - على ما يدل عليه سياق الاحتجاج - العالم الأرضي وهو الأرض بما فيها وما عليها والمراد بالسماوات العالم السماوي المشتمل على السماوات وما فيها وما عليها فقوله: ﴿ما ذا خلقوا من الأرض﴾ في معنى أ لهم شرك في الأرض ولا يكون إلا بخلق شيء منها، وقوله: ﴿أم لهم شرك في السماوات﴾ في معنى أم ما ذا خلقوا من السماوات، وقد اكتفى بذكر الخلق في جانب الأرض إشارة إلى أن الشرك في الربوبية لا يكون إلا بخلق.

وقوله: ﴿أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه﴾ أي بل آتيناهم كتابا فهم على بينة منه أي على حجة ظاهرة من الكتاب أن لشركائهم شركة معنا وذلك بدلالته على أنهم شركاء لله.

وقد قال: ﴿أم آتيناهم كتابا﴾ ولم يقل: أم لهم كتاب ونحو ذلك ليتأكد النفي والإنكار فإن قولنا: أم لهم كتاب ونحو ذلك إنكار لوجود الكتاب لكن قوله: ﴿أم آتيناهم كتابا﴾ إنكار لوجود الكتاب ممن ينزل الكتاب لو نزل.

وقد تبين بما تقدم أن ضمير الجمع في ﴿آتيناهم﴾ وفي ﴿فهم على بينة﴾ للمشركين فلا يعبأ بما قيل: إن الضميرين للشركاء.

وقوله: ﴿بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا﴾ إضراب عما تقدم من الاحتجاج بأن الذي حملهم على الشرك ليس هو حجة تحملهم عليه ويعتمدون عليها بل غرور بعضهم بعضا بوعد الشفاعة والزلفى فأسلافهم يغرون أخلافهم ورؤساؤهم وأئمتهم يغرون مرءوسيهم وتابعيهم ويعدونهم شفاعة الشركاء عند الله سبحانه ولا حقيقة لها.

وحجة الآية عامة على المشركين عبدة الأصنام وهم الذين يعبدون الملائكة والجن وقديسي البشر ويتخذون لهم أصناما يتوجهون إليها، وعلى الذين يعبدون روحانيي الكواكب ويتوجهون إلى الكواكب ثم يتخذون للكواكب أصناما، وعلى الذين يعبدون الملائكة والعناصر من غير أن يتخذوا لها أصناما كما ينقل عن الفرس القدماء، وعلى الذين يعبدون بعض البشر كالنصارى للمسيح (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده﴾ إلخ.

قيل: إن الآية استئناف مقرر لغاية قبح الشرك وهوله أي إن الله تعالى يحفظ السماوات والأرض كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا وتضمحلا لأن الممكن كما يحتاج إلى الواجب حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه.

والظاهر أنه تعالى لما استدل على توحده في الربوبية يجعل الخلافة في النوع الإنساني بقوله: ﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض﴾ الآية ثم نفى الشركة مطلقا بالحجة عمم الحجة بحيث تشمل الخلق كله أعني السماوات والأرض فاحتج على توحده بإبقاء الخلق بعد إحداثه فإن من البين الذي لا يرتاب فيه أن حدوث الشيء وأصل تلبسه بالوجود بعد العدم غير بقائه وتلبسه بالوجود بعد الوجود على نحو الاستمرار فبقاء الشيء بعد حدوثه يحتاج إلى إيجاد بعد إيجاد على نحو الاتصال والاستمرار.

وإبقاء الشيء بعد إحداثه كما أنه إيجاد بعد الإيجاد كذلك هو تدبير لأمره فإنك إن دققت النظر وجدت أن النظام الجاري في الكون إنما يجري بالإحداث والإبقاء فقط.

والموجد والخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله سبحانه هو الخالق المدبر للسماوات والأرض وحده لا شريك له.

فقوله: ﴿إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا﴾ الإمساك بمعناه المعروف وقوله: ﴿أن تزولا﴾ وتقديره كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا - متعلق به، وقيل: الإمساك بمعنى المنع أو بمعنى الحفظ وعلى أي حال فالإمساك كناية عن الإبقاء وهو الإيجاد بعد الإيجاد على سبيل الاتصال والاستمرار، والزوال هو الاضمحلال والبطلان.

ونقل عن بعضهم أنه فسر الزوال بالانتقال المكاني، والمعنى أن الله يمنع السماوات والأرض من أن ينتقل شيء منهما عن مكانه الذي استقر فيه فيرتفع أو ينخفض انتهى والشأن في تصور مراده تصورا صحيحا.

وقوله: ﴿ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده﴾ السياق يعطي أن المراد بالزوال هاهنا الإشراف على الزوال إذ نفس الزوال لا يجتمع معه الإمساك والمعنى وأقسم لئن أشرفتا على الزوال لم يمسكهما أحد من بعد الله سبحانه إذ لا مفيض للوجود غيره ويمكن أن يكون المراد بالزوال معناه الحقيقي والمراد بالإمساك القدرة على الإمساك وقد تبين أن ﴿من﴾ الأولى زائدة للتأكيد والثانية للابتداء، وضمير ﴿من بعده﴾ راجع إليه تعالى، وقيل: راجع إلى الزوال.

وقوله: ﴿إنه كان حليما غفورا﴾ فهو لحلمه لا يعجل إلى أمر ولمغفرة يستر جهات العدم في الأشياء، ومقتضى الاسمين أن يمسك السماوات والأرض أن تزولا إلى أجل مسمى.

وقال في إرشاد العقل السليم،: إنه كان حليما غفورا غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جناياتهم حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا حسبما قال تعالى: ﴿تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض﴾.

قوله تعالى: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا﴾ قال الراغب: الجهد - بفتح الجيم - والجهد - بضمها - الطاقة والمشقة - إلى أن قال - وقال تعالى: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

وقال: النفر الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالفزع إلى الشيء وعن الشيء يقال: نفر عن الشيء نفورا قال تعالى: ﴿ما زادهم إلا نفورا﴾.

قيل 1: بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم انتهى، وسياق الآية يصدق هذا النقل ويؤيده.

فقوله: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ الضمير لقريش وقد حلفوا هذا الحلف قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله بعد: ﴿فلما جاءهم نذير﴾ والمقسم به قوله: ﴿لئن جاءهم نذير﴾ إلخ.

وقوله: ﴿لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم﴾ أي إحدى الأمم التي جاءهم نذير كاليهود والنصارى وإنما قال: ﴿ليكونن أهدى من إحدى الأمم﴾ ولم يقل: أهدى منهم لأن المعنى أنهم كانوا أمة ما جاءهم نذير ثم لو جاءهم نذير كانوا أمة ذات نذير كإحدى تلك الأمم المنذرة ثم بتصديق النذير يصيرون أهدى من التي ماثلوها وهو قوله: ﴿أهدى من إحدى الأمم﴾ فافهمه.

وقيل: إن مقتضى المقام العموم، وقوله: ﴿إحدى الأمم﴾ عام وإن كان نكرة في سياق الإثبات واللام في ﴿الأمم﴾ للعهد، والمعنى ليكونن أهدى من كل واحدة من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم من اليهود والنصارى وغيرهم.

وقيل: المعنى ليكونن أهدى من أمة يقال فيها: إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها من الأمم كما يقال: هو واحد القوم وواحد عصره.

ولا يخلو الوجه الأخير عن تكلف وبعد.

وقوله: ﴿فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا﴾ المراد بالنذير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والنفور التباعد والهرب.

قوله تعالى: ﴿استكبارا في الأرض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله﴾ قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكر محمود وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل وعلى ذلك قال تعالى: ﴿والله خير الماكرين﴾ ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيح قال تعالى: ﴿لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله﴾.

وقال أيضا: قال عز وجل: ﴿ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله﴾ أي لا ينزل ولا يصيب.

قيل: وأصله حق فقلب نحو زل وزال وقد قرىء فأزلهما الشيطان وأزالهما وعلى هذا ذمه وذامه.

وقوله: ﴿استكبارا في الأرض﴾ مفعول لأجله لقوله: ﴿نفورا﴾ أي نفروا عنه وتباعدوا للاستكبار في الأرض وقوله: ﴿ومكر السيىء﴾ معطوف على ﴿استكبارا﴾ ومفعول لأجله مثله، وقيل: معطوف على ﴿نفورا﴾ والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل قوله ثانيا: ﴿ولا يحيق المكر السيىء﴾ إلخ.

وقوله: ﴿ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله﴾ أي لا يصيب ولا ينزل المكر السيىء إلا بأهله ولا يستقر إلا فيه، فإن المكر السيىء وإن كان ربما أصاب به مكروه للممكور به، لكنه سيزول ولا يدوم إلا أن أثره السيىء بما أنه المكر سيىء يبقى في نفس الماكر وسيظهر فيه ويجزى به إما في الدنيا وإما في الآخرة البتة، ولهذا فسر الآية في مجمع البيان، بقوله: والمعنى لا ينزل جزاء المكر السيىء إلا بمن فعله.

والكلام مرسل إرسال المثل كقوله تعالى: ﴿إنما بغيكم على أنفسكم﴾ يونس: 23 ﴿فمن نكث فإنما ينكث على نفسه﴾ الفتح: 10.

وقوله: ﴿فهل ينظرون إلا سنة الأولين﴾ النظر والانتظار بمعنى التوقع والفاء للتفريع والجملة استنتاج مما تقدمها والاستفهام للإنكار والمعنى وإذ مكروا المكر السيىء والمكر السيىء يحيق بأهله فهم لا ينتظرون إلا السنة الجارية في الأمم الماضين وهي العذاب الإلهي النازل بهم إثر مكرهم وتكذيبهم بآيات الله.

وقوله: ﴿فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾ تبديل السنة أن توضع العافية والنعمة موضع العذاب، وتحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقونه إلى غيرهم، وسنة الله لا تقبل تبديلا ولا تحويلا لأنه تعالى على صراط مستقيم لا يقبل حكمه تبعيضا ولا استثناء.

وقد أخذ الله بالعذاب هؤلاء المشركين الماكرين يوم بدر فقتل عامتهم.

والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لكل سامع.

قوله تعالى: ﴿أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة﴾ استشهاد على سنته الجارية في الأمم الماضية وقد كانوا أشد قوة من مشركي مكة فأخذهم الله بالعذاب لما مكروا وكذبوا.

قوله تعالى: ﴿وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا﴾ تتميم لسابق البيان لمزيد إنذارهم وتخويفهم، والمحصل ليتقوا الله وليؤمنوا به ولا يمكروا به ولا يكذبوا فإن سنة الله في ذلك هي العذاب كما يشهد به ما جرى في الأمم السابقة من الإهلاك والتعذيب وقد كانوا أشد قوة منهم والله سبحانه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض بقوة أو مكر فإنه عليم على الإطلاق لا يغفل ولا يجهل حتى ينخدع بمكر أو حيلة قدير على الإطلاق لا يقاومه شيء.

قوله تعالى: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ إلخ.

المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الدنيوية كما يدل عليه قوله الآتي: ﴿ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى﴾ إلخ.

والمراد بالناس جميعهم فإن الآية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم وهم الماكرون المكذبون بآيات الله، والمراد بما كسبوا المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هي العذاب وقد قال في نظيره الآية من سورة النحل: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة﴾ النحل: 61.

والمراد بظهرها ظهر الأرض لأن الناس يعيشون عليه على أن الأرض تقدم ذكرها في الآية السابقة.

والمراد بالدابة كل ما يدب في الأرض من إنسان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير واحتمل أن يكون المراد كل ما يدب في الأرض من حيوان وإهلاك غير الإنسان من أنواع الحيوان إنما هو لكونها مخلوقة للإنسان كما قال تعالى: ﴿خلق لكم ما في الأرض جميعا﴾ البقرة: 29.

وقول بعضهم: ذلك لشؤم المعاصي وقد قال تعالى: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ مدفوع بأن شؤم المعصية لا يتعدى العاصي إلى غيره وقد قال تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ فاطر: 18، وأما الآية أعني قوله: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ الأنفال: 25 فمدلولها على ما تقدم من تفسيرها اختصاص الفتنة بالذين ظلموا منهم خاصة لا عمومها لهم ولغيرهم فراجع.

وقوله: ﴿ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى﴾ وهو الموت أو القيامة وقوله: ﴿فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا﴾ أي فيجازي كلا بما عمل فإنه بصير بهم عليم بأعمالهم لأنهم عباده وكيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه والرب عمل عبده؟.

وقد بان بما تقدم أن قوله: ﴿فإن الله كان بعباده بصيرا﴾ من وضع السبب موضع المسبب الذي هو الجزاء.

والآية أعني قوله تعالى: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس﴾ إلخ.

واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدر ناش عن الآية السابقة فإنه تعالى لما أنذر أهل المكر والتكذيب من المشركين بالمؤاخذة واستشهد بما جرى في الأمم السابقة وذكر أنه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض كأنه قيل: فإذا لم يعجزه شيء في السماوات والأرض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي؟ وما ذا يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا؟ فأجاب أنه لو يؤاخذ جميع الناس بما كسبوا من المعاصي كما يؤاخذ هؤلاء الماكرين المكذبين ما ترك على ظهر الأرض أحدا منهم يدب ويتحرك، وقد قضى سبحانه أن يعيشوا في الأرض ويعمروها إذ قال: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ البقرة: 36 فلا يؤاخذهم ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى وهو الموت أو البعث فإذا جاء أجلهم عاملهم بما عملوا إنه كان بعباده بصيرا.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إياكم والمكر السيىء فإنه لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله ولهم من الله طالب.

وفي تفسير القمي، حدثني أبي عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سبق العلم، وجف القلم، ومضى القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل، وبالسعادة من الله لمن آمن واتقى وبالشقاء لمن كذب وكفر، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالبراءة منه المشركين.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل يقول: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبقوتي وعصمتي وعافيتي أديت إلي فرائضي وأنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بذنبك مني، الخير مني إليك واصل بما أوليتك به والشر منك إليك بما جنيت جزاء وبكثير من تسلطي لك انطويت على طاعتي، وبسوء ظنك بي قنطت من رحمتي.

فلي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، لم أدع تحذيرك، ولم آخذك عند غرتك وهو قوله عز وجل: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا - ما ترك على ظهرها من دابة﴾ لم أكلفك فوق طاقتك، ولم أحملك من الأمانة إلا ما أقررت بها على نفسك، ورضيت لنفسي منك بما رضيت به لنفسك مني ثم قال عز وجل: ﴿ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى - فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا﴾.