الآيات 2-8

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿2﴾ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿3﴾ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿4﴾ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿5﴾ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿6﴾ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿7﴾ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿8﴾

بيان:

لما أشار إلى الملائكة وهم وسائط في وصول النعم إلى الخليقة أشار إلى نفس النعم إشارة كلية فذكر أن عامة النعم من الله سبحانه لا غير فهو الرازق لا يشاركه فيه أحد، ثم احتج بالرازقية على الربوبية ثم على المعاد وأن وعده تعالى بالبعث وعذاب الكافرين ومغفرة المؤمنين الصالحين حق، وفي الآيات تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده﴾ إلخ المعنى أن ما يؤتيه الله الناس من النعمة وهو الرزق فلا مانع عنه وما يمنع فلا مؤتي له فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما يرسل الله للناس إلخ.

كما عبر في الجملة الثانية بالإرسال لكنه عدل عن الإرسال إلى الفتح لما وقع مكررا في كلامه أن لرحمته خزائن كقوله: ﴿أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب﴾ ص: 9 وقوله: ﴿قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق﴾ الإسراء: 100 والتعبير بالفتح أنسب من الإرسال في الخزائن ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي يؤتاها الناس مخزونة في خزائن محيطة بالناس لا يتوقف نيلهم منها إلا إلى فتحها من غير مئونة زائدة.

وقد عبر عن الرزق الذي هو النعمة بالرحمة للدلالة على أن إفاضته تعالى لهذه النعم ناشئة من مجرد الرحمة من غير توقع لنفع يعود إليه أو كمال يستكمل به.

وقوله: ﴿وما يمسك فلا مرسل له من بعده﴾ أي وما يمنع من الرحمة فلا مرسل له من دونه، وفي التعبير بقوله: ﴿من بعده﴾ إشارة إلى أنه تعالى أول في المنع كما أنه أول في الإعطاء.

وقوله: ﴿وهو العزيز الحكيم﴾ تقرير للحكم المذكور في الآية الكريمة بالاسمين الكريمين فهو تعالى لكونه عزيزا لا يغلب إذا أعطى فليس لمانع أن يمنع عنه وإذا منع فليس لمعط أن يعطيه، وهو تعالى حكيم إذا أعطى أعطى عن حكمة ومصلحة وإذا منع منع عن حكمة ومصلحة وبالجملة لا معطي إلا الله ولا مانع إلا هو، ومنعه وإعطائه عن حكمة.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض﴾ الخ.

لما قرر في الآية السابقة أن الإعطاء والمنع لله سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد احتج في هذه الآية بذلك على توحده في الربوبية.

وتقرير الحجة أن الإله إنما يكون إلها معبودا لربوبيته وهي ملكة تدبير أمر الناس وغيرهم، والذي يملك تدبير الأمر بهذه النعم التي يتقلب فيها الناس وغيرهم ويرتزقون بها هو الله سبحانه دون غيره من الآلهة التي اتخذوها لأنه سبحانه هو الذي خلقها دونهم والخلق لا ينفك عن التدبير ولا يفارقه فهو سبحانه إلهكم لا إله إلا هو لأنه ربكم الذي يدبر أمركم بهذه النعم التي تتقلبون فيها وإنما كان ربا مدبرا بهذه النعم لأنه خالقها وخالق النظام الذي يجري عليها.

وبذلك يظهر أن المراد بالناس المخاطبين الوثنيون وغيرهم ممن اتخذ لله شريكا.

وقوله: ﴿اذكروا نعمة الله عليكم﴾ المراد بالذكر ما يقابل النسيان دون الذكر اللفظي.

وقوله: ﴿هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض﴾ الرزق هو ما يمد به البقاء ومبدؤه السماء بواسطة الأشعة والأمطار وغيرهما والأرض بواسطة النبات والحيوان وغيرهما.

وبذلك يظهر أيضا أن في الآية إيجازا لطيفا فقد بدلت الرحمة في الآية السابقة نعمة في هذه الآية أولا ثم النعمة رزقا ثانيا وكان مقتضى سياق الآيتين أن يقال: هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم لكن بدل ذلك من قوله: ﴿هل من خالق﴾ ليكون إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام، فإنهم يرون تدبير العالم لآلهتهم بإذن الله فلو قيل: هل من رازق أو منعم غير الله لم ينقطع الخصام وأمكن أن يقولوا نعم آلهتنا بتفويض التدبير من الله إليهم لكن لما قيل: ﴿هل من خالق﴾ أشير بالوصف إلى أن الرازق والمدبر هو خالق الرزق لا غير فانقطع الخصام ولم يمكنهم إلا أن يجيبوا بنفي خالق غير الله يرزقهم من السماء والأرض.

وقوله: ﴿لا إله إلا هو﴾ اعتراض بالتوحيد يفيد التعظيم نظير قوله: ﴿وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه﴾.

أي لا معبود بالحق إلا هو لأن المستحق للعبادة هو الذي ينعم عليكم ويرزقكم وليس إلا الله.

وقوله: ﴿فأنى تؤفكون﴾ توبيخ متفرع على ما سبغ من البرهان أي فإذا كان الأمر هكذا وأنتم تقرون بذلك فإلى متى تصرفون عن الحق إلى الباطل ومن التوحيد إلى الإشراك.

وفي إعراب الآية أعني قوله: ﴿هل من خالق غير الله﴾ الخ.

بين القوم مشاجرات طويلة والذي يناسب ما تقدم من تقرير البرهان أن ﴿من﴾ زائدة للتعميم، وقوله: ﴿غير الله﴾ صفة لخالق تابع لمحله، وكذا قوله: ﴿يرزقكم﴾ الخ.

و﴿من خالق﴾ مبتدأ محذوف الخبر وهو موجود، وقوله: ﴿لا إله إلا هو﴾ اعتراض، وقوله: ﴿فأنى تؤفكون﴾ تفريع على ما تقدمه.

قوله تعالى: ﴿وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور﴾ تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي وإن يكذبوك بعد استماع هذه البراهين الساطعة فلا تحزن فليس ذلك ببدع فقد كذبت رسل من قبلك كذبتهم أممهم وأقوامهم وإلى الله ترجع عامة الأمور فيجازيهم بما يستحقونه بتكذيبهم الحق بعد ظهوره فليسوا بمعجزين بتكذيبهم.

ومن هنا يظهر أن قوله؟ ﴿فقد كذبت رسل من قبلك﴾ من قبيل وضع السبب موضع المسبب وأن قوله: ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ معطوف على قوله: ﴿قد كذبت﴾ الخ.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور﴾ خطاب عام للناس يذكرهم بالمعاد كما كان الخطاب العام السابق يذكرهم بتوحده تعالى في الربوبية والألوهية.

فقوله: ﴿إن وعد الله حق﴾ أي وعده أنه يبعثكم فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا وإن شرا حق أي ثابت واقع، وقد صرح بهذا الوعد في قوله الآتي: ﴿الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفره وأجر كبير﴿.

وقوله: ﴿فلا تغرنكم الحياة الدنيا﴾ النهي وإن كان متوجها إلى الحياة الدنيا صورة لكنه في الحقيقة متوجه إليهم، والمعنى إذا كان وعد الله حقا فلا تغتروا بالحياة الدنيا بالاشتغال بزينتها والتلهي بما ينسيكم يوم الحساب من ملاذها وملاهيها والاستغراق في طلبها والإعراض عن الحق.

وقوله: ﴿ولا يغرنكم بالله الغرور﴾ الغرور بفتح الغين صيغة مبالغة من الغرور بالضم وهو الذي يبالغ في الغرور ومن عادته ذلك، والظاهر - كما قيل - إن المراد به الشيطان ويؤيده التعليل الواقع في الآية التالية: ﴿إن الشيطان لكم عدو﴾ الخ.

ومعنى غروره بالله توجيهه أنظارهم إلى مظاهر حلمه وعفوه تعالى تارة ومظاهر ابتلائه واستدراجه وكيده أخرى فيرون أن الاشتغال بالدنيا ونسيان الآخرة والإعراض عن الحق والحقيقة لا يستعقب عقوبة ولا يستتبع مؤاخذة، وأن أبناء الدنيا كلما أمعنوا في طلبهم وتوغلوا في غفلتهم واستغرقوا في المعاصي والذنوب زادوا في عيشهم طيبا وفي حياتهم راحة وبين الناس جاها وعزة فيلقي الشيطان عند ذلك في قلوبهم أن لا كرامة إلا في التقدم في الحياة الدنيا، ولا خبر عما وراءها وليس ما تتضمنه الدعوة الحقة من الوعد والوعيد وتخبر به النبوة من البعث والحساب والجنة والنار إلا خرافة.

فالمراد بغرور الشيطان الإنسان بالله اغترار الإنسان بما يعامل به الله الإنسان على غفلته وظلمه.

وربما قيل: إن المراد بالغرور الدنيا الغارة للإنسان وأن قوله: ﴿ولا يغرنكم بالله الغرور﴾ تأكيد لقوله: ﴿فلا تغرنكم الحياة الدنيا﴾ بتكراره معنى.

قوله تعالى: ﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا﴾ الخ.

تعليل للنهي المتقدم في قوله: ﴿ولا يغرنكم بالله الغرور﴾ والمراد بعداوة الشيطان أنه لا شأن له إلا أغواء الإنسان وتحريمه سعادة الحياة وحسن العاقبة، والمراد باتخاذ الشيطان عدوا التجنب من اتباع دعوته إلى الباطل وعدم طاعته فيما يشير إليه في وساوسه وتسويلاته ولذلك علل عداوته بقوله: ﴿إنما يدعوا حزبه﴾.

فقوله: ﴿إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير﴾ في مقام تعليل ما تقدمه والحزب هو العدة من الناس يجمعهم غرض واحد، واللام في ﴿ليكونوا﴾ للتعليل فكونهم من أصحاب السعير علة غائية لدعوته، والسعير النار المسعرة وهو من أسماء جهنم في القرآن.

قوله تعالى: ﴿الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفره وأجر كبير﴾ هذا هو الوعد الحق الذي ذكره الله سبحانه، وتنكير العذاب للدلالة على التفخيم على أن لهم دركات ومراتب مختلفة من العذاب باختلاف كفرهم وفسوقهم فالإبهام أنسب ويجري نظير الوجهين في قوله: ﴿مغفره وأجر﴾.

قوله تعالى: ﴿أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ تقرير وبيان للتقسيم الذي تتضمنه الآية السابقة أعني تقسيم الناس إلى كافر له عذاب شديد ومؤمن عامل بالصالحات له مغفره وأجر كبير والمراد أنهما لا يستويان فلا تستوي عاقبة أمرهما.

فقوله: ﴿أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا﴾ مبتدأ خبره محذوف أي كمن ليس كذلك، والفاء لتفريع الجملة على معنى الآية السابقة، والاستفهام للإنكار، والمراد بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الكافر ويشير به إلى أنه منكوس فهمه مغلوب على عقله يرى عمله على غير ما هو عليه والمعنى أنه لا يستوي من زين له عمله السيىء فرآه حسنا والذي ليس كذلك بل يرى السيىء سيئا.

وقوله: ﴿فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ تعليل للإنكار السابق في قوله: ﴿أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا﴾ أي الكافر الذي شأنه ذلك والمؤمن الذي بخلافه لا يستويان لأن الله يضل أحدهما بمشيته وهو الكافر الذي يرى السيئة حسنة ويهدي الآخر بمشيته وهو المؤمن الذي يعمل الصالحات ويرى السيئة سيئة.

وهذا الإضلال إضلال على سبيل المجازاة وليس إضلالا ابتدائيا فلا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه.

وبالجملة اختلاف الكافر والمؤمن في عاقبتهما بحسب الوعد الإلهي بالعذاب والرحمة لاختلافهما بالإضلال والهداية الإلهيين واختلافهما بالإضلال والهداية باختلافهما في رؤية السيئة حسنة وعدمها.

وقوله: ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾ الحسرات جمع حسرة وهي الغم لما فأت والندم عليه، وهي منصوبة لأنه مفعول لأجله والمراد بذهاب النفس عليهم هلاكها فيهم لأجل الحسرات الناشئة من عدم إيمانهم.

والجملة متفرعة على الفرق السابق أي إذا كانت الطائفتان مختلفتين بالإضلال والهداية من جانب الله فلا تهلك نفسك حسرات عليهم إذ كذبوك وكفروا بك فإن الله هو الذي يضلهم جزاء لكفرهم ورؤيتهم السيئة حسنة وهو عليم بما يصنعون فلا يختلط عليه الأمر ولا يفعل بهم إلا الحق ولا يجازيهم إلا بالحق.

ومن هنا يظهر أن قوله: ﴿إن الله عليم بما يصنعون﴾ في موضع التعليل لقوله: ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾ فلا ينبغي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهلك نفسه عليهم حسرات حيث ضلوا وحقت عليهم كلمة العذاب فإن الله هو الذي يضلهم لصنعهم وهو عليم بما يصنعون.