الآيات 29-42

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴿29﴾ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿30﴾ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴿31﴾ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿32﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴿33﴾ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴿34﴾ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴿35﴾ فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴿36﴾ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿37﴾ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿38﴾ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴿39﴾ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ﴿41﴾ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴿42﴾

بيان:

فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) وقد أودع فيه إجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر وبعثته بالرسالة إلى فرعون وملئه لإنجاء بني إسرائيل وتكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم وتنتهي القصة إلى إيتائه الكتاب وكأنه هو العمدة في سرد القصة.

قوله تعالى: ﴿فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا﴾ إلخ، المراد بقضائه الأجل إتمامه مدة خدمته لشعيب (عليه السلام) والمروي أنه قضى أطول الأجلين، والإيناس الإبصار والرؤية، والجذوة من النار القطعة منها، والاصطلاء الاستدفاء.

والسياق يشهد أن الأمر كان بالليل وكانت ليلة شديدة البرد وقد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور وقد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، وقد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله: ﴿لعلي آتيكم منها بخبر﴾ إلخ قوله: ﴿لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى﴾ طه: 10، وهو أدل على كونهم ضلوا الطريق.

وكذا في قوله خطابا لأهله: ﴿امكثوا﴾ إلخ، شهادة على أنه كان معها من يصح معه خطاب الجمع.

قوله تعالى: ﴿فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة﴾ إلخ قال في المفردات، شاطىء الوادي جانبه، وقال: أصل الوادي الموضع الذي يسيل منه الماء ومنه سمي المنفرج بين الجبلين واديا وجمعه أودية انتهى والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها.

والمراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر وهو صفة الشاطىء ولا يعبأ بما قاله بعضهم: إن الأيمن من اليمين مقابل الأشأم من الشؤم.

والبقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطىء الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها، ومباركتها لتشرفها بالتقريب والتكليم الإلهي وقد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: ﴿فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى﴾ طه: 12.

ولا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء والتكليم بوجه غير أن الكلام وهو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب وهو على كل شيء محيط، قال تعالى: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ الشورى: 51.

ومن هنا يظهر ضعف ما قيل: إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به.

وكذا ما قيل: إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء (عليهم السلام) أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة ومبلغ.

وذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب والحجاب واسطة وظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.

وقوله: ﴿أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين﴾ أن فيه تفسيرية، وفيه إنباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا - والرب هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من مملوكيه - لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره وإله معبود سواه.

ففي الآية إجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى الأصول الثلاثة أعني التوحيد والنبوة والمعاد إذ قال: ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية﴾ طه: 14 - 16.

قوله تعالى: ﴿وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى: مدبرا ولم يعقب﴾ تقدم تفسيره في سورة النمل.

قوله تعالى: ﴿يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين﴾ بتقدير القول أي قيل له: أقبل ولا تخف إنك من الآمنين، وفي هذا الخطاب تأمين له، وبه يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: ﴿يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون﴾ النمل: 10 وأنه تأمين معناه أنك مرسل والمرسلون آمنون لدي وليس من العتاب والتوبيخ في شيء.

قوله تعالى: ﴿اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء﴾ المراد بسلوك يده في جيبه إدخاله فيه، والمراد بالسوء - على ما قيل - البرص.

والظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا الموضع من القصة: ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك فأدخل يده في عبه ثم أخرجها وإذا يده برصاء مثل الثلج.

قوله تعالى: ﴿واضمم إليك جناحك من الرهب﴾ إلى آخر الآية، الرهب بالفتح فالسكون وبفتحتين وبالضم فالسكون الخوف، والجناح قيل: المراد به اليد وقيل: العضد.

قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف.

وقيل: إنه لما ألقى العصا وصارت حية بسط يديه كالمتقي وهما جناحاه فقيل له: اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها.

والوجهان - كما ترى - مبنيان على كون الجملة أعني قوله: ﴿واضمم﴾ إلخ، من تتمة قوله: ﴿أقبل ولا تخف إنك من الآمنين﴾ وهذا لا يلائم تخلل قوله: ﴿اسلك يدك في جيبك﴾ إلخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف.

وقيل: الجملة كناية عن الأمر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه والحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال.

ولا يبعد أن يكون المراد بالجملة الأمر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فإن من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه وجنبيه كالمتمطي في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من التواضع للمؤمنين بقوله: ﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ الحجر: 88 على بعض المعاني.

قوله تعالى: ﴿قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون﴾ إشارة إلى قتله القبطي بالوكز وكان يخاف أن يقتلوه قصاصا.

قوله تعالى: ﴿وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون﴾ قال في المجمع، يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره ويشد ظهره.

وقوله: ﴿إني أخاف أن يكذبون﴾ تعليل لسؤاله إرسال هارون معه، والسياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب ولا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل إرساله لئلا يكذبوه فإن من يكذبه لا يبالي أن يكذب هارون معه ومن الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله: ﴿قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون﴾ الشعراء: 13.

فمحصل المعنى: أن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين صدقي في دعواي إذا خاصموني إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي.

قوله تعالى: ﴿قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، وعدم الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل ونحوه كأن الطائفتين يتسابقان وإحداهما متقدمة دائما والأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم.

والمعنى: قال سنقويك ونعينك بأخيك هارون ونجعل لكما سلطة وغلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهركما بها.

ثم قال: ﴿أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ وهو بيان لقوله: ﴿ونجعل لكما سلطانا﴾ إلخ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما ومن اتبعهما من الناس.

وقد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر والغلبة وقيل: هو بمعنى الحجة والأولى حينئذ أن يكون قوله: ﴿بآياتنا﴾ متعلقا بقوله: ﴿الغالبون﴾ لا بقوله: ﴿فلا يصلون إليكما﴾ وقد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها.

قوله تعالى: ﴿فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى﴾ إلخ، أي سحر موصوف بأنه مفترى والمفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي وصف به السحر مبالغة.

والإشارة في قوله: ﴿ما هذا إلا سحر مفترى﴾ إلى ما جاء به من الآيات أي ليس ما جاء به من الخوارق إلا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا.

والإشارة في قوله: ﴿وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين﴾ إلى ما جاء به من الدعوة وأقام عليها حجة الآيات، وأما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله: ﴿فلنأتينك بسحر مثله﴾ طه: 58، على أن عدم معهودية السحر وعدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه.

فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه في وقت من الأوقات، ويناسبه ما حكي في الآية التالية من قول موسى: ﴿ربي أعلم بمن جاء بالهدى﴾ إلخ.

قوله تعالى: ﴿وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار﴾ إلخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: ﴿وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين﴾ في رد دعوى موسى، وهو جواب مبني على التحدي كأنه يقول: إن ربي - وهو رب العالمين له الخلق والأمر - هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى ومن تكون له عاقبة الدار وهو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى - وهو دين التوحيد - ووعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار، والحجة على ذلك الآيات البينات التي آتانيها من عنده.

فقوله: ﴿ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده﴾ يريد به نفسه والمراد بالهدى الدعوة الدينية التي جاء بها.

وقوله: ﴿ومن تكون له عاقبة الدار﴾ المراد بعاقبة الدار إما الجنة التي هي الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: ﴿وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء﴾ الزمر: 74، وإما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: ﴿قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين﴾ الأعراف: 128، وإما الأعم الشامل للدنيا والآخرة، والثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾.

وفي قوله: ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ تعريض لفرعون وقومه وفيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم وفيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني.

قال بعض المفسرين: والوجه في عطف قوله: ﴿وقال موسى ربي أعلم﴾ إلخ، على قولهم: ﴿ما هذا إلا سحر مفترى﴾ إلخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد.

وما قدمناه من كون قول موسى (عليه السلام) مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق.

قوله تعالى: ﴿وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري﴾ إلى آخر الآية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى ولا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من عند الله وأنه ما علم لهم من إله غيره.

فقوله: ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ سوق للكلام في صورة الإنصاف ليقع في قلوب الملأ موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكي في موضع آخر: ﴿ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾ المؤمنون: 29.

فمحصل المعنى: أنه ظهر للملإ أنه لم يتضح له من دعوة موسى وآياته أن هناك إلها هو رب العالمين ولا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله موسى.

وبذلك يظهر أن قوله: ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ من قبيل قصر القلب فقد كان موسى (عليه السلام) يثبت الألوهية لله سبحانه وينفيها عن غيره وهو ينفيها عنه تعالى ويثبتها لنفسه، وأما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو وقومه فلا تعرض لها.

وقوله: ﴿فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا﴾ المراد بالإيقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الأجر المستعمل في الأبنية، والصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشيء إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الأجر وبناء قصر عال منه.

وقوله: ﴿لعلي أطلع إلى إله موسى﴾ نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي يدعو إليه، والكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة والتقدير: اجعل لي صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلي أطلع إلى إله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس وإضلالهم.

ويمكن أن يكون المراد أن يبني له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى (عليه السلام)، ويؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر: ﴿يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا﴾ المؤمنون: 37.

وقوله: ﴿وإني لأظنه من الكاذبين﴾ ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله: ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ إلى الظن بعدم الوجود وقد كان كاذبا في قوله هذا ولا يقوله إلا تمويها وتعمية على الناس وقد خاطبه موسى بقوله: ﴿لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض﴾ الإسراء: 102.

وذكر بعضهم أن قوله: ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ من قبيل نفي المعلوم بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: ﴿قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات والأرض﴾ يونس: 18، وأنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية.

قوله تعالى: ﴿واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون﴾ أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع وذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا﴾.

قوله تعالى: ﴿فأخذناه وجنوده﴾ إلخ النبذ الطرح، واليم البحر والباقي ظاهر.

وفي الآية من الاستهانة بأمرهم وتهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى.

قوله تعالى: ﴿وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون﴾ الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي لكونها هي التي تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب إطلاق المسبب وإرادة سببه.

ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون ولا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر والجحود وليس من الإضلال الابتدائي في شيء.

وقيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله: ﴿وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا﴾ الزخرف: 19.

وفيه أن الآية التالية على ما سيجيء من معناها لا تلائمه.

على أن كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم.

وقوله: ﴿ويوم القيامة لا ينصرون﴾ أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.

قوله تعالى: ﴿وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين﴾ بيان للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم وعليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم.

فالآية في معنى قوله: ﴿وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم﴾ العنكبوت: 13 وقوله: ﴿ونكتب ما قدموا وآثارهم﴾ يس: 12، وتنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها واستمرارها.

وكذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر ويشمئز عنهم النفوس ويفر منهم الناس ولا يدنو منهم أحد وهو معنى القبح وقد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه.

بحث روائي:

في المجمع، روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبطأهما.

أقول: وروي ما في معناه بالإسناد عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رض فقلت له: أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الآخر؟ قال: الآخر.

وفي المجمع، روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قضى موسى الأجل وسار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا ﴿قال لأهله امكثوا إني آنست نارا﴾.

وعن كتاب طب الأئمة، بإسناده عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: وقال الله عز وجل في قصة موسى (عليه السلام): ﴿وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء﴾ يعني من غير برص.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿وأخي هارون هو أفصح مني لسانا - فأرسله معي ردءا يصدقني﴾ قال الراوي: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فكم مكث موسى (عليه السلام) غائبا عن أمه حتى رده الله عز وجل عليها؟ قال: ثلاثة أيام.

قال: فقلت: فكان هارون أخا موسى (عليه السلام) لأبيه وأمه؟ قال: نعم أ ما تسمع الله عز وجل يقول: ﴿يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي﴾ فقلت: فأيهما كان أكثر سنا؟ قال: هارون.

قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال: كان الوحي ينزل على موسى وموسى يوحيه إلى هارون.

فقلت له: أخبرني عن الأحكام والقضاء والأمر والنهي كان ذلك إليهما؟ قال: كان موسى الذي يناجي ربه ويكتب العلم ويقضي بين بني إسرائيل وهارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة.

قلت: فأيهما مات قبل صاحبه؟ قال: مات هارون قبل موسى وماتا جميعا في التيه.

قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون والذرية له.

أقول: وآخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد، وفي التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك.

في جوامع الجامع، في قوله تعالى: ﴿واستكبر هو وجنوده﴾ قال (عليه السلام) فيما حكاه عن ربه عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار.

وفي الكافي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الأئمة في كتاب الله عز وجل إمامان قال الله تبارك وتعالى: ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا﴾ لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم.

قال: ﴿وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار﴾ يقدمون أمرهم قبل أمر الله وحكمهم قبل حكم الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز وجل.

كلام حول قصص موسى وهارون (عليهما السلام) في فصول 1 - منزلة موسى عند الله وموقفه العبودي: كان (عليه السلام) أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء ولهم كتاب وشريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله: ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا﴾ الأحزاب: 7، وقال: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى﴾ الشورى: 13.

ولقد امتن الله سبحانه عليه وعلى أخيه في قوله: ﴿ولقد مننا على موسى وهارون﴾ الصافات: 114 وسلم عليهما في قوله: ﴿سلام على موسى وهارون﴾ الصافات: 120.

وأثنى على موسى (عليه السلام) بأجمل الثناء في قوله: ﴿و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا﴾ مريم: 52، وقال: ﴿وكان عند الله وجيها﴾ الأحزاب: 69، وقال: ﴿وكلم الله موسى تكليما﴾ النساء: 164.

وذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام الآية 84 - 88 فأخبر أنهم كانوا محسنين صالحين وأنه فضلهم على العالمين واجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم.

وذكره في جملة الأنبياء في سورة مريم ثم ذكر في الآية 58 منها أنهم الذين أنعم الله عليهم.

فاجتمع بذلك له (عليه السلام) معنى الإخلاص والتقريب والوجاهة والإحسان والصلاح والتفضيل والاجتباء والهداية والإنعام وقد مر البحث عن معاني هذه الصفات في مواضع تناسبها من هذا الكتاب وكذا البحث عن معنى النبوة والرسالة والتكليم.

وذكر الكتاب النازل عليه وهو التوراة فوصفها بأنها إمام ورحمة سورة الأحقاف: 12 وبأنها فرقان وضياء وذكر: الأنبياء: 48 وبأن فيها هدى ونور: المائدة: 44 وقال: ﴿وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء﴾ الأعراف: 145.

غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها واختلفوا فيها.

وقصة بخت نصر وفتحه فلسطين ثانيا وهدمه الهيكل وإحراقه التوراة وحشره اليهود إلى بابل سنة خمسمائة وثمان وثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة وثمان وثلاثين قبل المسيح وإذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا وكتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ وقد تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيح (عليه السلام).

2 - قصص موسى (عليه السلام) في القرآن: هو (عليه السلام) أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن الكريم فقد ذكر اسمه - على ما عدوه - في مائة وستة وستين موضعا من كلامه تعالى، وأشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن، وقد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات، وقد ذكر في القرآن شيء كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وإنزال المن والسلوى، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، وإحياء الموتى، ورفع الطور فوق القوم وغير ذلك.

وقد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه (عليه السلام) من دون استيفائها في كل ما دق وجل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية والإرشاد على ما هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء وأممهم.

وهذه الفصول التي فيها كليات قصصه هي أنه تولد بمصر في بيت إسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون وجعلت أمه إياه في تابوت وألقته في البحر وأخذ فرعون إياه ثم رده إلى أمه للإرضاع والتربية ونشأ في بيت فرعون.

ثم بلغ أشده وقتل القبطي وهرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون وملئه أن يقتلوه قصاصا.

ثم مكث في مدين عند شعيب النبي (عليه السلام) وتزوج إحدى بنتيه.

ثم لما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا وقد ضلوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم وذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة وكلمه واجتباه وآتاه معجزة العصا واليد البيضاء في تسع آيات واختاره للرسالة إلى فرعون وملئه وإنجاء بني إسرائيل وأمره بالذهاب إليه.

فأتى فرعون ودعاه إلى كلمة الحق وأن يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذبهم وأراه آية العصا واليد البيضاء فأبى وعارضه بسحر السحرة وقد جاءوا بسحر عظيم من ثعابين وحيات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وأصر فرعون على جحوده وهدد السحرة ولم يؤمن.

فلم يزل موسى (عليه السلام) يدعوه وملأه ويريهم الآية بعد الآية كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وهم يصرون على استكبارهم، وكلما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.

فأمره الله أن يسري بني إسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر واتبعهم فرعون وجنوده حتى إذا اداركوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.

ولما أنجاهم الله من فرعون وجنوده وأخرجهم إلى البر ولا ماء فيه ولا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المن والسلوى وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها وأكلوا منهما وظللهم الغمام.

ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى، ولما تم الميقات أنزل الله عليه التوراة وأخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل.

فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل ونسفه في اليم وطرد السامري وقال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وأما القوم فأمروا أن يتوبوا ويقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطور فوقهم.

ثم إنهم ملوا المن والسلوى وقالوا لن نصبر على طعام واحد وسألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها فأمروا أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم وابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة.

ومن قصص موسى (عليه السلام) ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى مجمع البحرين للقاء العبد الصالح وصحبته حتى فارقه.

3 - منزلة هارون (عليه السلام) عند الله وموقفه العبودي: أشركه الله تعالى مع موسى (عليه السلام) في سورة الصافات في المن وإيتاء الكتاب والهداية إلى الصراط المستقيم وفي التسليم وأنه من المحسنين ومن عباده المؤمنين الصافات: 114 - 122 وعده مرسلا طه: 47 ونبيا مريم: 53 وأنه ممن أنعم عليهم مريم: 58 وأشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان والصلاح والفضل والاجتباء والهداية الإنعام: 84 - 88.

وفي دعاء موسى ليلة الطور: ﴿واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا﴾ طه: 35.

وكان (عليه السلام) ملازما لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره ويعينه على جميع مقاصده.

ولم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص إلا خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات وقال لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا وقد عبدوا العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القول استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.

4 - قصة موسى (عليه السلام) في التوراة الحاضرة: قصصه (عليه السلام) موضوعة فيما عدا السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة وهي: سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه (عليه السلام) من حين ولادته إلى حين وفاته وما أوحي إليه من الشرائع والأحكام.

غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسيرة.

ومن أهمها أنها تذكر أن نداء موسى وتكليمه من الشجرة كان في أرض مدين قبل أن يسير بأهله وذلك حين كان يرعى غنم يثرون حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فناداه الله وكلمه بما كلمه وأرسله إلى فرعون لإنجاء بني إسرائيل.

ومنها ما ذكرت أن فرعون الذي أرسل إليه موسى غير فرعون الذي أخذ موسى ورباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطي خوفا من القصاص.

ومنها أنها لم تذكر إيمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حيات فتلقفتها عصا موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون وعارضوا موسى في آيتي الدم والضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسى (عليه السلام) معجزة.

ومنها أنها تذكر أن الذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى (عليه السلام) وذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير إمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الشعب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها.

فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أهذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

وفي الآيات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه (عليه السلام) غير خفية على المتدبر فيها.

وهناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطي أن المتضاربين ثانيا كانا جميعا إسرائيليين.

وأيضا وقع فيها أن الذي ألقى العصا فتلقفت حيات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى.

وأيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات ونزول الصاعقة عليهم وإحياءهم بعده.

وأيضا فيها أن الألواح التي كانت مع موسى لما نزل من الجبل وألقاها كانت لوحين من حجر وهما لوحا الشهادة.

إلى غير ذلك من الاختلافات.