الآيات 63-77

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴿63﴾ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴿64﴾ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴿65﴾ إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴿66﴾ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴿67﴾ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴿68﴾ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴿69﴾ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿70﴾ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴿71﴾ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴿72﴾ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴿73﴾ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴿74﴾ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴿75﴾ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴿76﴾ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴿77﴾

بيان:

تذكر الآيات من محاسن خصال المؤمنين ما يقابل ما وصف من صفات الكفار السيئة ويجمعها أنهم يدعون ربهم ويصدقون رسوله والكتاب النازل عليه قبال تكذيب الكفار لذلك وإعراضهم عنه إلى اتباع الهوى، ولذلك تختتم الآيات بقوله: ﴿قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما﴾ وبه تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما﴾ لما ذكر في الآية السابقة استكبارهم على الله سبحانه وإهانتهم بالاسم الكريم: الرحمن، قابله في هذه الآية بذكر ما يقابل ذلك للمؤمنين وسماهم عبادا وأضافهم إلى نفسه متسميا باسم الرحمن الذي كان يحيد عنه الكفار وينفرون.

وقد وصفتهم الآية بوصفين من صفاتهم: أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: ﴿الذين يمشون على الأرض هونا﴾ والهون على ما ذكره الراغب التذلل، والأشبه حينئذ أن يكون المشي على الأرض كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس ومعاشرتهم فهم في أنفسهم متذللون لربهم ومتواضعون للناس لما أنهم عباد الله غير مستكبرين على الله ولا مستعلين على غيرهم بغير حق، وأما التذلل لأعداء الله ابتغاء ما عندهم من العزة الوهمية فحاشاهم وإن كان الهون بمعنى الرفق واللين فالمراد أنهم يمشون من غير تكبر وتبختر.

وثانيهما: ما اشتمل عليه قوله: ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما﴾ أي إذا خاطبهم الجاهلون خطابا ناشئا عن جهلهم مما يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم كما يستفاد من تعلق الفعل بالوصف أجابوهم بما هو سالم من القول وقالوا لهم قولا سلاما خاليا عن اللغو والإثم، قال تعالى: ﴿لا يسمعون فيها لغوا ولا ﴿تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما﴾ الواقعة: 26، ويرجع إلى عدم مقابلتهم الجهل بالجهل.

وهذه - كما قيل - صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس وأما صفة ليلهم فهي التي تصفها الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما﴾ البيتوتة إدراك الليل سواء نام أم لا، و﴿لربهم﴾ متعلق بقوله: ﴿سجدا﴾ والسجد والقيام جمعا ساجد وقائم، والمراد عبادتهم له تعالى بالخرور على الأرض والقيام على السوق، ومن مصاديقه الصلاة.

والمعنى: وهم الذين يدركون الليل حال كونهم ساجدين فيه لربهم وقائمين يتراوحون سجودا وقياما، ويمكن أن يراد به التهجد بنوافل الليل.

قوله تعالى: ﴿والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما﴾ الغرام ما ينوب الإنسان من شدة أو مصيبة فيلزمه ولا يفارقه والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿إنها ساءت مستقرا ومقاما﴾ الضمير لجهنم والمستقر والمقام اسما مكان من الاستقرار والإقامة، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾ الإنفاق بذل المال وصرفه في رفع حوائج نفسه أو غيره، والإسراف الخروج عن الحد ولا يكون إلا في جانب الزيادة، وهو في الإنفاق التعدي عما ينبغي الوقوف عليه في بذل المال، والقتر بالفتح فالسكون التقليل في الإنفاق وهو بإزاء الإسراف على ما ذكره الراغب، والقتر والإقتار والتقتير بمعنى.

والقوام بالفتح الواسط العدل، وبالكسر ما يقوم به الشيء وقوله: ﴿بين ذلك﴾ متعلق بالقوام، والمعنى: وكان إنفاقهم وسطا عدلا بين ما ذكر من الإسراف والقتر فقوله: ﴿وكان بين ذلك قواما﴾ تنصيص على ما يستفاد من قوله ﴿إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا﴾ فصدر الآية ينفي طرفي الإفراط والتفريط في الإنفاق، وذيلها يثبت الوسط.

قوله تعالى: ﴿والذين لا يدعون مع الله إلها آخر﴾ إلى آخر الآية هذا هو الشرك وأصول الوثنية لا تجيز دعاءه تعالى وعبادته أصلا لا وحده ولا مع آلهتهم وإنما توجب دعاء آلهتهم وعبادتهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده.

فالمراد بدعائهم مع الله إلها آخر إما التلويح إلى أنه تعالى إله مدعو بالفطرة على كل حال فدعاء غيره دعاء لإله آخر معه وإن لم يذكر الله.

أو أنه تعالى ثابت في نفسه سواء دعي غيره أم لا فالمراد بدعاء غيره دعاء إله آخر مع وجوده وبعبارة أخرى تعديه إلى غيره.

أو إشارة إلى ما كان يفعله جهلة مشركي العرب فإنهم كانوا يرون أن دعاء آلهتهم إنما ينفعهم في البر وأما البحر فإنه لله لا يشاركه فيه أحد فالمراد دعاؤه تعالى في مورد كما عند شدائد البحر من طوفان ونحوه ودعاء غيره معه في مورد وهو البر، وأحسن الوجوه أوسطها.

وقوله: ﴿ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾ أي لا يقتلون النفس الإنسانية التي حرم الله قتلها في حال من الأحوال إلا حال تلبس القتل بالحق كقتلها قصاصا وحدا.

وقوله تعالى: ﴿ولا يزنون﴾ أي لا يطئون الفرج الحرام وقد كان شائعا بين العرب في الجاهلية، وكان الإسلام معروفا بتحريم الزنا والخمر من أول ما ظهرت دعوته.

وقوله: ﴿ومن يفعل ذلك يلق أثاما﴾ الإشارة بذلك إلى ما تقدم ذكره وهو الشرك وقتل النفس المحترمة بغير حق والزنا، والأثام الإثم وهو وبال الخطيئة وهو الجزاء بالعذاب الذي سيلقاه يوم القيامة المذكور في الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا﴾ بيان للقاء الأثام، وقوله: ﴿ويخلد فيه مهانا﴾ أي يخلد في العذاب وقد وقعت عليه الإهانة.

والخلود في العذاب في الشرك لا ريب فيه، وأما الخلود فيه عند قتل النفس المحترمة والزنا وهما من الكبائر وقد صرح القرآن بذلك فيهما وكذا في أكل الربا فيمكن أن يحمل على اقتضاء طبع المعصية ذلك كما ربما استفيد من ظاهر قوله: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾.

أو يحمل الخلود على المكث الطويل أعم من المنقطع والمؤبد أو يحمل قوله: ﴿ومن يفعل ذلك﴾ على فعل جميع الثلاثة لأن الآيات في الحقيقة تنزه المؤمنين عما كان الكفار مبتلين به وهو الجميع دون البعض.

قوله تعالى: ﴿إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما﴾ استثناء من لقي الأثام والخلود فيه، وقد أخذ في المستثنى التوبة والإيمان وإتيان العمل الصالح، أما التوبة وهي الرجوع عن المعصية وأقل مراتبها الندم فلو لم يتحقق لم ينتزع العبد عن المعصية ولم يزل مقيما عليها، وأما إتيان العمل الصالح فهو مما تستقر به التوبة وبه تكون نصوحا.

وأما أخذ الإيمان فيدل على أن الاستثناء إنما هو من الشرك فتختص الآية بمن أشرك وقتل وزنى أو بمن أشرك سواء أتى معه بشيء من القتل المذكور والزنا أو لم يأت، وأما من أتى بشيء من القتل والزنا من غير شرك فالمتكفل لبيان حكم توبته الآية التالية.

وقوله: ﴿فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾ تفريع على التوبة والإيمان والعمل الصالح يصف ما يترتب على ذلك من جميل الأثر وهو أن الله يبدل سيئاتهم حسنات.

وقد قيل في معنى ذلك أن الله يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم فيبدل الكفر إيمانا والقتل بغير حق جهادا وقتلا بالحق والزنا عفة وإحصانا.

وقيل: المراد بالسيئات والحسنات ملكاتهما لا نفسهما فيبدل ملكة السيئة ملكة الحسنة.

وقيل: المراد بهما العقاب والثواب عليهما لا نفسهما فيبدل عقاب القتل والزنا مثلا ثواب القتل بالحق والإحصان.

وأنت خبير بأن هذه الوجوه من صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل يدل عليه.

والذي يفيد ظاهر قوله: ﴿يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾ وقد ذيله بقوله: ﴿وكان الله غفورا رحيما﴾ أن كل سيئة منهم نفسها تتبدل حسنة، وليست السيئة هي متن الفعل الصادر من فاعله وهو حركات خاصة مشتركة بين السيئة والحسنة كعمل المواقعة مثلا المشترك بين الزنا والنكاح، والأكل المشترك بين أكل المال غصبا وبإذن من مالكه بل صفة الفعل من حيث موافقته لأمر الله ومخالفته له مثلا من حيث إنه يتأثر به الإنسان ويحفظ عليه دون الفعل الذي هو مجموع حركات متصرمة متقضية فانية وكذا عنوانه القائم به الفاني بفنائه.

وهذه الآثار السيئة التي يتبعها العقاب أعني السيئات لازمة للإنسان حتى يؤخذ بها يوم تبلى السرائر.

ولو لا شوب من الشقوة والمساءة في الذات لم يصدر عنها عمل سيىء إذ الذات السعيدة الطاهرة من كل وجه لا يصدر عنها سيئة قذرة فالأعمال السيئة إنما تلحق ذاتا شقية خبيثة بذاتها أو ذاتا فيها شوب من شقاء وخباثة.

ولازم ذلك إذا تطهرت بالتوبة وطابت بالإيمان والعمل الصالح فتبدلت ذاتا سعيدة ما فيها شوب من قذارة الشقاء أن تتبدل آثارها اللازمة التي كانت سيئات قبل ذلك فتناسب الآثار للذات بمغفرة من الله ورحمة وكان الله غفورا رحيما.

وإلى مثل هذا يمكن أن تكون الإشارة بقوله: ﴿فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما﴾.

قوله تعالى: ﴿ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا﴾ المتاب مصدر ميمي للتوبة، وسياق الآية يعطي أنها مسوقة لرفع استغراب تبدل السيئات حسنات بتعظيم أمر التوبة وأنها رجوع خاص إلى الله سبحانه فلا بدع في أن يبدل السيئات حسنات وهو الله يفعل ما يشاء.

وفي الآية مع ذلك شمول للتوبة من جميع المعاصي سواء قارنت الشرك أم فارقته، والآية السابقة - كما تقدمت الإشارة إليه - كانت خفية الدلالة على حال المعاصي إذا تجردت من الشرك.

قوله تعالى: ﴿والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما﴾ قال في مجمع البيان، أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنه حق.

فيشمل الكذب وكل لهو باطل كالغناء والفحش والخنا بوجه، وقال أيضا: يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه منه.

فقوله: ﴿والذين لا يشهدون الزور﴾ إن كان المراد بالزور الكذب فهو قائم مقام المفعول المطلق والتقدير لا يشهدون شهادة الزور، وإن كان المراد اللهو الباطل كالغناء ونحوه كان مفعولا به والمعنى لا يحضرون مجالس الباطل، وذيل الآية يناسب ثاني المعنيين.

وقوله: ﴿وإذا مروا باللغو مروا كراما﴾ اللغو ما لا يعتد به من الأفعال والأقوال لعدم اشتماله على غرض عقلائي ويعم - كما قيل - جميع المعاصي، والمراد بالمرور باللغو المرور بأهل اللغو وهم مشتغلون به.

والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو وهم يلغون مروا معرضين عنهم منزهين أنفسهم عن الدخول فيهم والاختلاط بهم ومجالستهم.

قوله تعالى: ﴿والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا﴾ الخرور على الأرض السقوط عليها وكأنها في الآية كناية عن لزوم الشيء والانكباب عليه.

والمعنى: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم من حكمة أو موعظة حسنة من قرآن أو وحي لم يسقطوا عليه وهم صم لا يسمعون وعميان لا يبصرون بل تفكروا فيها وتعقلوها فأخذوا بها عن بصيرة فآمنوا بحكمتها واتعظوا بموعظتها وكانوا على بصيرة من أمرهم وبينة من ربهم.

قوله تعالى: ﴿والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما﴾ قال الراغب في المفردات،: قرت عينه تقر سرت قال، تعالى: ﴿كي تقر عينها﴾ وقيل لمن يسر به قرة عين قال: ﴿قرة عين لي ولك﴾ وقوله تعالى: ﴿هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين﴾ قيل: أصله من القر أي البرد فقرت عينه قيل: معناه بردت فصحت، وقيل: بل لأن للسرور دمعة باردة قارة وللحزن دمعة حارة ولذلك يقال فيمن يدعى عليه: أسخن الله عينه، وقيل: هو من القرار والمعنى أعطاه الله ما يسكن به عينه فلا تطمح إلى غيره.

ومرادهم بكون أزواجهم وذرياتهم قرة أعين لهم أن يسروهم بطاعة الله والتجنب عن معصيته فلا حاجة لهم في غير ذلك ولا إربة وهم أهل حق لا يتبعون الهوى.

وقوله: ﴿واجعلنا للمتقين إماما﴾ أي متسابقين إلى الخيرات سابقين إلى رحمتك فيتبعنا غيرنا من المتقين كما قال تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ البقرة: 148، وقال: ﴿سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة﴾ الحديد: 21، وقال: ﴿والسابقون السابقون أولئك المقربون﴾ الواقعة: 11، وكأن المراد أن يكونوا صفا واحدا متقدما على غيرهم من المتقين ولذا جيء بالإمام بلفظ الإفراد.

وقال بعضهم: إن الإمام مما يطلق على الواحد والجمع، وقيل: إن إمام جمع آم بمعنى القاصد كصيام جمع صائم، والمعنى: اجعلنا قاصدين للمتقين متقيدين بهم، وفي قراءة أهل البيت ﴿واجعل لنا من المتقين إماما﴾ .

قوله تعالى: ﴿أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما﴾ الغرفة - كما قيل - البناء فوق البناء فهو الدرجة العالية من البيت، وهي كناية عن الدرجة العالية في الجنة، والمراد بالصبر الصبر على طاعة الله وعن معصيته فهذان القسمان من الصبر هما المذكوران في الآيات السابقة لكن لا ينفك ذلك عن الصبر عند النوائب والشدائد.

والمعنى: أولئك الموصوفون بما وصفوا يجزون الدرجة الرفيعة من الجنة يلقون فيها أي يتلقاهم الملائكة بالتحية وهو ما يقدم للإنسان مما يسره وبالسلام وهو كل ما ليس فيه ما يخافه ويحذره، وفي تنكير التحية والسلام دلالة على التفخيم والتعظيم، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما﴾ قال في المفردات:، ما عبأت به أي لم أبال به، وأصله من العبء أي الثقل كأنه قال: ما أرى له وزنا وقدرا، قال تعالى: ﴿قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم﴾ وقيل: من عبأت الطيب كأنه قيل: ما يبقيكم لو لا دعاؤكم.

قيل: ﴿دعاؤكم﴾ من إضافة المصدر إلى المفعول وفاعله ضمير راجع إلى ﴿ربي﴾ وعلى هذا فقوله: ﴿فقد كذبتم﴾ من تفريع السبب على المسبب بمعنى انكشافه بمسببه، وقوله: ﴿فسوف يكون لزاما﴾ أي سوف يكون تكذيبكم ملازما لكم أشد الملازمة فتجزون بشقاء لازم وعذاب دائم.

والمعنى: قل لا قدر ولا منزلة لكم عند ربي فوجودكم وعدمكم عنده سواء لأنكم كذبتم فلا خير يرجى فيكم فسوف يكون هذا التكذيب ملازما لكم أشد الملازمة، إلا أن الله يدعوكم ليتم الحجة عليكم أو يدعوكم لعلكم ترجعون عن تكذيبكم.

وهذا معنى حسن.

وقيل: ﴿دعاؤكم﴾ من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد به عبادتهم لله سبحانه والمعنى: ما يبالي بكم ربي أو ما يبقيكم ربي لو لا عبادتكم له.

وفيه أن هذا المعنى لا يلائم تفرع قوله: ﴿فقد كذبتم﴾ عليه وكان عليه من حق الكلام أن يقال: وقد كذبتم! على أن المصدر المضاف إلى فاعله يدل على تحقق الفعل منه وتلبسه به وهم غير متلبسين بدعائه وعبادته تعالى فكان من حق الكلام على هذا التقدير أن يقال لو لا أن تدعوه فافهم.

والآية خاتمة السورة وتنعطف إلى غرض السورة ومحصل القول فيه وهو الكلام على اعتراض المشركين على الرسول وعلى القرآن النازل عليه وتكذيبهما.

بحث روائي:

في المجمع، في قوله تعالى: ﴿الذين يمشون على الأرض هونا﴾ قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو الرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر.

وفي الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: ﴿إن عذابها كان غراما﴾ قال: الدائم.

وفي تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿إن عذابها كان غراما﴾ يقول: ملازما لا ينفك.

وقوله عز وجل: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا﴾ والإسراف الإنفاق في المعصية في غير حق ﴿و لم يقتروا﴾ لم يبخلوا في حق الله عز وجل ﴿وكان بين ذلك قواما﴾ القوام العدل والإنفاق فيما أمر الله به.

وفي الكافي، أحمد بن محمد بن علي عن محمد بن سنان عن أبي الحسن (عليه السلام): في قول الله عز وجل: ﴿وكان بين ذلك قواما﴾ قال: القوام هو المعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره على قدر عياله ومئونتهم التي هي صلاح له ولهم لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها.

وفي المجمع، روي عن معاذ أنه قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال: من أعطى في غير حق فقد أسرف، ومن منع من حق فقد قتر.

أقول: والأخبار في هذه المعاني كثيرة جدا.

وفي الدر المنثور، أخرج الفاريابي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك.

قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.

قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك ﴿والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون﴾ .

أقول: لعل المراد الانطباق دون سبب النزول.

وفيه، أخرج عبد بن حميد عن علي بن الحسين: ﴿يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾ قال: في الآخرة، وقال الحسن: في الدنيا.

وفيه، أخرج أحمد وهناد ومسلم والترمذي وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وهو مقر ليس ينكر وهو مشفق من الكبار أن تجيء فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة.

أقول: هو من أخبار تبديل السيئات حسنات يوم القيامة وهي كثيرة مستفيضة من طرق أهل السنة والشيعة مروية عن النبي والباقر والصادق والرضا عليه وعليهم الصلاة والسلام.

وفي روضة الواعظين، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما جلس قوم يذكرون الله إلا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدل الله سيئاتكم حسنات وغفر لكم جميعا.

وفي الكافي، بإسناده عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عز وجل: ﴿لا يشهدون الزور﴾ قال: الغناء.

أقول: وفي المجمع، أنه مروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) ورواه القمي مسندا ومرسلا.

وفي العيون، بإسناده إلى محمد بن أبي عباد وكان مشتهرا بالسماع ويشرب النبيذ قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن السماع فقال: لأهل الحجاز رأي فيه وهو في حيز الباطل واللهو أ ما سمعت الله عز وجل يقول: ﴿وإذا مروا باللغو مروا كراما﴾.

وفي روضة الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿والذين إذا ذكروا بآيات ربهم - لم يخروا عليها صما وعميانا﴾ قال: مستبصرين ليسوا بشكاك.

وفي جوامع الجامع، عن الصادق (عليه السلام): في قوله: ﴿واجعلنا للمتقين إماما﴾ قال: إيانا عنى.

أقول: وهناك عدة روايات في هذا المعنى وأخرى تتضمن قراءتهم (عليهم السلام): ﴿واجعل لنا من المتقين إماما﴾.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر: في قوله: ﴿أولئك يجزون الغرفة بما صبروا﴾ قال: على الفقر في الدنيا.

وفي المجمع، روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء؟ قال: كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية.

أقول: وفي انطباق الآية على ما في الرواية إبهام.

وفي تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله عز وجل: ﴿قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم﴾ يقول: ما يفعل ربي بكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما.