الآيات 32-40

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴿32﴾ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴿33﴾ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴿34﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴿35﴾ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ﴿36﴾ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿37﴾ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ﴿38﴾ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ﴿39﴾ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ﴿40﴾

بيان:

نقل لطعن آخر مما طعنوا به في القرآن وهو أنه لم ينزل جملة واحدة والجواب عنه.

قوله تعالى: ﴿وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ المراد بهم مشركو العرب الرادون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكي بقوله: ﴿وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه﴾ إلخ.

وقوله ﴿لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ قد تقدم أن الإنزال والتنزيل إنما يفترقان في أن الإنزال يفيد الدفعة والتنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أن التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لأدائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج: لو لا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية بل المعنى هلا أنزل القرآن عليه دفعة غير مفرق كما أنزل التوراة والإنجيل والزبور.

لكن ينبغي أن يعلم أن نزول التوراة مثلا كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في ألواح والقرآن إنما كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتلقي من عند الله بتوسط الروح الأمين كما يتلقى السامع الكلام من المتكلم، والدفعة في إيتاء كتاب مكتوب وتلقيه تستلزم المعية بين أوله وآخره لكنه إذا كان بقراءة وسماع لم يناف التدريج بين أجزائه وأبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارىء ويتلقاه السامع آخذا من أوله إلى آخره شيئا فشيئا.

وهؤلاء إنما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفية نزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو تلقي الآيات بألفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أن الذي يتلوه ملك الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سورة بعد سورة وآية بعد آية ويتلقاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرة واحدة وليتلقه هو مرة واحدة ولو دامت القراءة والتلقي مدة من الزمان، وهذا المعنى أوفق بالتنزيل الدال على التدريج.

وأما كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التوراة وكذا الإنجيل والزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك.

على أنهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماوية حتى يسلموا نزولها دفعة.

وكيف كان فقولهم: ﴿لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ اعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنه ليس بكتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه إذ لو كان كتابا سماويا متضمنا لدين سماوي يريده الله من الناس وقد بعث رسولا يبلغه الناس لكان الدين المضمن فيه المراد من الناس دينا تامة أجزاؤه معلومة أصوله وفروعه مجموعة فرائضه وسننه وكان الكتاب المشتمل عليه منظمة أجزاؤه، مركبة بعضه على بعض.

وليس كذلك بل هو أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة وحوادث متشتتة ربما وقع واقع فأتى عند ذلك بشيء من الكلام مرتبط به يسمى جملها المنضودة آيات إلهية ينسبها إلى الله ويدعي أنها قرآن منزل إليه من عند الله سبحانه وليس إلا أنه يتعمل حينا بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولا يفتريه على الله، وليس إلا رجلا صابئا ضل عن السبيل.

هذا تقرير اعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض والجواب.

قوله تعالى: ﴿كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا﴾ الثبات ضد الزوال، والإثبات والتثبيت بمعنى واحد والفرق بينهما بالدفعة والتدريج، والفؤاد القلب والمراد به كما مر غير مرة الأمر المدرك من الإنسان وهو نفسه، والترتيل - كما قالوا - الترسيل والإتيان بالشيء عقيب الشيء، والتفسير - كما قال الراغب - المبالغة في إظهار المعنى المعقول كما أن الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول.

وظاهر السياق أن قوله: ﴿كذلك﴾ متعلق بفعل مقدر يعلله قوله: ﴿لنثبت﴾ ويعطف عليه قوله: ﴿ورتلناه﴾ والتقدير نزلناه أي القرآن كذلك أي نجوما متفرقة لا جملة واحدة لنثبت به فؤادك، وقول بعضهم: إن ﴿كذلك﴾ من تمام قول الذين كفروا سخيف جدا.

فقوله: ﴿كذلك لنثبت به فؤادك﴾ بيان تام لسبب تنزيل القرآن نجوما متفرقة وبيان ذلك أن تعليم علم من العلوم وخاصة ما كان منها مرتبطا بالعمل بإلقاء المعلم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلم حتى تتم فصوله وأبوابه إنما يفيد حصولا ما لصور مسائله عند المتعلم وكونها مذخورة بوجه ما عنده يراجعها عند مسيس الحاجة إليها، وأما استقرارها في النفس بحيث تنمو النفس عليها وتترتب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة والإشراف على العمل وحضور وقته.

ففرق بين بين أن يلقي الطبيب المعلم مثلا مسألة طبية إلى متعلم الطب إلقاء فحسب وبين أن يلقيها إليه وعنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء وهو يعالجه فيطابق بين ما يقول وما يفعل.

ومن هنا يظهر أن إلقاء أي نظرة علمية عند مسيس الحاجة وحضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه وتربيته أثبت في النفس وأوقع في القلب وأشد استقرارا وأكمل رسوخا في الذهن وخاصة في المعارف التي تهدي إليها الفطرة فإن الفطرة إنما تستعد للقبول وتتهيأ للإذعان إذا أحست بالحاجة.

ثم إن المعارف التي تتضمنها الدعوة الإسلامية الناطق بها القرآن إنما هي شرائع وأحكام عملية وقوانين فردية واجتماعية تسعد الحياة الإنسانية مبنية على الأخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلية الإلهية التي تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أن التوحيد ينتهي بالتركيب إليها ثم إلى الأخلاق والأحكام العملية.

فأحسن التعليم وأكمل التربية أن تلقى هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحق والخلق الفاضل والحكم العملي المشروع مع ما يتعلق بها من أسباب الاعتبار والاتعاظ بين قصص الماضين وعاقبة أمر المسرفين وعتو الطاغين والمستكبرين.

وهذه سبيل البيانات القرآنية المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى: ﴿وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا﴾ الإسراء: 106 وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿كذلك لنثبت به فؤادك﴾ والله أعلم.

نعم يبقى عليه شيء وهو أن تفرق أجزاء التعليم وإلقاءها إلى المتعلم على التمهل والتؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللاحق وسقوط الهمة والعزيمة عن ضبط المطالب ففي اتصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمدادا للذهن وتهيئة للفهم على التفقه والضبط لا يحصل بدونه البتة.

وقد أجاب تعالى عنه بقوله: ﴿ورتلناه ترتيلا﴾ فمعناه على ما يعطيه السياق أن هذه التعليمات على نزولها نجوما متفرقة عقبنا بعضها ببعض ونزلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط ولا تنقطع آثار الأبعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور وآيات نازلة بعضها إثر بعض مترتبة مرتلة.

على أن هناك أمرا آخر وهو أن القرآن كتاب بيان واحتجاج يحتج على المؤالف والمخالف فيما أشكل عليهم أو استشكلوه على الحق والحقيقة بالتشكيك والاعتراض، ويبين لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف والحكم الواقعة في الملل والأديان السابقة وما فسرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في الله تعالى والملائكة والجن وقديسي البشر وما وقع في العهدين من أخبار الأنبياء وما بثوه من معارف المبدإ والمعاد، إلى ما بينه القرآن في ذلك.

وهذا النوع من الاحتجاج والبيان لا يستوفي حقه إلا بالتنزيل التدريجي على حسب ما كان يبدو من شبههم ويرد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مسائلهم تدريجا، ويورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شيء وحينا بعد حين.

وإلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا﴾ - والمثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحق أو أساءوا تفسيره إلا جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق يدفعه أو حق محرف عن موضعه فالتفسير الأحسن يرده إلى مستواه ويقومه.

فتبين بما تقدم أن قوله: ﴿كذلك لنثبت به فؤادك﴾ - إلى قوله - وأحسن تفسيرا﴾ جواب عن قولهم: ﴿لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ بوجهين: أحدهما: بيان السبب الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجي.

وثانيهما: بيان السبب الراجع إلى الناس وهو بيان الحق فيما يوردون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المثل والوصف الباطل، والتفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحق المغير عن وجهه المحرف عن موضعه.

ويلحق بهذا الجواب قوله تلوا: ﴿الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا﴾ فهو كالمتمم للجواب على ما سيجيء بيانه.

وتبين أيضا أن الآيات الثلاث مسوقة جميعا لغرض واحد وهو الجواب عما أوردوه من القدح في القرآن هذا، والمفسرون فرقوا بين مضامين الآيات الثلاث فجعلوا قوله: ﴿كذلك لنثبت به فؤادك﴾ جوابا عن قولهم: ﴿لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴿، وقوله: ﴿ورتلناه ترتيلا﴾ خبرا عن ترسيله في النزول أو في القراءة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير ارتباط بما تقدمه.

وجعلوا قوله: ﴿ولا يأتونك بمثل﴾ إلخ، كالبيان لقوله: ﴿كذلك لنثبت به فؤادك﴾ وإيضاحا لكيفية تثبيت فؤاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعله بعضهم ناظرا إلى خصوص المثل الذي ضربوه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن الله بين الحق فيه وجاء بأحسن التفسير وقيل غير ذلك، وجعلوا قوله: ﴿الذين يحشرون﴾ الآية أجنبيا عن غرض الآيتين السابقتين بالكلية.

والتأمل فيما قدمناه في توجيه مضمون الآيتين الأوليين وما سيأتي من معنى الآية الثالثة يوضح فساد جميع ذلك، ويظهر أن الآيات الثلاث جميعا ذات غرض واحد وهو الجواب عما أوردوه من الطعن في القرآن من جهة نزوله التدريجي.

وذكروا أيضا أن الجواب عن قدحهم واقتراحهم بقوله: ﴿كذلك لنثبت به فؤادك﴾ جواب بذكر بعض ما لتفريق النزول من الفوائد وأن هناك فوائد أخرى غير ما ذكره الله تعالى، وقد أوردوا فوائد أخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية: منها: أن الكتب السماوية السابقة على القرآن إنما أنزلت جملة واحدة لأنها أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة والقرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولذلك نزل متفرقا.

ومنها أن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ودليل كونها من عند الله تعالى إعجازها، وأما القرآن فبينة صحته وآية كونه من عند الله تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المقدر بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي.

ولا ريب أن مدار الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، ومن ضرورة تجددها تجدد ما يطابقها.

ومنها: أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ولا يتيسر الجمع بينهما لمكان المضادة والمنافاة، وفيه ما هو جواب لمسائل سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها وفيه ما هو إنكار لبعض ما كان، وفيه ما هو حكاية لبعض ما جرى، وفيه ما فيه إخبار عما سيأتي في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالإخبار عن فتح مكة ودخول المسجد الحرام، والإخبار عن غلبة الروم على الفرس إلى غير ذلك من الفوائد فاقتضت الحكمة تنزيله متفرقا.

وهذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النزول جملة واحدة: أما الوجه الأول فكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أميا لا يقرأ ولا يكتب لا يمنع النزول جملة واحدة، وقد كان معه من يكتبه ويحفظه.

على أن الله سبحانه وعده أن يعصمه من النسيان ويحفظ الذكر النازل عليه كما قال: ﴿سنقرئك فلا تنسى﴾ الأعلى: 6، وقال: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ الحجر: 9، وقال: ﴿إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ حم السجدة: 42، وقدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجا سواء.

وأما الوجه الثاني: فكما أن الكلام المفرق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه أمورا إن اشتمل عليها الكلام كان بليغا وإلا فلا، كذلك الكلام الجملي وإن كان كتابا يقارنه بحسب فصوله وأجزائه أحوال لها اقتضاءات إن طابقها كان بليغا وإلا فلا فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النازل دفعة والكلام المجموع جملة واحدة.

وأما الوجه الثالث فالنسخ ليس إبطالا للحكم السابق وإنما هو بيان انتهاء أمده فمن الممكن الجمع بين الحكمين والمنسوخ والناسخ بالإشارة إلى أن الحكم الأول محدود موقت إن اقتضت المصلحة ذلك.

ومن الممكن أيضا أن يقدم بيان المسائل التي سيسألون عنها حتى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال ولو سألوا عن شيء منها أرجعوا إلى سابق البيان، وكذا من الممكن أن يقدم ذكر ما هو إنكار لما كان أو حكاية لما جرى أو إخبار عن بعض المغيبات فشيء من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر.

على أن تفريق النزول لبعض هذه الحكم والمصالح من تثبيت الفؤاد فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها.

فالحق أن البيان الواقع في الآية بيان تام جامع لا حاجة معه إلى شيء من هذه الوجوه البتة.

قوله تعالى: ﴿الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا﴾ اتصال الآية بما قبلها من الآيات على ما لها من السياق يعطي أن هؤلاء القادحين في القرآن استنتجوا من قدحهم ما لا يليق بمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروه واصفين له بسوء المكانة وضلال السبيل فلم يذكره الله تعالى في ضمن ما حكى من قولهم في القرآن صونا لمقام النبوة أن يذكر بسوء، وإنما أشار إلى ذلك في ما أورد في هذه الآية من الرد عليهم بطريق التكنية.

فقوله: ﴿الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم﴾ كناية عن الذين كفروا القادحين في القرآن الواصفين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما وصفوا، والكناية أبلغ من التصريح.

فالمراد أن هؤلاء القادحين في القرآن الواصفين لك هم شر مكانا وأضل سبيلا لا أنت فالكلام مبني على قصر القلب، ولفظتا ﴿شر﴾ و﴿أضل﴾ منسلختان عن معنى التفضيل أو مفيدتان على التهكم ونحوه.

وقد كنى عنهم بالمحشورين على وجوههم إلى جهنم وهو وصف من أضله الله من المتعنتين المنكرين للمعاد كما قال تعالى: ﴿ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا﴾ الإسراء: 98.

ففي هذه التكنية مضافا إلى كونها أبلغ، تهديد لهم بشر المكان وأليم العذاب وأيضا هي في معنى الاحتجاج على ضلالهم إذ لا ضلال أضل من أن يسير الإنسان على وجهه وهو لا يشعر بما في قدامه، وهذا الضلال الذي في حشرهم على وجوههم إلى جهنم ممثل للضلال الذي كان لهم في الدنيا فكأنه قيل: إن هؤلاء هم الضالون فإنهم محشورون على وجوههم، ولا يبتلي بذلك إلا من كان ضالا في الدنيا.

وقد اختلفت كلماتهم في وجه اتصال الآية بما قبلها فسكت عنه بعضهم، وذكر في مجمع البيان، أنهم قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين: إنهم شر خلق الله فقال الله تعالى: ﴿أولئك شر مكانا وأضل سبيلا﴾ وذكر بعضهم أنها متصلة بقوله قبل آيات: ﴿أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا﴾ وقد عرفت ما يلوح من السياق.

وقد اختلفوا أيضا في المراد بحشرهم على وجوههم فقيل: وهو على ظاهره وهو الانتقال مكبوبا، وقيل: هو السحب.

وقيل: هو الانتقال من مكان إلى مكان منكوسا وهو خلاف المشي على الاستقامة وفيه أن الأولى حينئذ التعبير بالحشر على الرءوس لا على الوجوه، وقد قال تعالى في موضع آخر وهو كتوصيف ما يجري بعد هذا الحشر: ﴿يوم يسحبون في النار على وجوههم﴾ القمر: 48.

وقيل: المراد به فرط الذلة والهوان والخزي مجازا.

وفيه أن المجاز إنما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على الحقيقة.

وقيل: هو من قول العرب: مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب؟ وفيه أن مرجعه إلى الجهل بالمكان المحشور إليه ولا يناسب ذلك تقييد الحشر في الآية بقوله: ﴿إلى جهنم﴾ .

وقيل: الكلام كناية أو استعارة تمثيلية، والمراد أنهم يحشرون وقلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم إليها.

وأورد عليه أنهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وتعلق القلوب بها، ولعل المراد به بقاء آثار ذلك فيهم وعليهم.

وفيه أن مقتضى آيات تجسم الأعمال كون العذاب ممثلا للتعلق بالدنيا والتوجه نحوها فهم في الحقيقة لا شغل لهم يومئذ إلا ذلك.

قوله تعالى: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا﴾ استشهاد على رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول الكتاب عليه قبال تكذيب الكفار به وبكتابه برسالة موسى وإيتائه الكتاب وإشراك هارون في أمره للتخلص إلى ذكر تعذيب آل فرعون وإهلاكهم، ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا﴾ قال في مجمع البيان، التدمير الإهلاك لأمر عجيب، ومنه التنكيل يقال: دمر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه.

والمراد بالآيات آيات الآفاق والأنفس الدالة على التوحيد التي كذبوا بها، وذكر أبو السعود في تفسيره أن الآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى (عليه السلام) ولم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا فدمرناهم.

وهو حسن لو تعين حمل الآيات على آيات موسى (عليه السلام).

ووجه اتصال الآيتين بما قبلهما هو تهديد القادحين في كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته بتنظير الأمر بأمر موسى حيث آتاه الله الكتاب وأرسله مع أخيه إلى قوم فرعون فكذبوه فدمرهم تدميرا.

ولهذه النكتة قدم ذكر إيتاء الكتاب على إرسالهما إلى القوم وتدميرهم مع أن التوراة إنما نزلت بعد غرق فرعون وجنوده فلم يكن الغرض من القصة إلا الإشارة إلى إيتاء الكتاب والرسالة لموسى وتدمير القوم بالتكذيب.

وقيل: الآيتان متصلتان بقوله تعالى قبل: ﴿وكفى بربك هاديا ونصيرا﴾ وهو بعيد.

قوله تعالى: ﴿وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذابا أليما﴾ الظاهر أن قوله: ﴿قوم نوح﴾ منصوب بفعل مقدر يدل عليه قوله: ﴿أغرقناهم﴾.

والمراد بتكذيبهم الرسل تكذيبهم نوحا فإن تكذيب الواحد من رسل الله تكذيب للجميع لاتفاقهم على كلمة الحق.

على أن هؤلاء الأمم كانوا أقواما وثنيين وهم ينكرون النبوة ويكذبون الرسالة من رأس.

وقوله: ﴿وجعلناهم للناس آية﴾ أي لمن بقي بعدهم من ذراريهم، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا﴾ قال في مجمع البيان،: الرس البئر التي لم تطو ذكروا أنهم كانوا قوما بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولا فكذبوا به فأهلكهم الله، وقيل هو اسم نهر كانوا على شاطئه وفي روايات الشيعة ما يؤيد ذلك.

وقوله: ﴿وعادا﴾ إلخ معطوف على ﴿قوم نوح﴾ والتقدير: ودمرنا أو وأهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرس إلخ.

وقوله: ﴿وقرونا بين ذلك كثيرا﴾ القرن أهل عصر واحد وربما يطلق على نفس العصر والإشارة بذلك إلى من مر ذكرهم من الأقوام أولهم قوم نوح وآخرهم أصحاب الرس أو قوم فرعون، والمعنى ودمرنا أو وأهلكنا عادا وهم قوم هود، وثمود وهم قوم صالح، وأصحاب الرس، وقرونا كثيرا متخللين بين هؤلاء الذين ذكرناهم وهم قوم نوح فمن بعدهم.

قوله تعالى: ﴿وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا﴾ كلا منصوب بفعل يدل عليه قوله: ﴿ضربنا له الأمثال﴾ فإن ضرب الأمثال في معنى التذكير والموعظة والإنذار، والتتبير التفتيت، ومعنى الآية.

قوله تعالى: ﴿ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أ فلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا﴾ هذه القرية هي قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل وقد مر تفصيل قصصهم في السور السابقة.

وقوله: ﴿أفلم يكونوا يرونها﴾ استفهام توبيخي فإن القرية كانت على طريق أهل الحجاز إلى الشام.

وقوله: ﴿بل كانوا لا يرجون نشورا﴾ أي لا يخافون معادا أو كانوا آيسين من المعاد، وهذا كقوله تعالى فيما تقدم: ﴿بل كذبوا بالساعة﴾ والمراد به أن المنشأ الأصيل لتكذيبهم بالكتاب والرسالة وعدم اتعاظهم بهذه المواعظ الشافية وعدم اعتبارهم بما يعتبر به المعتبرون أنهم منكرون للمعاد فلا ينجح فيهم دعوة ولا تقع في قلوبهم حكمة ولا موعظة.

بحث روائي:

في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): حديث طويل يذكر فيه قصة أصحاب الرس، ملخصه أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاهدرخت كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها: روشنآب وكان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له الرس يسمين بأسماء: آبان، آذر، دي، بهمن، إسفندار، فروردين، أرديبهشت خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، ومنها اشتق العجم أسماء شهورهم.

وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبة.

أجروا عليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة، وحرموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم ومن شرب منه قتلوه ويقولون: إنه حياة الآلهة فلا ينبغي لأحد أن ينقص حياتها.

وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثم يحرقونها في نار أضرموها فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها وسطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون والشيطان يكلمهم من الشجرة.

وهذا دأبهم في القرى حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التي كان يسكنها ملكهم واسمها إسفندار اجتمع إليها أهل القرى جميعا وعيدوا اثني عشر يوما، وجاءوا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة وكلمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر مما كان من الشياطين في سائر الأعياد من سائر الشجر.

ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا فدعاهم إلى عبادة الله وترك الشرك برهة فلم يؤمنوا فدعا على الشجرة فيبست فلما رأوا ذلك ساءهم فقال بعضهم: إن هذا الرجل سحر آلهتنا، وقال آخرون: إن آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب عليه لآلهتنا.

فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئرا عميقا وألقوه فيها وشدوا رأسها فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم.

وفي نهج البلاغة، قال (عليه السلام): أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفئوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الجبارين.

وفي الكافي، بإسناده عن محمد بن أبي حمزة وهشام وحفص عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهن عن السحق فقال: حدها حد الزاني فقالت المرأة: ما ذكره الله عز وجل في القرآن، فقال: بلى، فقالت: وأين هو؟ قال: هن الرس.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي وابن عساكر عن جعفر بن محمد بن علي: أن امرأتين سألتاه: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرما في كتاب الله؟ قال: نعم هن اللواتي كن على عهد تبع، وهن صواحب الرس، وكل نهر وبئر رس.

قال: يقطع لهن جلباب من نار، ودرع من نار، ونطاق من نار، وتاج من نار، وخفان من نار، ومن فوق ذلك ثوب غليظ جاف جاسف منتن من نار.

قال جعفر: علموا هذا نساءكم.

أقول: وروى القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما في معناه.

وفي تفسير القمي، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وكلا تبرنا تتبيرا﴾ يعني (كسرنا تكسيرا) قال: هي لفظة بالنبطية.

وفيه، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وأما القرية التي أمطرت مطر السوء فهي سدوم قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل يعني من طين.