الآيات 21-31

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ﴿21﴾ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ﴿22﴾ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴿23﴾ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴿24﴾ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا ﴿25﴾ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴿26﴾ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴿27﴾ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴿28﴾ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ﴿29﴾ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴿30﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴿31﴾

بيان:

تحكي الآيات اعتراضا آخر من المشركين على رسالة الرسول يردون به عليه محصله أنه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلمه وحيا لكان الرسول وسائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدعيه من الرسالة حقا لكنا أو كان البعض منا يرى ما يدعي رؤيته ويجد من نفسه ما يجده.

وهذا الاعتراض مما سبقهم إليه أمم الأنبياء الماضين كما حكاه الله: ﴿قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا﴾ إبراهيم: 10، وقد مر تقريبه مرارا.

وهذا مع ما تقدم من اعتراضهم بقولهم: ﴿ما لهذا الرسول يأكل الطعام﴾ إلخ، بمنزلة حجة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين ومحصل تقريره أن الرسالة التي يدعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماوية واتصالا غيبيا لا حظ فيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو يجعل له جنة يأكل منها، وإن كانت خاصة من شأن البشر بما هو بشر أن ينالها يتصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا؟ فلو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.

وقد أجاب الله سبحانه عن الشق الأول بما تقدم تقريره، وعن الثاني بأنهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيوية، والجواب في معنى قوله: ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين﴾ الحجر: 8 وسيجيء تقريره، وفي الآيات إشارة إلى ما بعد الموت ويوم القيامة.

قوله تعالى: ﴿وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا﴾ قال في مجمع البيان، الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه ومثله الطمع والأمل، واللقاء المصير إلى الشيء من غير حائل، والعتو الخروج إلى أفحش الظلم.

المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقى في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الإلهية كما قال تعالى: ﴿ويعلمون أن الله هو الحق المبين﴾.

فالمراد بعدم رجائهم اللقاء إنكارهم للمعاد وتكذيبهم بالساعة ولم يعبر عنه بتكذيب الساعة ونحوه كما عبر في الآيات السابقة لمكان ذكرهم مشاهدة الملائكة ورؤية الرب تعالى وتقدس ففيه إشارة إلى أنهم إنما قالوا ما قالوا وطلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الرب ليأسهم من اللقاء وزعمهم استحالة ذلك فقد ألزموا بما هو مستحيل على زعمهم.

فقولهم: ﴿لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا﴾ اعتراض منهم على رسالة الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر: ﴿لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين﴾ الحجر: 7، وتقرير الحجة كما تقدمت الإشارة إليه أنه لو كانت الرسالة - وهي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - مما يتيسر للبشر نيله ونحن بشر أمثال هذا المدعي للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة ولا نرى ربنا؟ فهلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.

ويؤيد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة ورؤية الرب من غير أن يقولوا: لو لا أنزل علينا الملائكة فيصدقوك أو نرى ربنا فيصدقك.

على أنهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيرا وفيه تصديقه.

وفي التعبير عنه تعالى بلفظ ربنا نوع تهكم منهم فإن المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربا لهم بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم والله سبحانه رب الأرباب فكأنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك ترى أن الله ربك وقد حن إليك فخصك بالمشافهة والتكليم، وأنه ربنا، فليحن إلينا وليشافهنا بالرؤية كما فعل بك.

على أنهم إنما عدلوا عن عبادة أرباب الأصنام وهم الملائكة وروحانيات الكواكب ونحوهم إلى عبادة الأصنام والتماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة والتقرب بالقرابين.

وقوله تعالى: ﴿لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا﴾ أي أقسم لقد طلبوا الكبر لأنفسهم بغير حق وطغوا طغيانا عظيما.

قوله تعالى: ﴿يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا﴾ في المفردات، الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى: ﴿وقالوا هذه أنعام وحرث حجر﴾ ﴿ويقولون حجرا محجورا﴾ كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنا إن ذلك ينفعهم.

وعن الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر وعن أبي عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة.

فقوله: ﴿يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين﴾ ﴿يوم﴾ على ما قيل ظرف لقوله: ﴿لا بشرى﴾ وقوله: ﴿يومئذ﴾ تأكيد له، والمراد بقوله: ﴿لا بشرى﴾ نفي للجنس، والمراد بالمجرمين كل متصف بالإجرام غير أن مورد الكلام إجرام الشرك والمجرمون هم الذين لا يرجون اللقاء، وقد تقدم ذكرهم والمعنى: يوم يرى هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى - على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين وهم منهم.

وقوله: ﴿ويقولون حجرا محجورا﴾ فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة وهم قاصدوهم بالعذاب: حجرا محجورا أي لنكن في معاذ منكم، وقيل: ضمير الجمع للملائكة، والمعنى: ويقول الملائكة للمشركين حراما محرما عليكم سماع البشرى، أو حراما محرما عليكم أن تدخلوا الجنة أو حراما محرما عليكم أن تتعوذوا من العذاب إلى شيء فلا معاذ لكم هذا، والمعنى: الأول أقرب إلى السياق.

والآية في موضع الجواب عن قولهم: ﴿لو لا أنزل علينا الملائكة﴾ وقد أعرضت عن جواب قولهم: ﴿أو نرى ربنا﴾ فإن الرؤية التي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصرية التي تستلزم التجسم والمادية تعالى عن ذلك، وأما الرؤية بعين اليقين وهي الرؤية القلبية فلم يكونوا ممن يفقه ذلك وعلى تقديره ما كانوا يقصدونه.

وأما توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة ورؤيتهم فقد أخذ أصل الرؤية مفروغا منه مسلما أن هناك يوما يرون فيه الملائكة غير أنه وضع الإخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الإخبار عن أصل رؤيتهم للإشارة إلى أن طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجري على نفعهم فإنهم لا يرون الملائكة إلا يوم يشافهون عذاب النار وذلك بعد تبدل النشأة الدنيوية من النشأة الأخرى كما أشار إليه في موضع آخر بقوله: ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين﴾ الحجر: 8، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب وهم يحسبون أنهم يعجزون الله ورسوله بالحجة.

وأما ما هو هذا اليوم الذي أشير إليه بقوله: ﴿يوم يرون الملائكة﴾ فقد ذكر المفسرون أنه يوم القيامة لكن الذي يعطيه السياق مع ما ينضم إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت وما بعده كقوله: ﴿ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون﴾ الأنعام: 93، وقوله: ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها﴾ النساء: 97 إلى غير ذلك من الآيات.

أن المراد به الموت وهو المسمى في عرف القرآن برزخا فإن في الآيات دلالة قاطعة على أنهم يرون الملائكة ويشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة، والمتعين - على ما يقتضيه طبع المخاصمة - في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أول يوم يراهم بما يسوؤه وهو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة وقوله لهم: حجرا محجورا، وقد رآهم قبل ذلك وعذب بأيديهم أمدا بعيدا وهو ظاهر.

فالظاهر أن الآية والآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه، وإحباط أعمالهم فيه، وحال أهل الجنة التي فيه.

قوله تعالى: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ قال الراغب في المفردات:، العمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات، والعمل قلما ينسب إلى ذلك، ولم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم: البقر العوامل.

وقال: الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة.

والنثر التفريق.

والمعنى: وأقبلنا إلى كل عمل عملوه - والعمل هو الذي يعيش به الإنسان بعد الموت - ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور، والكلام مبني على التمثيل مثل به استيلاء القهر الإلهي على جميع أعمالهم التي عملوها لسعادة الحياة وإبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخرب الدار وهدم الآثار وأحرق المتاع والأثاث فأفنى منه كل عين وأثر.

ولا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الأعمال يومئذ وبين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم وإجرامهم فإن معنى الإحباط بعد الموت ظهور الحبط لهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم وقد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع.

قوله تعالى: ﴿أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا﴾ المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات: ﴿قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون﴾ والمستقر والمقيل اسما مكان من الاستقرار ومعناه ظاهر ومن القيلولة وهي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا - على ما قيل - والجنة لا نوم فيه.

وكلمتا ﴿خير﴾ و﴿أحسن﴾ منسلخان عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى: ﴿وهو أهون عليه﴾ الروم: 27، وقوله: ﴿ما عند الله خير من اللهو﴾ الجمعة: 11 كذا قيل، وليس يبعد أن يقال: إن ﴿أفعل﴾ أو ما هو في معناه كخير بناء على ما رجحنا أنه صفة مشبهة تدل على التفضيل بمادته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل والعناية في ذلك أنهم لما اختاروا الشرك والإجرام واستحسنوا ذلك ولازمه النار في الآخرة فقد أثبتوا لها خيرية وحسنا فقوبلوا بأن الجنة وما فيها خير وأحسن حتى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار وأن يختاروا الإيمان على الكفر على أي حال، وقيل: إن التفضيل مبني على التهكم.

قوله تعالى: ﴿ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا﴾ الظاهر أن الظرف منصوب بفعل مقدر، والمعنى واذكر يوم كذا وكذا فإنهم يرون الملائكة فيه أيضا وهذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد: ﴿الملك يومئذ الحق للرحمن﴾ وقيل في متعلق الظرف وجوه أخر لا فائدة في نقلها.

و﴿تشقق﴾ أصله تتشقق من باب التفعل من الشق بمعنى الخرم والتشقق التفتح، والغمام السحاب سمي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغم بمعنى الستر.

والباء في قوله: ﴿تشقق السماء بالغمام﴾ إما للملابسة والمعنى تتفتح السماء متلبسة بالغمام أي متغيمة، وإما بمعنى عن والمعنى تتفتح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشققه.

وكيف كان فظاهر الآية أن السماء تنشق يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها ونزل منها الملائكة الذين هم سكانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر: ﴿وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها﴾ الحاقة: 17.

وليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم السماء وهو من الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الأرضي موطن الإنسان.

وقيل: المراد أن السماء يشقها الغمام وهو الذي يذكره في قوله: ﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور﴾ البقرة: 210، وقد مر كلام في تفسير الآية.

والتعبير عن الواقعة بالتشقق دون التفتح وما يماثله للتهويل، وكذا التنوين في قوله: ﴿تنزيلا﴾ للدلالة على التفخيم.

قوله تعالى: ﴿الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا﴾ أي الملك المطلق يومئذ حق ثابت للرحمن وذلك لبطلان الأسباب وزوال ما بينها وبين مسبباتها من الروابط المتنوعة، وقد تقدم غير مرة أن المراد بذلك في يوم القيامة هو ظهور أن الملك والحكم لله والأمر إليه وحده، وأن لا استقلال في شيء من الأسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة ورجوع كل شيء إليه تعالى.

وقوله: ﴿وكان يوما على الكافرين عسيرا﴾ الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الأسباب وإخلادهم إلى الحياة الأرضية البائدة الداثرة وانقطاعهم عن السبب الحقيقي الذي هو مالك الملك بالحقيقة وعن حياتهم الباقية المؤبدة فيصبحون اليوم ولا ملاذ لهم ولا معاذ.

فعلى هذا يكون الملك مبتدأ والحق خبره عرف لإفادة الحصر، ويومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدإ، وفائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإن حقيقة الملك لله سبحانه دائما، وإنما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوري عن الأشياء فيه وثبوته لها في غيره.

وقال بعضهم: الملك بمعنى المالكية ويومئذ متعلق به والحق خبر الملك، وقيل: يومئذ متعلق بمحذوف هو صفة للحق، وقيل: المراد بيومئذ هو يوم الله، وقيل: يومئذ هو الخبر للملك والحق صفة للمبتدإ، وهذه أقوال ردية لا جدوى لها.

قوله تعالى: ﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾ قال الراغب في المفردات، العض أزم بالأسنان، قال تعالى: ﴿عضوا عليكم الأنامل﴾ و﴿ويوم يعض الظالم﴾ وذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك.

ولذلك يتمنى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم: ﴿يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا﴾.

والظاهر أن المراد بالظالم جنسه وهو كل من لم يهتد بهدى الرسول، وكذا المراد بالرسول جنسه وإن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الأمة والرسول على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

والمعنى: واذكر يوم يندم الظالم ندما شديدا قائلا من فرط ندمه يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ما إلى الهدى أي سبيل كانت.

قوله تعالى: ﴿يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا﴾ تتمة تمني الظالم النادم على ظلمه، وفلان كناية عن العلم المذكر وفلانة عن العلم المؤنث قال الراغب: فلان وفلانة كنايتان عن الإنسان والفلان والفلانة - باللام - كنايتان عن الحيوانات.

والمعنى: يا ويلتى - يا هلاكي - ليتني لم أتخذ فلانا - وهو من اتخذه صديقا يشاوره ويسمع منه ويقلده - خليلا.

وذكر بعضهم: أن فلانا في الآية كناية عن الشيطان، وكأنه نظرا إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للإنسان غير أن السياق لا يساعد عليه.

ومن لطيف التعبير قوله في الآية السابقة: ﴿يا ليتني اتخذت﴾ إلخ وفي هذه الآية: ﴿يا ويلتى ليتني لم أتخذ﴾ إلخ فإن في ذلك تدرجا لطيفا في النداء والاستغاثة فحذف المنادى في الآية السابقة يلوح إلى أنه يريد أي منج ينجيه مما هو فيه من الشقاء وذكر الويل بعد ذلك - في هذه الآية يدل على أنه بان له أن لا يخلصه من العذاب شيء قط إلا الهلاك والفناء، ولذلك نادى الويل.

قوله تعالى: ﴿لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا﴾ تعليل للتمني السابق والمراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماوية وينطبق بحسب المورد على القرآن.

وقوله: ﴿وكان الشيطان للإنسان خذولا﴾ من كلامه تعالى ويمكن أن يكون تتمة لكلام الظالم ذكره تأسفا وتحسرا.

والخذلان بضم الخاء ترك من يظن به أن ينصر نصرته، وخذلانه أنه يعد الإنسان أن ينصره على كل مكروه إن تمسك بالأسباب ونسي ربه فلما تقطعت الأسباب بظهور القهر الإلهي يوم الموت جزئيا ويوم القيامة كليا خذله وسلمه إلى الشقاء، قال تعالى: ﴿كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك﴾ الحشر: 16 وقال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة: ﴿ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل﴾ إبراهيم: 22.

وفي هذه الآيات الثلاث إشعار بل دلالة على أن السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الأهواء وأولياء الشيطان، والمشاهدة يؤيد ذلك.

قوله تعالى: ﴿وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا﴾ المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرينة ذكر القرآن، وعبر عنه بالرسول تسجيلا لرسالته وإرغاما لأولئك القادحين في رسالته وكتابه والهجر بالفتح فالسكون الترك.

وظاهر السياق أن قوله: ﴿وقال الرسول﴾ إلخ معطوف على ﴿يعض الظالم﴾ والقول مما يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البث والشكوى وعلى هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع والمراد بالقوم عامة العرب بل عامة الأمة باعتبار كفرتهم وعصاتهم.

وأما كونه استئنافا أو عطفا على قوله: ﴿وقال الذين لا يرجون لقاءنا﴾ وكون ما وقع بينهما اعتراضا فبعيد من السياق وعليه فلفظة قال على ظاهر معناها والمراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه.

ونظيره في الضعف قول بعضهم: إن المهجور من الهجر بمعنى: الهذيان.

وهو ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا﴾ أي كما جعلنا هؤلاء المجرمين عدوا لك كذلك جعلنا لكل نبي عدوا منهم أي هذه من سنتنا الجارية في الأنبياء وأممهم فلا يسوأنك ما تلقى من عداوتهم ولا يشقن عليك ذلك، ففيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومعنى: جعل العدو من المجرمين أن الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحق وأبغضوا الداعي إليه وهو النبي فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة.

وقوله: ﴿وكفى بربك هاديا ونصيرا﴾ معناه - على ما يعطيه السياق - لا يهولنك أمر عنادهم وعداوتهم ولا تخافنهم على اهتداء الناس ونفوذ دينك فيهم وبينهم فحسبك ربك كفى به هاديا يهدي من استحق من الناس الهداية واستعد له وإن كفر هؤلاء وعتوا فليس اهتداء الناس منوطا باهتدائهم وكفى به نصيرا ينصرك وينصر دينك الذي بعثك به وإن هجره هؤلاء ولم ينصروك ولا دينك فالجملة مسوقة لإظهار الاستغناء عنهم.

فظهر أن صدر الآية مسوق لتسلي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذيله للاستغناء عن المجرمين من قومه، وفي قوله: ﴿وكفى بربك﴾ حيث أخذ بصفة الربوبية: مضافة إلى ضمير الخطاب ولم يقل: وكفى بالله تأييد له.

بحث روائي:

في تفسير البرهان، عن كتاب الجنة والنار بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث يذكر فيه قبض روح الكافر قال: فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره وقيل: ﴿أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق - وكنتم عن آياته تستكبرون﴾ وذلك قوله: ﴿يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين - ويقولون حجرا محجورا﴾ فيقولون حراما عليكم الجنة محرما.

وفي الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق والفاريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الهباء ريح الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء فجعل الله أعمالهم كذلك.

وفيه، أخرج سمويه في فوائده عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثال جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار.

قال سالم: بأبي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم، قال: كانوا يصلون ويصومون ويأخذون سنة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم وفي الكافي، بإسناده عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ قال: أما والله لقد كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.

أقول: وهذا المعنى مروي فيه وفي غيره عنه وعن أبيه (عليه السلام) بغير واحد من الطرق.

وفي الكافي، أيضا بإسناده عن عبد الأعلى وبإسناد آخر عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في حديث وضع المؤمن في قبره.

ثم يفسحان يعني الملكين في قبره مد بصره ثم يفتحان له بابا إلى الجنة ويقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم فإن الله يقول: ﴿أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا﴾.

أقول: والرواية - كما ترى - تجعل الآية من آيات البرزخ، وتشير بقوله: ويقال له: نم (إلخ) إلى نكتة التعبير في الآية بالمقيل فليتنبه.

وفي الدر المنثور، أخرج أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء.

فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: أطعم يا ابن أخي.

قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك وطعم من طعامه.

فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال أصبوت يا عقبة؟.

وكان خليله فقال: لا والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل عقبة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل من الأسارى يومئذ غيره.

أقول: وقد ورد في غير واحد من الروايات في قوله تعالى: ﴿يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾ أن السبيل هو علي (عليه السلام) وهو من بطن القرآن أو من قبيل الجري وليس من التفسير في شيء.