الآيات 4-20

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا ﴿4﴾ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿5﴾ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿6﴾ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴿7﴾ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴿8﴾ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴿9﴾ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ﴿10﴾ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ﴿11﴾ إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴿12﴾ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴿13﴾ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ﴿14﴾ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا ﴿15﴾ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا ﴿16﴾ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴿17﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ﴿18﴾ فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴿19﴾ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴿20﴾

بيان:

تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجيب عنه.

قوله تعالى: ﴿قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون﴾ إلخ في التعبير بمثل قوله: ﴿وقال الذين كفروا﴾ من غير أن يقال: وقالوا، مع تقدم ذكر الكفار في قوله ﴿واتخذوا من دونه آلهة﴾ تلويح إلى أن القائلين بهذا القول هم كفار العرب دون مطلق المشركين.

والمشار إليه بقولهم: ﴿إن هذا﴾ القرآن الكريم، وإنما اكتفوا بالإشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشيء من أوصافه إزراء به وحطا لقدره.

والإفك هو الكلام المصروف عن وجهه، ومرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذبا اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسبه إلى الله سبحانه.

والسياق لا يخلو من إيماء إلى أن المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب وقد ورد في بعض الآثار أن القوم الآخرين هم عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة أسلموا وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتعهدهم فقيل ما قيل.

وقوله: ﴿فقد جاءوا ظلما وزورا﴾ قال في مجمع البيان، إن جاء وأتى ربما كانا بمعنى فعل فيتعديان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلما وكذبا، وقيل إن ظلما منصوب بنزع الخافض والتقدير فقد جاءوا بظلم، وقيل: حال والتقدير فقد جاءوا ظالمين وهو سخيف.

وفيه، أيضا: ومتى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم؟ قلنا: لما تقدم التحدي وعجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى هاهنا بالتنبيه على ذلك انتهى والظاهر أن الجواب عن قولهم: ﴿إن هذا إلا إفك افتراه﴾ إلخ، وقولهم: ﴿أساطير الأولين اكتتبها﴾ إلخ، جميعا هو قوله تعالى: ﴿قل أنزله الذي يعلم السر﴾ إلخ، على ما سنبين والجملة أعني قوله: ﴿فقد جاءوا ظلما وزورا﴾ رد مطلق لقولهم وهو في معنى المنع مع السند وسنده الآيات المشتملة على التحدي.

وبالجملة معنى الآية: وقال الذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلا كلاما مصروفا عن وجهه - حيث إنه كلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد نسبه إلى الله - افترى به على الله وأعانه على هذا الكلام قوم آخرون وهم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الذين كفروا بقولهم هذا ظلما وكذبا.

قوله تعالى: ﴿وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا﴾ الأساطير جمع أسطورة بمعنى الخبر المكتوب ويغلب استعماله في الأخبار الخرافية والاكتتاب هو الكتابة ونسبته إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كونه أميا لا يكتب إنما هي بنوع من التجوز ككونه مكتوبا باستدعاء منه كما يقول الأمير كتبت إلى فلان كذا وكذا وإنما كتبه كاتبه بأمره، والدليل على ذلك قوله بعد: ﴿فهي تملى عليه بكرة وأصيلا﴾ إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للإملاء، وقيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب.

والإملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه ويعيه أو إلى الكاتب ليكتبه والمراد به في الآية هو المعنى الأول على ما يعطيه سياق ﴿اكتتبها فهي تملى عليه﴾ إذ ظاهره تحقق الاكتتاب دفعة والإملاء تدريجا على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرأ عليه وقتا بعد وقت وهو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه وحفظه.

والبكرة والأصيل الغداة والعشي، وهو كناية عن الوقت بعد الوقت، وقيل المراد أول النهار قبل خروج الناس من منازلهم وآخر النهار بعد دخولهم في منازلهم وهو كناية عن أنها تملى عليه خفية.

والآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنهم يوضحون قولهم: إنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون بأنهم كتبوا له أساطير الأولين ثم يملونها عليه وقتا بعد وقت بقراءة شيء بعد شيء عليه، وهو يقرؤها على الناس وينسبها إلى الله سبحانه.

فالآية بتمامها من كلام الذين كفروا وربما قيل: إن قوله ﴿اكتتبها فهي تملى عليه﴾ إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، وهو استفهام إنكاري لقولهم: أساطير الأولين والسياق لا يساعد عليه.

قوله تعالى: ﴿قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما﴾ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برد قولهم وتكذيبهم فيما رموا به القرآن أنه إفك مفترى وأنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه وقتا بعد وقت.

وتوصيفه تعالى بأنه يعلم السر أي خفيات الأمور وبواطنها في السماوات والأرض للإيذان بأن هذا الكتاب الذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، وفيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم التي منها رميهم القرآن بأنه إفك مفترى وأنه من الأساطير وهو مما يعلمه تعالى.

وقوله: ﴿إنه كان غفورا رحيما﴾ تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم وتأخير عقوبتهم على جناياتهم وتكذيبهم للحق وجرأتهم على الله سبحانه.

والمعنى: قل إن القرآن ليس إفكا مفترى ولا من الأساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسرارا خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم ولا تحيط بها أحلامكم، ورميكم إياه بالإفك والأساطير وتكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقون بها العقوبة غير أن الله سبحانه أمهلكم وأخر عقوبة جنايتكم لأنه متصف بالمغفرة والرحمة وذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية.

وفيه أن السياق لا يساعد عليه فإن محصل معنى الآية على ما فسروه يرجع إلى رد دعوى الكفار كون القرآن إفكا مفترى ومن الأساطير بدعوى أنه منزل من عند الله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لرد الدعوى بدعوى أخرى مثلها أو هي أخفى منها.

على أن التعليل بقوله: ﴿إنه كان غفورا رحيما﴾ إنما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الإمهال والتأخير وإنما المناسب للإمهال والتأخير من الأسماء هو مثل الحليم والعليم والحكيم دون الغفور الرحيم.

والأوفق لمقام المخاصمة والدفاع بإبانة الحق والتعليل بالمغفرة والرحمة أن يكون قوله ﴿إنه كان غفورا رحيما﴾ تعليلا لإنزال الكتاب وقد ذكر قبل ذلك أنه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا وهذه هي النبوة، ويكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السر في السماوات والأرض للإيماء إلى أن في سرهم ما يستدعي شمول المغفرة والرحمة الإلهيتين لحالهم وهو طلبهم بفطرتهم وجبلتهم للسعادة والعاقبة الحسنى التي ليست حقيقتها إلا السعادة الإنسانية بشمول المغفرة والرحمة وإن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتع بالحياة الدنيا وزينتها الداثرة فيكون حجة برهانية على حقية الدعوة النبوية المشتملة عليها القرآن، وبطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الأولين.

وتقرير الحجة أن الله سبحانه يعلم السر في السماوات والأرض وهو يعلم أن في سركم المستقر في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبا للسعادة وطلبا وانتزاعا للعاقبة الحسنى وحقيقتها فوز الدنيا والآخرة، وكان سبحانه غفورا رحيما ومقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سركم وبلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله التي تضمن لكم السعادة.

وهذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله ولا من قبيل الأساطير بل هو كتاب يتضمن ما تسألونه بفطرتكم وتستدعونه في سركم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة والرحمة وإن توليتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله ولو لم يكن نازلا من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة ولم يدع إلى محض الحق ولاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم ونفعكم وهو الذي يجلب إليكم المغفرة والرحمة، وتارة إلى ما هو شر لكم وضار وهو الذي يثير عليكم السخط الإلهي ويستوجب لكم العقوبة.

قوله تعالى: ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها﴾ هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله: ﴿وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه﴾ إلخ.

وتعبيرهم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم: ﴿هذا الرسول﴾ مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم والاستهزاء.

وقولهم: ﴿ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق﴾ استفهام للتعجيب والوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب وهو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها، ومتلوث بقذاراتها، ولذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة، وليس للبشر شيء من ذلك.

ومن هنا يظهر معنى قولهم: ﴿ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق﴾ وأن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الأسواق لاكتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية، وليست إلا من شئون الملائكة ولذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى: ﴿لو شاء الله لأنزل ملائكة﴾ المؤمنون: 24 أو ما في معناه.

ومن هنا يظهر أيضا أن قولهم: ﴿لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا﴾ تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق والرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية فإن، تنزلنا وسلمنا رسالته وهو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الإنذار وتبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك.

وكذا قولهم: ﴿أو يلقى إليه كنز﴾ تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك واستقل بالرسالة وهو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية ولا يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به، ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة.

وكذا قولهم: ﴿أو تكون له جنة يأكل منها﴾ تنزل عما قبله في الاقتراح، والمعنى: وإن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها ولا يحتج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.

قوله تعالى: ﴿وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا﴾ المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهو من وضع الظاهر موضع المضمر ووصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم والاجتراء على الله ورسوله.

وقولهم: ﴿إن تتبعون﴾ إلخ، خطاب منهم للمؤمنين تعييرا لهم وإغواء عن طريق الحق، ومرادهم بالرجل المسحور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريدون أنه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيل إليه أنه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب.

قوله تعالى: ﴿انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا﴾ الأمثال الأشباه وربما قيل: إن المثل هنا بمعنى الوصف على حد قوله تعالى: ﴿مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن﴾ محمد: 15، والمحصل: انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق كقولهم إنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة لأن الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة ولا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش، وكقولهم: إنه رجل مسحور.

وقوله: ﴿فضلوا فلا يستطيعون سبيلا﴾ أي تفرع على هذه الأمثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق ولا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانيا، وربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا، ومن سمى كتاب الله بالأساطير ووصف رسوله بالمسحور ولم يزل يزيد تعنتا ولجاجا واستهزاء بالحق كيف يرجى اهتداؤه وحاله هذه؟.

قوله تعالى: ﴿تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا﴾ الإشارة في قوله: ﴿من ذلك﴾ إلى ما اقترحوه من قولهم: ﴿أو تكون له جنة يأكل منها﴾ أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز والجنة.

والقصور جمع قصر وهو البيت المشيد العالي، وتنكير ﴿قصورا﴾ للدلالة على التعظيم والتفخيم.

والآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة غير أن فيها التفاتا من التكلم إلى الغيبة فلم يقل: قل إن شاء ربي جعل لي كذا وكذا بل عدل إلى قوله: ﴿تبارك الذي إن شاء جعل لك﴾ إلخ.

وفيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا ولا يصلحون لأن يخاطبوا لأنهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه، ولم يدع أن له قدرة غيبية وسلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الإسراء، ﴿قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا﴾ الإسراء: 93.

فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم وعن الجواب عما اقترحوه، وإنما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ربه الذي اتخذه رسولا وأنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا قادر على أعظم مما يقترحونه فإن شاء جعل له خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، ويجعل له قصورا لا يبلغ وصفها واصف وذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه.

وبهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز والجنة، وأما نزول الملك إليه ليشاركه في الإنذار ويعينه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه، وقد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله: ﴿ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾ الأنعام: 9، وقوله: ﴿قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا﴾ الإسراء: 95، وقوله: ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين﴾ الحجر: 8، وقد تقدم تقرير حجة كل من الآيات في ضمن تفسيرها.

ومن هنا يظهر أن المراد بجعل الجنات والقصور له (صلى الله عليه وآله وسلم) جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة ورد قولهم فإن المحصل من السياق أنهم يقترحون عليك كيت وكيت وهم يريدون تعجيزك وتبكيتك وإن ربك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار إلخ وهي لا محالة في الدنيا وإلا لم ينقطع به الخصام.

وبذلك يتبين فساد ما نقل عن بعضهم أن المراد جنات الآخرة وقصورها وأفسد منه قول آخرين إن المراد جعل جنات تجري من تحتها الأنهار في الدنيا وجعل القصور في الآخرة، وربما استونس لذلك بأن التعبير في الجنات بقوله: ﴿إن شاء جعل﴾ وهو صيغة ماض مفيدة للتحقق مناسبة للدنيا وفي القصور بقوله: ﴿يجعل﴾ وهو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أن الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان، والاختلاف في التعبير تفنن فيه وتجديد لصورة الكلام والله العالم.

قوله تعالى: ﴿بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا﴾ ، إضراب عن طعنهم فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتراضهم عليه بأكل الطعام والمشي في الأسواق بما يتضمن معنى التكذيب أي ما كذبوك وردوا نبوتك لأنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق فإنما هو كلام منهم صوري بل السبب الأصلي في إنكارهم نبوتك وطعنهم فيك أنهم كذبوا بالساعة وأنكروا المعاد، ومن المعلوم أن لا وقع للنبوة مع إنكار الساعة ولا معنى للدين والشريعة لو لا المحاسبة والمجازاة.

فالإشارة إلى السبب الأصلي بعد ذكر الاعتراض والاقتراح والجواب هاهنا نظير ما وقع في سورة الإسراء بعد ذكر الاقتراحات ثم الجواب من ذكر السبب الأصلي في قوله: ﴿قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا﴾.

وذكر جمع من المفسرين أن قوله: ﴿بل كذبوا بالساعة﴾ حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضا آخر منها متعلقا بالتوحيد والكتاب والرسالة في قوله: ﴿واتخذوا من دونه آلهة﴾ وقوله: ﴿وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك﴾ إلخ، وقوله: ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل﴾ إلخ.

ثم تشعبوا في نكتة الإضراب، فذكر بعضهم أن الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه، وقال بعضهم: إن إنكاره أعظم، وقال بعضهم: إنه أعجب إلى غير ذلك.

والحق أن السياق لا يساعد عليه فإن السياق المتعرض لطعنهم في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والجواب عنه لم يتم بعد بشهادة قوله بعد: ﴿وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق﴾ إلخ، وما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول والمجيبة عنه، وهو ظاهر.

وقوله تعالى: ﴿وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا﴾ وضع الموصول والصلة مكان الضمير الراجع للدلالة على أن الجزاء بالسعير ثابت في حق كل من كذب بالساعة هم وغيرهم فيه سواء، وعلى أن سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة.

ووضع الساعة ثانيا موضع ضميرها ليكون أنص وأصرح فهو المناسب لمقام التهديد، والسعير النار المشتعلة الملتهبة.

قوله تعالى: ﴿إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا﴾ في المفردات.

الغيظ أشد غضب إلى أن قال والتغيظ هو إظهار الغيظ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال: ﴿سمعوا لها تغيظا وزفيرا﴾ انتهى، وفيه أيضا: الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه.

والآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنها تشتد إذا ظهروا لها كالأسد يزأر إذا رأى فريسته.

قوله تعالى: ﴿وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا﴾ ﴿مكانا﴾ منصوب بتقدير في، والثبور الويل والهلاك.

والتقرين التصفيد بالأغلال والسلاسل وقيل: هو جعلهم مع قرناء الشياطين وهو بعيد من اللفظ.

والمعنى وإذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار وهم مصفدون بالأغلال دعوا هنالك ثبورا لا يوصف وهو قولهم: وا ثبوراه.

قوله تعالى: ﴿لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا﴾ الاستغاثة بالويل والثبور نوع احتيال للتخلص من الشدة وإذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل ولا يجدي فيه سبب البتة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلا ولذا قال تعالى: ﴿لا تدعوا اليوم﴾ إلخ، فهو كناية عن أن الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم.

فهو في معنى قوله تعالى: ﴿اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم﴾ الطور: 16، وقوله حكاية عنهم: ﴿سواء علينا أ جزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص﴾ إبراهيم: 21.

وقيل: المراد أن عذابكم طويل مؤبد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة، وهو بعيد.

قوله تعالى: ﴿قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون - إلى قوله - مسئولا﴾ الإشارة إلى السعير بما له من الوصف، أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم أيهما أرجح السعير أم جنة الخلد؟ والسؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل وهو دائر في المناظرة والمخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة والآخر بديهي البطلان فيكلف أن يختار أحدهما: فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره، وإن اختار الباطل افتضح.

وقوله: ﴿أم جنة الخلد﴾ إضافة الجنة إلى الخلد وهو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أن قوله بعد: ﴿خالدين﴾ للدلالة على أن أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم.

وقوله: ﴿وعد المتقون﴾ تقديره وعدها المتقون لأن وعد يتعدى لمفعولين والمتقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل.

وقوله: ﴿كانت لهم جزاء ومصيرا﴾ أي جزاء لتقواهم ومنقلبا ينقلبون إليه بما هم متقون كما قال تعالى: ﴿إن المتقين في جنات وعيون - إلى أن قال - وما هم منها بمخرجين﴾ الحجر: 48 وهو من الأقضية التي قضاها يوم خلق آدم وأمر الملائكة وإبليس بالسجود له، ويتعين به جزاء المتقين ومصيرهم كما تقدم في تفسير سورة الحجر.

وقوله: ﴿لهم فيها ما يشاءون خالدين﴾ أي إنهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كل ما تتعلق به مشيتهم، ولا تتعلق مشيتهم إلا بما يحبونه ويشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم: ﴿وحيل بينهم وبين ما يشتهون﴾ سبأ: 54، ولا يحبون ولا يشتهون إلا ما من شأنه أن يتعلق به الحب واقعا وهو الذي يحبه الله لهم وهو ما يستحقونه من الخير والسعادة مما يستكملون به ولا يستضرون به لا هم ولا غيرهم فافهم ذلك.

وبهذا البيان يظهر أن لهم إطلاق المشية يعطون ما شاءوا وأرادوا غير أنهم لا يشاءون إلا ما فيه رضا ربهم، ويندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشية كهذه الآية أن لازم إطلاق المشية أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي والقبائح والشنائع واللغو، وأن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنة، وأن يريدوا نجاة بعض المخلدين في النار، وأن يريدوا مقامات الأنبياء والمخلصين من الأولياء ممن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك.

كيف؟ وقد قال تعالى: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾ الفجر: 27 - 30 فهم راضون بما رضي به الله ومرضيون لا يريدون إلا ما يرتضيه فلا يريدون معصية ولا قبيحا ولا شنيعا ولا لغوا ولا كذابا، ولا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنة، ولا يريدون ارتفاع العذاب ممن يريد ربهم عذابه، ولا يشاءون ولا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لأن الذي خصهم بها هو ربهم وقد رضوا بما فعل وأحبوا ما أحبه.

وقوله تعالى: ﴿كان على ربك وعدا مسئولا﴾ أي كان هذا الوعد الذي وعده المتقون وعدا على ربك يجب عليه أن يفي به، وإنما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أول يوم، وأخبر عن ذلك بمثل قوله: ﴿وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن - إلى أن قال - هذا ما توعدون ليوم الحساب: ص: 53.

ووجه اتصاف هذا الوعد بكونه مسئولا أن المتقين سألوا ربهم ذلك بلسان حالهم واستعدادهم، أو سألوه ذلك في دعائم، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم: ﴿ربنا وأدخلهم جنات عدن إلخ﴿: المؤمنون: 8 أو جميع هذه الأسئلة.

وذكر الطبرسي (ره) في الآية أن قوله: ﴿كانت لهم جزاء ومصيرا﴾ حال من ضمير الجنة المقدر في ﴿وعد المتقون﴾ وأن قوله: ﴿لهم فيها ما يشاءون﴾ حال من ﴿المتقون﴾ وهو أقرب إلى الذهن من قول غيره إن الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدر.

قوله تعالى: ﴿ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله﴾ إلى آخر الآية ضمائر الجمع الأربعة عائدة إلى الكفار، والمراد بما يعبدون الملائكة والمعبودون من البشر والأصنام إن كان ﴿ما﴾ أعم من غير أولي العقل، وإلا فالأصنام فقط.

والمشار إليهم المعنيون بقوله: ﴿عبادي هؤلاء﴾ الكفار ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء﴾ إلخ، جواب المعبودين عن قوله: ﴿ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء﴾ إلخ وقد بدءوا بالتسبيح على ما هو من أدب العبودية في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو ما يوهم ذلك بوجه.

وقوله: ﴿ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء﴾ أي ما صح وما استقام لنا أن نتجاوزك إلى غيرك فنتخذ من دونك من أولياء وهم الذين عبدونا واتخذونا أولياء من دونك، وقوله: ﴿ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا﴾ البور جمع بائر وهو الهالك وقيل: الفاسد.

لما نفى المعبودون المسئولون عن سبب ضلال عبادهم نسبة الإضلال إلى أنفسهم أخذوا في نسبته إلى الكفار أنفسهم مع بيان السبب الذي أضلهم وهو أنهم كانوا قوما هالكين أو فاسدين وقد متعتهم وآباءهم من أمتعة الحياة الدنيا ونعمها حتى طال عليهم التمتيع امتحانا وابتلاء فتمتعوا منها واشتغلوا بها حتى نسوا الذكر الذي جاءت به الرسل فعدلوا عن التوحيد إلى الشرك.

فكونهم قوما هالكين أو فاسدين بسبب انكبابهم على الدنيا وانهماكهم في الشهوات هو السبب في استغراقهم في التمتع وانصراف هممهم إلى الاشتغال بالأسباب وهو السبب لنسيانهم الذكر والعدول عن التوحيد إلى الشرك.

فتبين بذلك أن قوله: ﴿وكانوا قوما بورا﴾ من تمام الجواب وأما من جعل الجملة اعتراضا تذييليا مقررا لمضمون ما قبله واستفاد منه أن السبب الأصلي في ضلالهم أنهم كانوا بحسب ذواتهم أشقياء هالكين، وليس ذلك إلا بقضاء حتم منه تعالى في سابق علمه فهو المضل لهم حقيقة، وإنما نسب إلى أنفسهم أدبا.

ففيه أولا: أنه إفساد لمعنى الآية إذ لا موجب حينئذ لإيراد الاستدراك بقوله: ﴿ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر﴾ لكونه فضلا لا حاجة إليه.

وثانيا: أن نسبة البوار والشقاء إلى ذوات الأشياء ينافي ما أطبق عليه العقلاء بفطرتهم من تأثير التعليم والتربية، والحس والتجربة يؤيدان ذلك وهو يناقض القول بالاختيار والجبر معا، أما مناقضة القول بالاختيار فظاهر، وأما مناقضة القول بالجبر فلأن الجبري يقصر العلية في الواجب تعالى وينفيه عن غيره ويناقضه نسبة الاقتضاء الضروري إلى ذوات الأشياء وماهياتها.

وثالثا: أن فيه خلطا في معنى القضاء من حيث متعلقه فكون القضاء حتما لا يوجب خروج الفعل الذي تعلق به من الاختيار إلى الإجبار فإن القضاء إنما تعلق بالفعل بحدوده وهو صدوره عن اختيار الفاعل من حيث إنه صادر عن اختياره فتعلقه يوجب تأكد كونه اختياريا لا أنه يزيل عنه وصف الاختيار.

ورابعا: أن قولهم: إن المضل بالحقيقة هو الله وإنما نسبوا الضلال إلى الكفار أنفسهم تأدبا وبمثله صرحوا في نسبة المعاصي والأعمال القبيحة الشنيعة والفجائع الفظيعة إلى فواعلها أنها في عين أنها من أفعاله تعالى إنما تنسب إلى غيره تأدبا كلام متهافت فإن الأدب - كما تقدم تفصيل القول فيه في الجزء السادس من الكتاب - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها فعل ما، وبعبارة أخرى ظرافة الفعل، وإذ كان الحق الصريح في الفعل غير الجميل أنه فعل الله سبحانه ولا يشاركه في فعله غيره بأي وجه فرض كانت نسبته إلى غيره تعالى نسبة باطلة غير حق وكذبا وفرية لا تطابق الواقع فليت شعري أي أدب جميل في إماطة حق صريح وإحياء باطل؟ وأي ظرافة ولطف في الكذب والفرية بإسناد الفعل إلى غير فاعله؟ والله سبحانه أجل من أن يعظم بباطل أو بالستر على بعض أفعاله أو بالكذب والفرية بإسناد بعض ما يفعله إلى غيره، وإذ كان جميلا لا يفعل إلا الجميل فما معنى التأدب بنفي بعض أفعاله عنه؟.

قوله تعالى: ﴿فقد كذبوكم بما تقولون فلا تستطيعون صرفا ولا نصرا﴾ إلى آخر الآية، كلام له تعالى يلقيه إلى المشركين بعد براءة المعبودين منهم، وأما كلام المعبودين فقد تم في قوله: ﴿وكانوا قوما بورا﴾.

والمعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون في حقهم إنهم آلهة من دون الله يصرفون عن عبدتهم السوء وينصرونهم، وإذ كذبوكم ونفوا عن أنفسهم الألوهية والولاية فلا تستطيعون أنتم أيها العبدة أن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بسبب عبادتهم، ولا تستطيعون نصرا لأنفسكم بسببهم.

والترديد بين الصرف والنصر كأنه باعتبار استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم وهو الصرف.

وعدم استقلالهم بأن يكونوا جزء السبب وهو النصر.

وقرأ غير عاصم من طريق حفص ﴿يستطيعون﴾ بالياء المثناة من تحت وهي قراءة حسنة ملائمة لمقتضى السياق، والمعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون إنهم آلهة يصرفون عنكم السوء أو ينصرونكم ويتفرع على ذلك أنهم لا يستطيعون لكم صرفا ولا نصرا.

وقوله: ﴿ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا﴾ المراد بالظلم مطلق الظلم والمعصية وإن كان مورد الآيات السابقة خصوص الظلم الذي هو الشرك، فقوله: ﴿ومن يظلم منكم﴾ إلخ، من قبيل وضع القانون العام موضع الحكم الخاص، ولو كان المراد به الحكم الخاص بهم لكان من حق الكلام أن يقال: ﴿ونذيقكم بما ظلمتم عذابا كثيرا﴾ لأنهم كلهم ظالمون ظلم الشرك.

والنكتة فيه الإشارة إلى أن الحكم الإلهي نافذ جار لا مانع منه ولا معقب له كأنه قيل: وإن كذبكم المعبودون وما استطاعوا صرفا ولا نصرا فالحكم العام الإلهي ﴿من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا﴾ على نفوذه وجريانه لا مانع منه ولا معقب له فأنتم ذائقون العذاب البتة.

قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق﴾ إلى آخر الآية.

أجاب تعالى عن قولهم: ﴿ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق﴾ إلخ، أولا بقوله: ﴿تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك﴾ إلخ، مع ما يلحقه من قوله: ﴿بل كذبوا بالساعة﴾ إلخ، وهذا جواب ثان محصله أن هذا الرسول ليس بأول رسول أرسل إلى الناس بل أرسل الله قبله جما غفيرا من المرسلين وقد كانوا على العادة البشرية الجارية بين الناس يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ولم يخلق لهم جنة يأكلون منها ولا ألقي إليهم كنز ولا أنزل معهم ملك، وهذا الرسول إنما هو كأحدهم ولم يأت بأمر بدع حتى يتوقع منه ما لا يتوقع من غيره.

فالآية في معنى قوله: ﴿قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ الأحقاف: 9، وقريبة المعنى من قوله: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي﴾ الكهف: 110.

فإن قيل: هذا في الحقيقة دفع للاعتراض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة وتوجيهه إلى عامة الرسل فلهم أن يعترضوا على عامة الرسل كما وجهه سابقوهم وقد حكى الله عنهم ذلك قال: قالوا أ بشر يهدوننا: التغابن: 6، وقال: ﴿قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا﴾ إبراهيم: 10، وقال: ﴿ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون﴾ المؤمنون: 33.

قلنا: الجواب مطابق للاعتراض فإن قولهم: ﴿ما لهذا الرسول يأكل﴾ إلخ، يعطي الخصوصية بلا إشكال وأما تعميم الاعتراض لو عمم فيدفعه قوله تعالى: ﴿بل كذبوا بالساعة﴾ إلخ، وقوله قبل ذلك: ﴿قل أنزله الذي يعلم السر﴾ إلخ، على ما تقدم من التقرير.

ومن عجيب القول ما عن بعض المفسرين أن الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه قيل: إن الرسل من قبلك كانوا على الحال التي أنت عليها فلك فيهم أسوة حسنة، وأما كونه جوابا عن تعنتهم فالنظم لا يساعد عليه إذ قد أجيب عنه بقوله: ﴿انظر كيف ضربوا لك الأمثال﴾ هذا وهو خطأ.

وقوله تعالى: ﴿وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون﴾ متمم للجواب السابق بمنزلة التعليل لكون الرسل كسائر الناس في الخواص البشرية من غير أن تتميز حياتهم أو دعوتهم بخواص سماوية تورث القطع بكونهم حاملين للرسالة الإلهية كإنزال ملك عليهم أو إلقاء كنز إليهم أو خلق جنة لهم فكأنه قيل: والسبب في كون الرسل جارين في حياتهم على ما يجري عليه الناس أنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم فيتميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان والمتبعون للأهواء الذين لا يصبرون على مر الحق من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله وسلوك سبيله.

وبما مر يتبين أولا: أن المراد بالصبر هو الصبر بأقسامه وهي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر عند المصائب.

وثانيا: أن قوله: ﴿وجعلنا بعضكم لبعض فتنة﴾ من وضع الحكم العام موضع الخاص، والمطلوب الإشارة إلى جعل الرسل - وحالهم هذه الحال - فتنة لسائر الناس.

وقوله تعالى: ﴿وكان ربك بصيرا﴾ أي عالما بالصواب في الأمور فيضع كل أمر في الموضع المناسب له ويجري بذلك أتم النظام فهدف النظام الإنساني كمال كل فرد بقطعه طريق السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له ويستحقه ولازمه بسط نظام الامتحان بينهم ولازمه ارتفاع التمايز بين الرسل وغيرهم.

وفي الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة، والنكتة فيه نظيرة ما في قوله السابق: ﴿تبارك الذي إن شاء﴾ إلخ،.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية بن خلف والعاصي بن وائل ونبيه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك.

قال: فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، وإن كنت تطلب ملكا ملكناك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة يغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا.

فأنزل الله في قولهم ذلك ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام﴾ إلى قوله وجعلنا بعضكم لبعض فتنة.

﴿أتصبرون وكان ربك بصيرا﴾ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت.

وفيه، أخرج الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدا من بين عيني جهنم.

قالوا: يا رسول الله وهل لجهنم من عين؟ قال: أما سمعتم الله يقول: ﴿إذا رأتهم من مكان بعيد﴾ فهل تراهم إلا بعينين؟: أقول: ورواه أيضا عن رجل من الصحابة، وفي حجة الخبر خفاء.

وفيه، أخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي أسيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله: ﴿وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين﴾ قال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط.