الآيات 1-3

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴿1﴾ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴿2﴾ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴿3﴾

بيان:

غرض السورة بيان أن دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوة حقة عن رسالة من جانب الله تعالى وكتاب نازل من عنده وفيها عناية بالغة بدفع ما أورده الكفار على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا من جانب الله وكون كتابه نازلا من عنده ورجوع إليه كرة بعد كرة.

وقد استتبع ذلك شيئا من الاحتجاج على التوحيد ونفي الشريك وذكر بعض أوصاف يوم القيامة وذكر نبذة من نعوت المؤمنين الجميلة، والكلام فيها جار على سياق الإنذار والتخويف دون التبشير.

والسورة مكية على ما يشهد به سياق عامة آياتها نعم ربما استثني منها ثلاث آيات وهي قوله تعالى: ﴿والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - غفورا رحيما﴾.

ولعل الوجه فيه اشتمالها على تشريع حرمة الزنا لكنك قد عرفت فيما أوردناه من أخبار آية الخمر من سورة المائدة أن الزنا والخمر كانا معروفين بالتحريم في الإسلام من أول ظهور الدعوة الإسلامية.

ومن العجيب قول بعضهم: إن السورة مدنية كلها إلا ثلاث آيات من أولها ﴿تبارك الذي - إلى قوله - نشورا﴾.

قوله تعالى: ﴿تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا﴾ البركة بفتحتين ثبوت الخير في الشيء كثبوت الماء في البركة بالكسر فالسكون مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الأرض واستقر عليها، ومنه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير وفي صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، وهو كالمختص به تعالى لم يطلق على غيره إلا على سبيل الندرة.

والفرقان هو الفرق سمي به القرآن لنزول آياته متفرقة أو لتمييزه الحق من الباطل ويؤيد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه تعالى على التوراة أيضا مع نزولها دفعة، قال الراغب في المفردات:، والفرقان أبلغ من الفرق لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، وتقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، وهو اسم لا مصدر فيما قيل، والفرق يستعمل فيه وفي غيره.

والعالمون جمع عالم ومعناه الخلق قال في الصحاح، العالم الخلق والجمع العوالم، والعالمون أصناف الخلق انتهى.

واللفظة وإن كانت شاملة لجميع الخلق من الجماد والنبات والحيوان والإنسان والجن والملك لكن سياق الآية - وقد جعل فيها الإنذار غاية لتنزيل القرآن - يدل على كون المراد بها المكلفين من الخلق وهم الثقلان: الإنس والجن فيما نعلم.

وبذلك يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم أن الآية تدل على عموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) لجميع ما سوى الله فإن فيه غفلة عن وجه التعبير عن الرسالة بالإنذار ونظير الآية قوله تعالى: ﴿واصطفاك على نساء العالمين﴾ آل عمران: 42 وقوله: ﴿وفضلناهم على العالمين﴾ الجاثية: 16.

والنذير بمعنى المنذر على ما قيل، والإنذار قريب المعنى من التخويف.

فقوله تعالى: ﴿تبارك الذي نزل الفرقان على عبده﴾ أي ثبت وتحقق خير كثير فيمن نزل الفرقان على عبده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثبوت الخير الكثير العائد إلى الخلق فيه تعالى كناية عن فيضانه منه على خلقه حيث نزل على عبده كتابا فارقا بين الحق والباطل منقذا للعالمين من الضلال سائقا لهم إلى الهدى.

والجمع في الآية بين نزول القرآن من عنده تعالى وكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا منه نذيرا للعالمين مع تسمية القرآن فرقانا بين الحق والباطل وتوصيف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكونه عبدا له نذيرا للعالمين المشعر بكونه مملوكا مأمورا لا يملك من نفسه شيئا كل ذلك تمهيد لما سيحكي - عن المشركين من طعنهم في القرآن بأنه افتراء على الله اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعانه على ذلك قوم آخرون، ومن طعنهم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وسائر ما تفوهوا به - وما يدفع به مطاعنهم.

فالمحصل أنه كتاب يفرق بحجته الباهرة بين الحق والباطل فلا يكون إلا حقا إذ الباطل لا يفرق بين الحق والباطل وإنما يشبه الباطل بالحق ليلبس على الناس، وأن الذي جاء به عبد مطيع لله ينذر به العالمين ويدعوهم إلى الحق فلا يكون إلا على الحق ولو كان مبطلا لم يدع إلى الحق بل حاد عنه وانحرف على أن الله سبحانه يشهد في كلامه المعجز بصدق رسالته وأن الذي جاء به من الكتاب منزل من عنده.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالفرقان مطلق الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء وبعبده عامة الأنبياء (عليهم السلام)، ولا يخفى بعده من ظاهر اللفظ.

وقوله تعالى: ﴿ليكون للعالمين نذيرا﴾ اللام للتعليل وتدل على أن غاية تنزيل الفرقان على عبده أن يكون منذرا لجميع العالمين من الإنس والجن، والجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق، ولا يخلو الإتيان بصيغة الجمع المحلى باللام من إشارة إلى أن للجميع إلها واحدا لا كما يذهب إليه الوثنيون حيث يتخذ كل قوم إلها غير ما يتخذه الآخرون.

والاكتفاء بذكر الإنذار دون التبشير لأن الكلام في السورة مسوق سوق الإنذار والتخويف.

قوله تعالى: ﴿الذي له ملك السموات والأرض﴾ إلى آخر الآية.

الملك بكسر الميم وفتحها قيام شيء بشيء بحيث يتصرف فيه كيف شاء سواء كان قيام رقبته به كقيام رقبة المال بمالكه بحيث كان له أنواع التصرف فيه أو قيامه به باستيلائه عليه بالتصرف بالأمر والنهي وأنواع الحكم كاستيلاء الملك على الناس من رعيته وما في أيديهم، ويطلق على القسم الثاني الملك بضم الميم.

فالملك بكسر الميم أعم من الملك بضمها كما قال الراغب الملك بفتح الميم وكسر اللام - هو المتصرف بالأمر والنهي في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين، ولهذا يقال: ملك الناس ولا يقال: ملك الأشياء - إلى أن قال - فالملك بالضم - ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، والملك - بالكسر - كالجنس للملك فكل ملك - بالضم - ملك بالكسر - وليس كل ملك - بالكسر - ملكا - بالضم - انتهى.

وربما يخص الملك بالكسر بما يتعلق بالرقبة، والملك بالضم بغيره.

فقوله تعالى: ﴿الذي له ملك السماوات والأرض﴾ واللام للاختصاص - يفيد أن السماوات والأرض مملوكة له غير مستقلة بنفسها في جهة من جهاتها ولا مستغنية عن التصرف فيها بالحكم وأن الحكم فيها وإدارة رحاها يختص به تعالى فهو المليك المتصرف بالحكم فيها على الإطلاق.

وبذلك يظهر ترتب قوله: ﴿ولم يتخذ ولدا﴾ على ما تقدمه فإن الملك على الإطلاق لا يدع حاجة إلى اتخاذ الولد إذ اتخاذ الولد لأحد أمرين إما لكون الشخص لا يقوى على إدارة رحى جميع أموره ولا يملك تدبيرها جميعا فيتخذ الولد ليستعين به على بعض حوائجه والله سبحانه يملك كل شيء ويقوى على ما أراد، وإما لكون الشخص محدود البقاء لا يملك ما يملك إلا في أمد محدود فيتخذ الولد ليخلفه فيقوم على أموره بعده والله سبحانه يملك كل شيء سرمدا ولا يعتريه فناء وزوال فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد البتة وفيه رد على المشركين والنصارى.

وكذا قوله تعالى بعده: ﴿ولم يكن له شريك في الملك﴾ فإن الحاجة إلى الشريك إنما هي فيما إذا لم يستوعب الملك الأمور كلها وملكه تعالى عام لجميع الأشياء محيط بجميع جهاتها لا يشذ منه شاذ، وفيه رد على المشركين.

وقوله تعالى: ﴿وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾ بيان لرجوع تدبير عامة الأمور إليه تعالى وحده بالخلق والتقدير فهو رب العالمين لا رب سواه.

بيان ذلك أن الخلقة لما كانت بتوسيط الأسباب المتقدمة على الشيء والمقارنة له استلزم ذلك ارتباط وجودات الأشياء بعضها ببعض فيتقدر وجود كل شيء وآثار وجوده حسب ما تقدره العلل والعوامل المتقدمة عليه والمقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل والعوامل المتقدمة والمقارنة وإذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبر للأمر غيره فلا رب يملك الأشياء ويدبر أمرها غيره.

فكونه تعالى له ملك السماوات والأرض حاكما متصرفا فيها على الإطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، وقيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرعا على الخلقة، وقيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك والتدبير فهو الرب عز شأنه.

وملكه تعالى للسماوات والأرض وإن استلزم استناد الخلق والتقدير إليه لكن لما كان الوثنيون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أن ملكه للجميع وربوبيته للكل لا ينافي ملك آلهتهم وربوبيتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكل من الآلهة مليك في صقع ألوهيته رب لمربوبيته والله سبحانه ملك الملوك ورب الأرباب وإله الآلهة.

فلذلك لم يكف قوله: ﴿الذي له ملك السماوات والأرض﴾ لإثبات اختصاص الربوبية به تعالى قبالهم بل احتج إلى الإتيان بقوله: ﴿وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾.

فكأن قائلا يقول: هب أن ملكه للسماوات والأرض يغنيه عن اتخاذ الولد والشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الأشياء لكن لم لا يجوز أن يتخذ بعض خلقه شريكا لنفسه بتفويض بعض أمور العالم إليه مع كونه مالكا له ولما فوضه إليه وهذا هو الذي كانت يراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحج لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.

فأجيب عنه بأن الخلق له سبحانه والتقدير يلازمه وإذا اجتمعا لزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كل شيء فليس مع ملكه ملك ولا مع ربوبيته ربوبية.

فقد تحصل أن قوله: ﴿الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك﴾ مسوق لتوحيد الربوبية ونفي الولد والشريك من طريق إثبات الملك المطلق، وأن قوله: ﴿وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾ تقرير وبيان لمعنى عموم الملك وأنه ملك متقوم بالخلق والتقدير موجب لتصديه تعالى لكل حكم وتدبير من غير أن يفوض شيئا من الأمر إلى أحد من الخلق.

وفي الآية والتي قبلها لهم أقوال أخر أغمضنا عن إيرادها لخلوها عن الجدوى.

قوله تعالى: ﴿واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون﴾ إلخ، لما نعت نفسه بأنه خالق كل شيء ومقدره وأن له ملك السماوات والأرض وهكذا كان يجب أن يكون الإله المعبود، أشار إلى ضلالة المشركين حيث عبدوا أصناما ليست بخالقة شيئا بل هي مخلوقة مصنوعة لهم ولا مالكة شيئا لأنفسهم ولا لغيرهم.

وضمير ﴿واتخذوا﴾ للمشركين على ما يفيده السياق وإن لم يسبق لهم ذكر ومثل هذا التعبير يفيد التحقير والاستهانة.

وقوله: ﴿من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون﴾ يريد به أصنامهم التي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، وتوصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله: ﴿لا يخلقون شيئا وهم يخلقون﴾ إشارة إلى أن ليس لها من الألوهية إلا اسم سموها به من غير أن تتحقق من حقيقتها بشيء كما قال تعالى: ﴿إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم﴾ النجم: 23.

ووضع النكرة في قوله: ﴿لا يخلقون شيئا﴾ في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه وهو خالق كل شيء وتعلقوا بأصنام لا يخلقون ولا شيئا من الأشياء بل هم أردأ حالا من ذلك حيث إنهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لأوهامهم، ونظير الكلام جار في قوله: ﴿ضرا ولا نفعا﴾ وقوله: ﴿موتا ولا حياة ولا نشورا﴾.

وقوله: ﴿ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا﴾ نفي للملك عنهم وهو ضروري في الإله إذ كان عبادهم إنما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضر ويجلبوا إليهم النفع وإذ كانوا لا يملكون ضرا ولا نفعا حتى لأنفسهم لم تكن عبادتهم إلا خبلا وضلالا.

وبذلك يظهر أن في وقوع ﴿لأنفسهم﴾ في السياق زيادة تقريع والكلام في معنى الترقي أي لا يملكون لأنفسهم ضرا حتى يدفعوه ولا نفعا حتى يجلبوه فكيف لغيرهم؟ وقد قدم الضر على النفع لكون دفع الضرر أهم من جلب النفع.

وقوله: ﴿ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا﴾ أي لا يملكون موتا حتى يدفعوه عن عبادهم أو عمن شاءوا ولا حياة حتى يسلبوها عمن شاءوا أو يفيضوها على من شاءوا ولا نشورا حتى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، وملك هذه الأمور من لوازم الألوهية.

بحث روائي:

في الكافي، بإسناده عن ابن سنان عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن والفرقان هما شيئان أو شيء واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به وفي الاختصاص، للمفيد، في حديث عبد الله بن سلام لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فأخبرني هل أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم، قال: وأي كتاب هو، قال: الفرقان: قال ولم سماه ربك فرقانا؟ قال: لأنه متفرق الآيات والسور أنزل في غير الألواح وغيره من الصحف والتوراة والإنجيل والزبور أنزلت كلها جملة في الألواح والأوراق.

قال: صدقت يا محمد.

أقول: كل من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدمين.