الآيات 1-41

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1﴾ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2﴾ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3﴾ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4﴾ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴿5﴾ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ﴿6﴾ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ﴿7﴾ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴿8﴾ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴿9﴾ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ﴿10﴾ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ﴿11﴾ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴿12﴾ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13﴾ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ﴿14﴾ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴿15﴾إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿16﴾ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿17﴾ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ﴿18﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴿19﴾ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى ﴿20﴾ فَكَذَّبَ وَعَصَى ﴿21﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴿22﴾ فَحَشَرَ فَنَادَى ﴿23﴾ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴿24﴾ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ﴿25﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴿26﴾ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ﴿27﴾ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28﴾ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29﴾ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴿30﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿32﴾ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴿33﴾ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ﴿34﴾ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ﴿35﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ﴿36﴾ فَأَمَّا مَن طَغَى ﴿37﴾ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿38﴾ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿39﴾ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40﴾ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿41﴾

بيان:

في السورة أخبار مؤكد بوقوع البعث والقيامة، واحتجاج عليه من طريق التدبير الربوبي المنتج أن الناس سينقسمون يومئذ طائفتين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم وتختتم السورة بالإشارة إلى سؤالهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن وقت قيام الساعة والجواب عنه.

والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا﴾ اختلف المفسرون في تفسير هذه الآيات الخمس اختلافا عجيبا مع اتفاقهم على أنها إقسام، وقول أكثرهم بأن جواب القسم محذوف، والتقدير أقسم بكذا وكذا لتبعثن.

فقوله: ﴿والنازعات غرقا﴾ قيل: المراد بها ملائكة الموت تنزع الأرواح من الأجساد، و﴿غرقا﴾ مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا وتشديدا في النزع.

وقيل: المراد بها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم بشدة، وقيل: هو الموت ينزع الأرواح من الأبدان نزعا بالغا.

وقيل: المراد بها النجوم تنزع من أفق لتغيب في أفق أي تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها، وقيل: المراد بها القسي تنزع بالسهم أي تمد بجذب وترها إغراقا في المد فالإقسام بقسي المجاهدين في سبيل الله أو بالمجاهدين أنفسهم، وقيل: المراد بها الوحش تنزع إلى الكلإ.

وقوله: ﴿والناشطات نشطا﴾ النشط الجذب والخروج والإخراج برفق وسهولة وحل العقدة، قيل: المراد بها الملائكة الذين يخرجون الأرواح من الأجساد، وقيل المراد بها خصوص الملائكة يخرجون أرواح المؤمنين من أجسادهم برفق وسهولة، كما أن المراد بالنازعات غرقا الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم.

وقيل: هم الملائكة الذين ينشطون أرواح الكفار من أجسادهم، وقيل: المراد بها أرواح المؤمنين أنفسهم، وقيل: هي النجوم تنشط وتذهب من أفق إلى أفق، وقيل: هي السهام تنشط من قسيها في الغزوات، وقيل: هو الموت ينشط ويخرج الأرواح من الأجساد، وقيل: هي الوحش تنشط من قطر إلى قطر.

وقوله: ﴿والسابحات سبحا﴾ قيل: المراد بها الملائكة تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار، والسبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا أسرع في جريه، وقيل: المراد بها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها من الأبدان سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح كالسابح بالشيء في الماء يرمي، وقيل: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، وقيل: هي النجوم تسبح في فلكها كما قال تعالى: ﴿وكل في فلك يسبحون﴾.

وقيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها وتسرع، وقيل: هي المنايا تسبح في نفوس الحيوان، وقيل: هي السفن تسبح في المياه، وقيل: السحاب، وقيل: دواب البحر.

وقوله: ﴿فالسابقات سبقا﴾ قيل المراد بها مطلق الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير والإيمان والعمل الصالح، وقيل ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار، وقيل الملائكة القابضون لروح المؤمن تسبق بها إلى الجنة، وقيل، ملائكة الوحي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، وقيل أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة التي يقبضونها شوقا إلى لقاء الله سبحانه، وقيل هي النجوم تسبق بعضها بعضا في السير، وقيل هي خيل الغزاة تسبق بعضها بعضا في الحرب، وقيل هي المنايا تسبق الآمال.

وقوله: ﴿فالمدبرات أمرا﴾ قيل: المراد بها مطلق الملائكة المدبرين للأمور، كذا فسر الأكثرون حتى ادعى بعضهم اتفاق المفسرين عليه، وقيل المراد بها الملائكة الأربعة المدبرون لأمور الدنيا: جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، فجبرائيل يدبر أمر الرياح والجنود والوحي، وميكائيل يدبر أمر القطر والنبات، وعزرائيل موكل بقبض الأرواح، وإسرافيل يتنزل بالأمر عليهم وهو صاحب الصور، وقيل: إنها الأفلاك يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا.

وهناك قول بأن الإقسام في الآيات بمضاف محذوف والتقدير ورب النازعات نزعا إلخ.

وأنت خبير بأن سياق الآيات الخمس سياق واحد متصل متشابه الأجزاء لا يلائم كثيرا من هذه الأقوال القاضية باختلاف المعاني المقسم بها ككون المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفار، وبالناشطات الوحش، وبالسابحات السفن، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال وبالمدبرات الأفلاك.

مضافا إلى أن كثيرا منها لا دليل عليها من جهة السياق إلا مجرد صلاحية اللفظ بحسب اللغة للاستعمال فيه أعم من الحقيقة والمجاز.

على أن كثيرا منها لا تناسب سياق آيات السورة التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه على ما تقدم في سورة المرسلات من حديث المناسبة بين ما في كلامه تعالى من الإقسام وجوابه.

والذي يمكن أن يقال - والله أعلم - أن ما في هذه الآيات من الأوصاف المقسم بها يقبل الانطباق على صفات الملائكة في امتثالها للأوامر الصادرة عليهم من ساحة العزة المتعلقة بتدبير أمور هذا العالم المشهود ثم قيامهم بالتدبير بإذن الله.

والآيات شديدة الشبه سياقا بآيات مفتتح سورة الصافات: ﴿والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا﴾ وآيات مفتتح سورة المرسلات: ﴿والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا﴾ وهي تصف الملائكة في امتثالهم لأمر الله غير أنها تصف ملائكة الوحي، والآيات في مفتتح هذه السورة تصف مطلق الملائكة في تدبيرهم أمر العالم بإذن الله.

ثم إن أظهر الصفات المذكورة في هذه الآيات الخمس في الانطباق على الملائكة قوله: ﴿فالمدبرات أمرا﴾ وقد أطلق التدبير ولم يقيد بشيء دون شيء فالمراد به التدبير العالمي بإطلاقه، وقوله ﴿أمرا﴾ تمييز أو مفعول به للمدبرات ومطلق التدبير شأن مطلق الملائكة فالمراد بالمدبرات مطلق الملائكة.

وإذ كان قوله: ﴿فالمدبرات أمرا﴾ مفتتحا بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق، وكذا قوله: ﴿فالسابقات سبقا﴾ مقرونا بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح دل ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث: ﴿والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا﴾ فمدلولها أنهم يدبرون الأمر بعد ما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره.

فالآيات الثلاث في معنى قوله تعالى: ﴿له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله﴾ الرعد: 11 على ما تقدم من توضيح معناه فالملائكة ينزلون على الأشياء وقد تجمعت عليها الأسباب وتنازعت فيها وجودا وعدما وبقاء وزوالا وفي مختلف أحوالها فما قضاه الله فيها من الأمر وأبرم قضاءه أسرع إليه الملك المأمور به - بما عين له من المقام - وسبق غيره وتمم السبب الذي يقتضيه فكان ما أراده الله فافهم ذلك.

وإذا كان المراد بالآيات الثلاث الإشارة إلى إسراع الملائكة في النزول على ما أمروا به من أمر وسبقهم إليه وتدبيره تعين حمل قوله: ﴿والنازعات غرقا والناشطات نشطا﴾ على انتزاعهم وخروجهم من موقف الخطاب إلى ما أمروا به فنزعهم غرقا شروعهم في النزول نحو المطلوب بشدة وجد، ونشطهم خروجهم من موقفهم نحوه كما أن سبحهم إسراعهم إليه بعد الخروج ويتعقب ذلك سبقهم إليه وتدبير الأمر بإذن الله.

فالآيات الخمس أقسام بما يتلبس به الملائكة من الصفات عند ما يؤمرون بتدبير أمر من أمور هذا العالم المشهود من حين يأخذون في النزول إليه إلى تمام التدبير.

وفيها إشارة إلى نظام التدبير الملكوتي عند حدوث الحوادث كما أن الآيات التالية أعني قوله: ﴿هل أتاك﴾ إلخ إشارة إلى التدبير الربوبي الظاهر في هذا العالم.

وفي التدبير الملكوتي حجة على البعث والجزاء كما أن في التدبير الدنيوي المشهود حجة عليه على ما سيوافيك إن شاء الله بيانه.

هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الكريمة ويؤيده بعض التأييد ما سيأتي من الأخبار في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

كلام في أن الملائكة وسائط في التدبير الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءا وعودا على ما يعطيه القرآن الكريم بمعنى أنهم أسباب للحوادث فوق الأسباب المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده.

أما في العود أعني حال ظهور آيات الموت وقبض الروح وإجراء السؤال وثواب القبر وعذابه وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك والحشر وإعطاء الكتاب ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنة والنار فوساطتهم فيها غني عن البيان، والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، والأخبار المأثورة فيها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فوق حد الإحصاء.

وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار.

وأما وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله: ﴿والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا﴾ بما تقدم من البيان.

وكذا قوله تعالى: ﴿جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع﴾ فاطر: 1 الظاهر بإطلاقه - على ما تقدم من تفسيره - في أنهم خلقوا وشأنهم أن يتوسطوا بينه تعالى وبين خلقه ويرسلوا لإنفاذ أمره الذي يستفاد من قوله تعالى في صفتهم: ﴿بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ الأنبياء: 27، وقوله: ﴿يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ النحل: 50 وفي جعل الجناح لهم إشارة ذلك.

فلا شغل للملائكة إلا التوسط بينه تعالى وبين خلقه بإنفاذ أمره فيهم وليس ذلك على سبيل الاتفاق بأن يجري الله سبحانه أمرا بأيديهم ثم يجري مثله لا بتوسيطهم فلا اختلاف ولا تخلف في سنته تعالى: ﴿إن ربي على صراط مستقيم﴾ هود: 56، وقال ﴿فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾ فاطر: 43.

ومن الوساطة كون بعضهم فوق بعض مقاما وأمر العالي منهم السافل بشيء من التدبير فإنه في الحقيقة توسط من المتبوع بينه تعالى وبين تابعه في إيصال أمر الله تعالى كتوسط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى حاكيا عن الملائكة: ﴿وما منا إلا له مقام معلوم﴾ الصافات: 164، وقال: ﴿مطاع ثم أمين﴾ التكوير: 21، وقال: ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق﴾ سبأ: 23.

ولا ينافي هذا الذي ذكر من توسطهم بينه تعالى وبين الحوادث أعني كونهم أسبابا تستند إليها الحوادث استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية فإن السببية طولية لا عرضية أي إن السبب القريب سبب للحادث والسبب البعيد سبب للسبب.

كما لا ينافي توسطهم واستناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى وكونه هو السبب الوحيد لها جميعا على ما يقتضيه توحيد الربوبية فإن السببية طولية كما سمعت لا عرضية ولا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة وقد صدق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدق استنادها إلى الملائكة.

وليس لشيء من الأسباب استقلال قباله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة: لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتبة القريبة والبعيدة وانتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده وبالقلم فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد التي توسلت إلى الكتابة بالقلم، وإلى الإنسان الذي توسل إليها باليد وبالقلم، والسبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته استناد الكتابة بوجه إلى اليد وإلى القلم.

ولا منافاة أيضا بين ما تقدم أن شأن الملائكة هو التوسط في التدبير وبين ما يظهر من كلامه تعالى أن بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى وتسبيحه والسجود له كقوله: ﴿ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ الأنبياء: 20، وقوله: ﴿إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون﴾ الأعراف: 206.

وذلك لجواز أن تكون عبادتهم وسجودهم وتسبيحهم عين عملهم في التدبير وامتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزة بالتوسط كما ربما يومىء إليه قوله تعالى: ﴿ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون﴾ النحل: 49.

قوله تعالى: ﴿يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة﴾ فسرت الراجفة بالصيحة العظيمة التي فيها تردد واضطراب والرادفة بالمتأخرة التابعة، وعليه تنطبق الآيتان على نفختي الصور التي يدل عليهما قوله تعالى: ﴿ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون﴾ الزمر: 68.

وقيل: الراجفة بمعنى المحركة تحريكا شديدا - فإن الرجف يستعمل لازما بمعنى التحرك الشديد، ومتعديا بمعنى التحريك الشديد - والمراد بها أيضا النفخة الأولى المحركة للأرض والجبال، وبالرادفة النفخة الثانية المتأخرة عن الأولى.

وقيل: المراد بالراجفة الأرض وبالرادفة السماوات والكواكب التي ترجف وتضطرب وتنشق، وتتلاشى والوجهان لا يخلوان من بعد ولا سيما الأخير.

والأنسب بالسياق على أي حال كون قوله: ﴿يوم ترجف﴾ إلخ ظرفا لجواب القسم المحذوف للدلالة على فخامته وبلوغه الغاية في الشدة وهو لتبعثن، وقيل: إن ﴿يوم﴾ منصوب على معنى قلوب يومئذ واجفة يوم ترجف الراجفة، ولا يخلو من بعد.

قوله تعالى: ﴿قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة﴾ تنكير ﴿قلوب﴾ للتنويع وهو مبتدأ خبره ﴿واجفة﴾ والوجيف الاضطراب، و﴿يومئذ﴾ ظرف متعلق بواجفة والجملة استئناف مبين لصفة اليوم.

وقوله: ﴿أبصارها خاشعة﴾ ضمير ﴿أبصارها﴾ للقلوب ونسبة الأبصار وإضافتها إلى القلوب لمكان أن المراد بالقلوب في أمثال هذه المواضع التي تضاف إليها الصفات الإدراكية كالعلم والخوف والرجاء وما يشبهها هي النفوس، وقد تقدمت الإشارة إليها.

ونسبة الخشوع إلى الأبصار وهو من أحوال القلب إنما هي لظهور أثره الدال عليه في الأبصار أقوى من سائر الأعضاء.

قوله تعالى: ﴿يقولون أإنا لمردودون في الحافرة﴾ إخبار وحكاية لقولهم في الدنيا استبعادا منهم لوقوع البعث والجزاء وإشارة إلى أن هؤلاء الذين لقلوبهم وجيف ولأبصارهم خشوع يوم القيامة هم الذين ينكرون البعث وهم في الدنيا ويقولون كذا وكذا.

والحافرة على ما قيل - أول الشيء ومبتداه، والاستفهام للإنكار استبعادا، والمعنى يقول: هؤلاء أإنا لمردودون بعد الموت إلى حالتنا الأولى وهي الحياة.

وقيل: الحافرة بمعنى المحفورة وهي أرض القبر، والمعنى أنرد من قبورنا بعد موتنا أحياء، وهو كما ترى.

وقيل: الآية تخبر عن اعترافهم بالبعث يوم القيامة، والكلام كلامهم بعد الإحياء والاستفهام للاستغراب كأنهم لما بعثوا وشاهدوا ما شاهدوا يستغربون ما شاهدوا فيستفهمون عن الرد إلى الحياة بعد الموت.

وهو معنى حسن لو لم يخالف ظاهر السياق.

قوله تعالى: ﴿ءإذا كنا عظاما نخرة﴾ تكرار للاستفهام لتأكيد الاستبعاد فلو كانت الحياة بعد الموت مستبعدة فهي مع فرض نخر العظام وتفتت الأجزاء أشد استبعادا، والنخر بفتحتين البلى والتفتت يقال: نخر العظم ينخر نخرا فهو ناخر ونخر.

قوله تعالى: ﴿قالوا تلك إذا كرة خاسرة﴾ الإشارة بتلك إلى معنى الرجعة المفهوم من قوله ﴿أإنا لمردودون في الحافرة﴾ والكرة الرجعة والعطفة، وعد الكرة خاسرة إما مجاز والخاسر بالحقيقة صاحبها، أو الخاسرة بمعنى ذات خسران، والمعنى قالوا: تلك الرجعة - وهي الرجعة إلى الحياة بعد الموت - رجعة متلبسة بالخسران.

وهذا قول منهم أوردوه استهزاء - على أن يكون قولهم: ﴿أإنا لمردودون﴾ إلخ مما قالوه في الدنيا - ولذا غير السياق وقال ﴿قالوا تلك إذا﴾ إلخ بعد قوله ﴿يقولون أإنا لمردودون﴾ إلخ وأما على تقدير أن يكون مما سيقولونه عند البعث فهو قول منهم على سبيل التشؤم والتحسر.

قوله تعالى: ﴿فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة﴾ ضمير ﴿هي﴾ للكرة وقيل: للرادفة والمراد بها النفخة الثانية، والزجر طرد بصوت وصياح عبر عن النفخة الثانية بالزجرة لما فيها من نقلهم من نشأة الموت إلى نشاة الحياة ومن بطن الأرض إلى ظهرها، و﴿إذا﴾ فجائية، والساهرة الأرض المستوية أو الأرض الخالية من النبات.

والآيتان في محل الجواب عما يدل عليه قولهم ﴿أإنا لمردودون﴾ ﴿إلخ﴾ من استبعاد البعث واستصعابه والمعنى لا يصعب علينا أحياؤهم بعد الموت وكرتهم فإنما كرتهم - أو الرادفة التي هي النفخة الثانية - زجرة واحدة فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها.

فالآيتان في معنى قوله تعالى: ﴿وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب﴾ النحل: 77.

قوله تعالى: ﴿هل أتاك حديث موسى﴾ الآية إلى تمام اثنتي عشرة آية إشارة إلى إجمال قصة موسى ورسالته إلى فرعون ورده دعوته إلى أن أخذه الله نكال الآخرة والأولى.

وفيها عظة وإنذار للمشركين المنكرين للبعث وقد توسلوا به إلى رد الدعوة الدينية إذ لا معنى لتشريع الدين لو لا المعاد، وفيها مع ذلك تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تكذيب قومه، وتهديد لهم كما يؤيده توجيه الخطاب في قوله: ﴿هل أتاك﴾.

وفي القصة مع ذلك كله حجة على وقوع البعث والجزاء فإن هلاك فرعون وجنوده تلك الهلكة الهائلة دليل على حقية رسالة موسى من جانب الله إلى الناس ولا تتم رسالته من جانبه تعالى إلا بربوبية منه تعالى للناس على خلاف ما يزعمه المشركون أن لا ربوبية له تعالى بالنسبة إلى الناس وأن هناك أربابا دونه وأنه سبحانه رب الأرباب لا غير.

ففي قوله ﴿هل أتاك حديث موسى﴾ استفهام بداعي ترغيب السامع في استماع الحديث ليتسلى به هو ويكون للمنكرين إنذارا بما فيه من ذكر العذاب وإتماما للحجة كما تقدم.

ولا ينافي هذا النوع من الاستفهام تقدم علم السامع بالحديث لأن الغرض توجيه نظر السامع إلى الحديث دون السؤال والاستعلام حقيقة فمن الممكن أن تكون الآيات أول ما يقصه الله من قصة موسى أو تكون مسبوقة بذكر قصته كما في سورة المزمل إجمالا - وهي أقدم نزولا من سورة النازعات - وفي سورة الأعراف وطه وغيرهما تفصيلا.

قوله تعالى: ﴿إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى﴾ ظرف للحديث وهو أول ما أوحى الله إليه فقلده الرسالة، وطوى اسم للوادي المقدس.

قوله تعالى: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ تفسير للنداء، وقيل: الكلام على تقدير القول أي قائلا اذهب أو بتقدير أن المفسرة أي أن اذهب وفي الوجهين أن التقدير مستغنى عنه، وقوله: ﴿إنه طغى﴾ تعليل للأمر.

قوله تعالى: ﴿فقل هل لك إلى أن تزكى﴾ متعلق ﴿إلى﴾ محذوف والتقدير هل لك ميل إلى أن تتزكى أو ما في معناه، والمراد بالتزكي التطهر من قذارة الطغيان.

قوله تعالى: ﴿وأهديك إلى ربك فتخشى﴾ عطف على قوله: ﴿تزكى﴾ والمراد بهدايته إياه إلى ربه - كما قيل - تعريفه له وإرشاده إلى معرفته تعالى وتترتب عليه الخشية منه الرادعة عن الطغيان وتعدي طور العبودية قال تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فاطر: 28.

والمراد بالتزكي إن كان هو التطهر عن الطغيان بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى كانت الخشية مترتبة عليه والمراد بها الخشية الملازمة للإيمان الداعية إلى الطاعة والرادعة عن المعصية، وإن كان هو التطهر بالطاعة وتجنب المعصية كان قوله: ﴿وأهديك إلى ربك فتخشى﴾ مفسرا لما قبله والعطف عطف تفسير.

قوله تعالى: ﴿فأراه الآية الكبرى﴾ الفاء فصيحة وفي الكلام حذف وتقدير والأصل فأتاه ودعاه فأراه.

والمراد بالآية الكبرى على ما يظهر من تفصيل القصة آية العصا، وقيل: المراد بها مجموع معجزاته التي أراها فرعون وملأه وهو بعيد.

قوله تعالى: ﴿فكذب وعصى﴾ أي كذب موسى فجحد رسالته وسماه ساحرا وعصاه فيما أمره به أو عصى الله.

قوله تعالى: ﴿ثم أدبر يسعى﴾ الإدبار التولي والسعي هو الجد والاجتهاد أي ثم تولى فرعون يجد ويجتهد في إبطال أمر موسى ومعارضته.

قوله تعالى: ﴿فحشر فنادى﴾ الحشر جمع الناس بإزعاج والمراد به جمعه الناس من أهل مملكته كما يدل عليه تفريع قوله: ﴿فنادى فقال أنا ربكم الأعلى﴾ عليه فإن كان يدعي الربوبية لأهل مملكته جميعا لا لطائفة خاصة منهم.

وقيل: المراد بالحشر جمع السحرة لقوله تعالى: ﴿فأرسل فرعون في المدائن حاشرين﴾ الشعراء: 53، وقوله: ﴿فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى﴾ طه: 60 وفيه أنه لا دليل على كون المراد بالحشر في هذه الآية هو عين المراد بالحشر والجمع في تينك الآيتين.

قوله تعالى: ﴿فقال أنا ربكم الأعلى﴾ دعوى الربوبية وظاهره أنه يدعي أنه أعلى في الربوبية من سائر الأرباب التي كان يقول بها قومه الوثنيون فيفضل نفسه على سائر آلهتهم.

ولعل مراده بهذا التفضيل مع كونه وثنيا يعبد الآلهة كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن ملئه يخاطبونه: ﴿أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك﴾ الأعراف: 127 إنه أقرب الآلهة منهم تجري بيده أرزاقهم وتصلح بأمره شئون حياتهم ويحفظ بمشيته شرفهم وسؤددهم، وسائر الآلهة ليسوا على هذه الصفة.

وقيل: مراده بما قال تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم ومحصله دعوى الملك وأنه فوق سائر أولياء أمور المملكة من حكام وعمال فيكون في معنى قوله فيما حكاه الله عنه إذ قال: ﴿ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أ ليس لي ملك مصر﴾ الزخرف: 51.

وهو خلاف ظاهر الكلام وفيما قال قوله لملئه: ﴿يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري﴾ القصص: 38، وقوله لموسى: ﴿لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين﴾ الشعراء: 29.

قوله تعالى: ﴿فأخذه الله نكال الآخرة والأولى﴾ الأخذ كناية عن التعذيب، والنكال التعذيب الذي يردع من رآه أو سمعه عن تعاطي مثله، وعذاب الآخرة نكال حيث إن من شأنه أن يردع من سمعه عن تعاطي ما يؤدي إليه من المعصية كما أن عذاب الاستئصال في الدنيا نكال.

والمعنى: فأخذ الله فرعون أي عذبه ونكله نكال الآخرة والأولى وأما عذاب الدنيا فإغراقه وإغراق جنوده، وأما عذاب الآخرة فعذابه بعد الموت، فالمراد بالأولى والآخرة الدنيا والآخرة.

وقيل: المراد بالآخرة كلمته الآخرة، ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ وبالأولى كلمته الأولى قالها قبل ذلك ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ فأخذه الله بهاتين الكلمتين ونكله نكالهما، ولا يخلو هذا المعنى من خفاء.

وقيل: المراد بالأولى تكذيبه ومعصيته المذكوران في أول القصة وبالأخرى كلمة أنا ربكم الأعلى - المذكورة في آخرها، وهو كسابقه.

وقيل: الأولى أول معاصيه والأخرى آخرها والمعنى أخذه الله نكال مجموع معاصيه ولا يخلو أيضا من خفاء.

قوله تعالى: ﴿إن في ذلك لعبرة لمن يخشى﴾ الإشارة إلى حديث موسى، والظاهر أن مفعول ﴿يخشى﴾ منسي معرض عنه، والمعنى أن في هذا الحديث - حديث موسى - لعبرة لمن كان له خشية وكان من غريزته أن يخشى الشقاء والعذاب والإنسان من غريزته ذلك ففيه عبرة لمن كان إنسانا مستقيم الفطرة.

وقيل: المفعول محذوف والتقدير لمن يخشى الله والوجه السابق أبلغ.

قوله تعالى: ﴿ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها - إلى قوله - ولأنعامكم﴾ خطاب توبيخي للمشركين المنكرين للبعث المستهزءين به على سبيل العتاب ويتضمن الجواب عن استبعادهم البعث بقولهم: ﴿ءإنا لمردودون في الحافرة ء إذا كنا عظاما نخرة﴾ بأن الله خلق ما هو أشد منكم خلقا فهو على خلقكم وإنشائكم النشأة الأخرى لقدير.

ويتضمن أيضا الإشارة إلى الحجة على وقوع البعث حيث يذكر التدبير العام العالمي وارتباطه بالعالم الإنساني ولازمه ربوبيته تعالى، ولازم الربوبية صحة النبوة وجعل التكاليف، ولازم ذلك الجزاء الذي موطنه البعث والحشر، ولذا فرع عليه حديث البعث بقوله: ﴿فإذا جاءت الطامة الكبرى﴾ إلخ.

فقوله: ﴿ءأنتم أشد خلقا أم السماء﴾ استفهام توبيخي بداعي رفع استبعادهم البعث بعد الموت، والإشارة إلى تفصيل خلق السماء بقوله: ﴿بناها﴾ إلخ دليل أن المراد به تقرير كون السماء أشد خلقا.

وقوله: ﴿بناها﴾ استئناف وبيان تفصيلي لخلق السماء.

وقوله: ﴿رفع سمكها فسواها﴾ أي رفع سقفها وما ارتفع منها، وتسويتها ترتيب أجزائها وتركيبها بوضع كل جزء في موضعه الذي تقتضيه الحكمة كما في قوله: ﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي﴾ الحجر: 29.

وقوله: ﴿وأغطش ليلها وأخرج ضحاها﴾ أي أظلم ليلها وأبرز نهارها، والأصل في معنى الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار أريد به مطلق النهار بقرينة المقابلة ونسبة الليل والضحى إلى السماء لأن السبب الأصلي لها سماوي وهو ظهور الأجرام المظلمة بشروق الأنوار السماوية كنور الشمس وغيره وخفاؤها بالاستتار ولا يختص الليل والنهار بالأرض التي نحن عليها بل يعمان سائر الأجرام المظلمة المستنيرة.

وقوله: ﴿والأرض بعد ذلك دحاها﴾ أي بسطها ومدها بعد ما بنى السماء ورفع سمكها وسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها.

وقيل: المعنى والأرض مع ذلك دحاها كما في قوله: ﴿عتل بعد ذلك زنيم﴾ وقد تقدم كلام فيما يظهر من كلامه تعالى في خلق السماء والأرض في تفسير سورة الم السجدة وذكر بعضهم أن الدحو بمعنى الدحرجة.

وقوله: ﴿أخرج منها ماءها ومرعاها﴾ قيل: المرعى يطلق على الرعي بالكسر فالسكون وهو الكلأ كما يجيء مصدرا ميميا، واسم زمان ومكان، والمراد بإخراج مائها منها تفجير العيون وإجراء الأنهار عليها، وإخراج المرعى إنبات النبات عليها مما يتغذى به الحيوان والإنسان فالظاهر أن المراد بالمرعى مطلق النبات الذي يتغذى به الحيوان والإنسان كما يشعر به قوله: ﴿متاعا لكم ولأنعامكم﴾ لا ما يختص بالحيوان كما هو الغالب في استعماله.

وقوله: ﴿والجبال أرساها﴾ أي أثبتها على الأرض لئلا تميد بكم وادخر فيها المياه والمعادن كما ينبىء عنه سائر كلامه تعالى.

وقوله: ﴿متاعا لكم ولأنعامكم﴾ أي خلق ما ذكر من السماء والأرض ودبر ما دبر من أمرهما ليكون متاعا لكم ولأنعامكم التي سخرها لكم تتمتعون به في حياتكم فهذا الخلق والتدبير الذي فيه تمتيعكم يوجب عليكم معرفة ربكم وخوف مقامه وشكر نعمته فهناك يوم تجزون فيه بما عملتم في ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا كما أن هذا الخلق والتدبير أشد من خلقكم فليس لكم أن تستبعدوا خلقكم ثانيا وتستصعبوه عليه تعالى.

قوله تعالى: ﴿فإذا جاءت الطامة الكبرى﴾ في المجمع،: والطامة العالية الغالبة يقال: هذا أطم من هذا أي أعلى منه، وطم الطائر الشجرة أي علاها وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها طامة.

انتهى، فالمراد بالطامة الكبرى القيامة لأنها داهية تعلو وتغلب كل داهية هائلة، وهذا معنى اتصافها بالكبرى وقد أطلقت إطلاقا.

وتصدير الجملة بفاء التفريع للإشارة إلى أن مضمونها أعني مجيء القيامة من لوازم خلق السماء والأرض وجعل التدبير الجاري فيهما المترتبة على ذلك كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ﴿يوم يتذكر الإنسان ما سعى﴾ ظرف لمجيء الطامة الكبرى، والسعي هو العمل بجد.

قوله تعالى: ﴿وبرزت الجحيم لمن يرى﴾ التبريز الإظهار ومفعول ﴿يرى﴾ منسي معرض عنه والمراد بمن يرى من له بصر يرى به، والمعنى وأظهرت الجحيم بكشف الغطاء عنها لكل ذي بصر فيشاهدونها مشاهدة عيان.

فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ ق: 22 غير أن آية ق أوسع معنى.

والآية ظاهرة في أن الجحيم مخلوقة قبل يوم القيامة وإنما تظهر يومئذ ظهورا بكشف الغطاء عنها.

قوله تعالى: ﴿فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾ تفصيل حال الناس يومئذ في انقسامهم قسمين أقيم مقام الإجمال الذي هو جواب إذا المحذوف استغناء بالتفصيل عن الإجمال، والتقدير فإذا جاءت الطامة الكبرى انقسم الناس قسمين فأما من طغى إلخ.

وقد قسم تعالى الناس في الآيات الثلاث إلى أهل الجحيم وأهل الجنة - وقدم صفة أهل الجحيم لأن وجه الكلام إلى المشركين - وعزف أهل الجحيم بما وصفهم به في قوله: ﴿من طغى وآثر الحياة الدنيا﴾ وقابل تعريفهم بتعريف أهل الجنة بقوله: ﴿من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى﴾ وسبيل ما وصف به الطائفتين على أي حال سبيل بيان الضابط.

وإذ كانت الطائفتان متقابلتين بحسب حالهما كان ما بين لكل منهما من الوصف مقابلا لوصف الآخر فوصف أهل الجنة بالخوف من مقام ربهم - والخوف تأثر الضعيف المقهور من القوي القاهر وخشوعه وخضوعه له - يقتضي كون طغيان أهل الجحيم - والطغيان التعدي عن الحد - هو عدم تأثرهم من مقام ربهم بالاستكبار وخروجهم عن زي العبودية فلا يخشعون ولا يخضعون ولا يجرون على ما أراده منهم ولا يختارون ما اختاره لهم من السعادة الخالدة بل ما تهواه أنفسهم من زينة الحياة الدنيا.

فمن لوازم طغيانهم اختيارهم الحياة الدنيا وهو الذي وصفهم به بعد وصفهم بالطغيان إذ قال: ﴿وآثر الحياة الدنيا﴾.

وإذ كان من لوازم الطغيان رفض الآخرة وإيثار الحياة الدنيا وهو اتباع النفس فيما تريده وطاعتها فيما تهواه ومخالفته تعالى فيما يريده كان لما يقابل الطغيان من الوصف وهو الخوف ما يقابل الإيثار واتباع هوى النفس وهو قريحة الردع عن الإخلاد إلى الأرض ونهى النفس عن اتباع الهوى وهو قوله في وصف أهل الجنة بعد وصفهم بالخوف: ﴿ونهى النفس عن الهوى﴾.

وإنما أخذ في وصفه النهي عن الهوى دون ترك اتباعه عملا لأن الإنسان ضعيف ربما ساقته الجهالة إلى المعصية من غير استكبار والله واسع المغفرة قال تعالى ﴿ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة﴾ النجم: 32، وقال: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما﴾ النساء: 31.

ويتحصل معنى الآيات الثلاث في إعطاء الضابط في صفة أهل الجحيم وأهل الجنة في أن أهل الجحيم أهل الكفر والفسوق وأهل الجنة أهل الإيمان والتقوى، وهناك غير الطائفتين طوائف أخر من المستضعفين والذين اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وغيرهم أمرهم إلى الله سبحانه عسى أن يشملهم المغفرة بشفاعة وغيرها.

فقوله: ﴿فأما من طغى - إلى قوله - هي المأوى﴾ أي هي مأواه على أن تكون اللام عوضا عن الضمير أو الضمير محذوف والتقدير هي المأوى له.

وقوله: ﴿وأما من خاف مقام ربه﴾ إلخ المقام اسم مكان يراد به المكان الذي يقوم فيه جسم من الأجسام وهو الأصل في معناه ككونه اسم زمان ومصدرا ميميا لكن ربما يعتبر ما عليه الشيء من الصفات والأحوال محلا ومستقرا للشيء بنوع من العناية فيطلق عليه المقام كالمنزلة كما في قوله تعالى في الشهادة: ﴿فآخران يقومان مقامهما﴿: المائدة: 107 وقول نوح (عليه السلام) لقومه على ما حكاه الله: ﴿إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله﴾ يونس: 71، وقول الملائكة على ما حكاه الله: ﴿وما منا إلا له مقام معلوم﴾ الصافات: 164.

فمقامه تعالى المنسوب إليه بما أنه رب هو صفة ربوبيته بما تستلزمه أو تتوقف عليه من صفاته الكريمة كالعلم والقدرة المطلقة والقهر والغلبة والرحمة والغضب وما يناسبها قال إيذانا به: ﴿ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى﴾ طه: 82، وقال: ﴿نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم﴾ الحجر: 50.

فمقامه تعالى الذي يخوف منه عباده مرحلة ربوبيته التي هي المبدأ لرحمته ومغفرته لمن آمن واتقى ولأليم عذابه وشديد عقابه لمن كذب وعصى.

وقيل: المراد بمقام ربه مقامه من ربه يوم القيامة حين يسأله عن أعماله وهو كما ترى.

وقيل: معنى خاف مقام ربه خاف ربه بطريق الإقحام كما قيل في قوله ﴿أكرمي مثواه﴾.

بحث روائي:

في الفقيه، وروى علي بن مهزيار قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قوله عز وجل ﴿والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى﴾ وقوله عز وجل: ﴿والنجم إذا هوى﴾ وما أشبه هذا؟ فقال إن لله عز وجل أن يقسم من خلقه بما شاء وليس لخلقه أن يقسموا إلا به.

أقول: وتقدم في هذا المعنى رواية الكافي، عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) في تفسير أول سورة النجم.

وفي الدر المنثور، أخرج سعيد بن المنصور وابن المنذر عن علي في قوله: ﴿والنازعات غرقا﴾ قال: هي الملائكة تنزع أرواح الكفار ﴿والناشطات نشطا﴾ هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها ﴿والسابحات سبحا﴾ هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض ﴿فالسابقات سبقا﴾ هي الملائكة يسبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله ﴿فالمدبرات أمرا﴾ قال هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة.

أقول: ينبغي أن تحمل الرواية - لو صحت - على ذكر بعض المصاديق، وقوله: ﴿تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها﴾ ضرب من التمثيل لشدة العذاب.

وفيه، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن ابن الكواء سأله عن ﴿المدبرات أمرا﴾ قال: الملائكة يدبرون ذكر الرحمن وأمره.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة﴾ قال: تنشق الأرض بأهلها والرادفة الصيحة.

وفيه، في قوله: ﴿ءإنا لمردودون في الحافرة﴾ قال: قالت قريش: أنرجع بعد الموت؟ وفيه،: في قوله: ﴿تلك إذا كرة خاسرة﴾ قال: قالوا هذه على حد الاستهزاء.

وفيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قوله: ﴿ءإنا لمردودون في الحافرة﴾ يقول: في الخلق الجديد، وأما قوله: ﴿فإذا هم بالساهرة﴾ والساهرة الأرض كانوا في القبور فلما سمعوا الزجرة خرجوا من قبورهم فاستووا على الأرض.

وفي أصول الكافي، بإسناده إلى داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ قال: من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

أقول: يؤيد الحديث ما تقدم من معنى الخوف من مقامه تعالى.

وفيه، بإسناده عن يحيى بن عقيل قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنما أخاف عليكم الاثنين: اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة.