الآيات 61-69

﴿61﴾ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿62﴾ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿63﴾ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿64﴾ فَإِذَا رَكِبُوا فِي كِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴿65﴾ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿66﴾ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴿67﴾ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴿68﴾ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴿69﴾

بيان:

الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في المعنى خطاب عام يشمل الجميع وإن كان في اللفظ خاصا به (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع.

والآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقي في الفصل السابق على المؤمنين فآمنوا به فإنهم يعترفون أن خالق السماوات والأرض ومدبر الشمس والقمر - وعليهما مدار الأرزاق - هو الله وأن منزل الماء من السماء ومحيي الأرض بعد موتها هو الله سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم وهم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم عبدوا غيره ويقيمون في حرم آمن وهو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل ويجحدون الحق ويكفرون بنعمة الله.

وما ختمت به السورة من قوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ يلائم ما في مفتتح السورة ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون - إلى أن قال - ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه﴾ إلخ.

قوله تعالى: ﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون﴾.

خلق السماوات والأرض من الإيجاد وتسخير الشمس والقمر - وذلك بتحويل حالاتهما بالطلوع والغروب والقرب والبعد من الأرض - من التدبير الذي يتفرع عليه كينونة أرزاق الإنسان وسائر الحيوان وهذا الخلق والتدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر.

وإذا كان الله هو الخالق وبيده تدبير السماوات ويتبعه تدبير الأرض وكينونة الأرزاق كان هو الذي يجب أن يدعى للرزق وسائر التدبير فمن العجب حينئذ أن يصرف عنه الإنسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا وهو قوله: ﴿فأنى يؤفكون﴾ أي فإذا كان الخلق وتدبير الشمس والقمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من الأصنام وعبادته.

قوله تعالى: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء من عبادسرابيةه ويقدر له إن الله بكل شيء عليم﴾ في الآية تصريح بما تلوح إليه الآية السابقة، والقدر التضييق ويقابله البسط والمراد به لازم معناه وهو التوسعة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿إن الله بكل شيء عليم﴾ للدلالة على تعليل الحكم، والمعنى: وهو بكل شيء عليم لأنه الله.

والمعنى: الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه على من يشاء - ولا يشاء إلا على طبق المصلحة - لأنه بكل شيء عليم لأنه الله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال.

قوله تعالى: ﴿ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها﴾ - إلى قوله - لا يعقلون﴾ المراد بإحياء الأرض بعد موتها إنبات النبات في الربيع.

وقوله: ﴿قل الحمد لله﴾ أي احمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله هو المدبر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام وأرباب الأصنام.

وقوله: ﴿بل أكثرهم لا يعقلون﴾ أي لا يتدبرون الآيات ولا يحكمون العقول حتى يعرفوا الله ويميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل.

قوله تعالى: ﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ اللهو ما يلهيك ويشغلك عما يهمك فالحياة الدنيا من اللهو لأنها تلهي الإنسان وتشغله بزينتها المزوقة الفانية عن الحياة الخالدة الباقية.

واللعب فعل أو أفعال منتظمة انتظاما خياليا لغاية خيالية كملاعب الصبيان والحياة الدنيا لعب لأنها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه ويتولعون به ساعة ثم يتفرقون وسرعان ما يتفرقون.

على أن عامة المقاصد التي يتنافس فيها المتنافسون ويتكالب عليه الظالمون أمور وهمية سرابية كالأموال والأزواج والبنين وأنواع التقدم والتصدر والرئاسة والمولوية والخدم والأنصار وغيرها فالإنسان لا يملك شيئا منها إلا في ظرف الوهم والخيال.

وأما الحياة الآخرة التي يعيش فيها الإنسان بكماله الواقعي الذي اكتسبه بإيمانه وعمله الصالح فهي المهمة التي لا لهو في الاشتغال بها والجد الذي لا لعب فيها ولا لغو ولا تأثيم، والبقاء الذي لا فناء معه، واللذة التي لا ألم، عندها والسعادة التي لا شقاء دونها، فهي الحياة بحقيقة معنى الكلمة.

وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان﴾.

وفي الآية - كما ترى - قصر الحياة الدنيا في اللهو واللعب والإشارة إليها بهذه المفيدة للتحقير وقصر الحياة الآخرة في الحيوان وهو الحياة وتأكيده بأدوات التأكيد كان واللام وضمير الفصل والجملة الاسمية.

وقوله: ﴿لو كانوا يعلمون﴾ أي لو كانوا يعلمون لعلموا أن الأمر كما وصفنا.

قوله تعالى: ﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون﴾ تفريع على ما تحصل من الآيات السابقة من شأنهم وهو أنهم يؤفكون وأن كثيرا منهم لا يعقلون أي لما كانوا يؤفكون ويصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وأكثرهم لا يعقلون ويناقضون أنفسهم بالاعتراف والجحد فإذا ركبوا.

والركوب الاستعلاء بالجلوس على الشيء المتحرك وهو متعد بنفسه وتعديته في الآية بفي لتضمنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، والمعنى: فإذا ركبوا مستقرين في الفلك أو استقروا في الفلك راكبين، ومعنى الآية ظاهر وهي تحكي عنهم تناقضا آخر وكفرانا للنعمة.

قوله تعالى: ﴿ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون﴾ اللام في ﴿ليكفروا﴾ و﴿ليتمتعوا﴾ لام الأمر وأمر الآمر بما لا يرتضيه تهديد وإنذار كقولك لمن تهدده: ﴿افعل ما شئت﴾ قال تعالى: ﴿اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير﴾ حم السجدة: 40.

واحتمل كون اللام للغاية، والمعنى: أنهم يأتون بهذه الأعمال لتنتهي بهم إلى كفران النعمة التي آتيناهم وإلى التمتع، وأول الوجهين أوفق لقوله في ذيل الآية: ﴿فسوف يعلمون﴾ ويؤيده قوله في موضع آخر: ﴿ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون﴾ الروم: 34، ولذا قرأه من قرأ ﴿وليتمتعوا﴾ بسكون اللام إذ لا يسكن غير لام الأمر.

قوله تعالى: ﴿أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم﴾ الحرم الأمن هو مكة وما حولها وقد جعله الله مأمنا بدعاء إبراهيم (عليه السلام) والتخطف كالخطف استلاب الشيء بسرعة واختلاسه وقد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور والتناهب ولا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل والسبي والنهب لكنهم يحترمون الحرم ولا يتعرضون لمن أقام بها فيها.

والمعنى: أولم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبي أو نهب والحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم.

وقوله: ﴿أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون﴾ توبيخ آخر لهم حيث يقابلون هذه النعمة وهي نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالأصنام وهي باطلة ليس لها إلا الاسم.

قوله تعالى: ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أ ليس في جهنم مثوى للكافرين﴾ تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم وأعظمه وهو افتراء الكذب على الله بالقول بالآلهة وأن الله اتخذهم شركاء لنفسه، وتكذيب الإنسان بالحق لما جاءه والوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الأصنام وكذبوا بالقرآن لما جاءهم فهم كافرون ومثوى الكافرين ومحل إقامتهم في الآخرة جهنم.

قوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾ الجهد الوسع والطاقة والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس كذا ذكره الراغب.

وقوله: ﴿جاهدوا فينا﴾ أي استقر جهادهم فينا وهو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد عمل، فلا ينصرف عن الإيمان به والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه.

وقوله: ﴿لنهدينهم سبلنا﴾ أثبت لنفسه سبلا وهي أيا ما كانت تنتهي إليه تعالى فإنما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل وهو غايتها فسبله هي الطرق المقربة منه والهادية إليه تعالى، وإذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ محمد: 17.

ومما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: ﴿فينا﴾ إلى تقدير مضاف كشأن والتقدير في شأننا.

وقوله: ﴿وإن الله لمع المحسنين﴾ قيل أي معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج إليهما قرينة قوية على إرادة ذلك.

وهو وجه حسن وأحسن منه أن يفسر بمعية الرحمة والعناية فيشمل معية النصرة والمعونة وغيرهما من أقسام العنايات التي له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم وشمول رحمته لهم، وهذه المعية أخص من معية الوجود الذي ينبىء عنه قوله تعالى: ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ الحديد: 4.

وقد تقدمت الإشارة إلى أن الآية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي جعفر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور.

وفيه، أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: ﴿أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا﴾ الآية.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا - لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: هذه الآية لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأشياعهم.