الآيات 14-40

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴿14﴾ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿15﴾ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿16﴾ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿17﴾ وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿18﴾ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿19﴾ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿20﴾ يُعَذِّبُُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴿21﴾ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿22﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿23﴾ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿24﴾ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿25﴾ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿26﴾ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿27﴾ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴿28﴾ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿29﴾ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴿30﴾ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴿31﴾ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿32﴾ وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿33 إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿34﴾ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿35﴾ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿36﴾ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿37﴾ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴿38﴾ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴿39﴾ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿40﴾

بيان:

لما ذكر سبحانه في صدر السورة أن الفتنة سنة إلهية لا معدل عنها وقد جرت في الأمم السابقة عقب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين وأممهم وهم: نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح وموسى (عليه السلام) فتنهم الله وامتحنهم فنجا منهم من نجا وهلك، منهم من هلك وقد ذكر سبحانه في الثلاثة الأول النجاة والهلاك معا وفي الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب.

قوله تعالى: ﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون﴾ في المجمع، الطوفان الماء الكثير الغامر لأنه يطوف بكثرته في نواحي الأرض، انتهى.

وقيل: هو كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام والغالب استعماله في طوفان الماء.

والتعبير بألف سنة إلا خمسين عاما دون أن يقال: تسعمائة وخمسين سنة للتكثير والآية ظاهرة في أن الألف إلا خمسين مدة دعوة نوح (عليه السلام) ما بين بعثته إلى أخذ الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنها مدة عمره (عليه السلام) وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قصصه (عليه السلام) في تفسير سورة هود، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين﴾ أي فأنجينا نوحا وأصحاب السفينة الراكبين معه فيها وهم أهله وعدة قليلة من المؤمنين به ولم يكونوا ظالمين.

وقوله: ﴿وجعلناها آية للعالمين﴾ الظاهر أن الضمير للواقعة أو للنجاة وأما رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، والعالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم.

قوله تعالى: ﴿وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ معطوف على قوله: ﴿نوحا﴾ أي وأرسلنا إبراهيم إلى قومه.

وقوله لقومه: ﴿اعبدوا الله واتقوه﴾ دعوة إلى التوحيد وإنذار بقرينة الآيات التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر.

على أن الوثنية لا يعبدون الله سبحانه وإنما يعبدون غيره زعما منهم أنه تعالى لا يمكن أن يعبد إلا من طريق الأسباب الفعالة في العالم المقربة عنده كالملائكة والجن ولو عبد لكان معبودا وحده من غير شريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله: ﴿اعبدوا الله﴾ تفيد الدعوة إليه وحده وإن لم تقيد بأداة الحصر.

قوله تعالى: ﴿إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا﴾ إلى آخر الآية، الأوثان جمع وثن بفتحتين وهو الصنم، والإفك الأمر المصروف عن وجهه قولا أو فعلا.

وقوله: ﴿إنما تعبدون من دون الله أوثانا﴾ بيان لبطلان عبادة الأوثان ويظهر به كون عبادة الله هي العبادة الحقة وبالجملة انحصار العبادة الحقة فيه تعالى ﴿أوثانا﴾ منكر للدلالة على وهن أمرها وكون ألوهيتها دعوى مجردة لا حقيقة وراءها، أي لا تعبدون من دون الله إلا أوثانا من أمرها كذا وكذا.

ولذا عقب الجملة بقوله: ﴿وتخلقون إفكا﴾ أي وتفتعلون كذبا بتسميتها آلهة وعبادتها بعد ذلك فهناك إله تجب عبادته لكنه هو الله الواحد دون الأوثان.

وقوله: ﴿إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا﴾ تعليل لما ذكر من افتعالهم الكذب بتسمية الأوثان آلهة وعبادتها ومحصله أن هؤلاء الذين تعبدون من دون الله وهم الأوثان بما هم تماثيل المقربين من الملائكة والجن إنما تعبدونهم لجلب النفع وهو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم ويدروا عليكم الرزق لكنهم ليسوا يملكون لكم رزقا فإن الله هو الذي يملك رزقكم الذي هو السبب الممد لبقائكم لأنه الذي خلقكم وخلق رزقكم فجعله ممدا لبقائكم والملك تابع للخلق والإيجاد.

ولذلك عقبه بقوله: ﴿فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له﴾ أي فاطلبوا الرزق من عند الله لأنه هو الذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله واشكروا له على ما رزقكم وأنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم.

وقوله: ﴿إليه ترجعون﴾ في مقام التعليل لقوله: ﴿واعبدوه واشكروا له﴾ ولذا جيء بالفصل من غير عطف، وفي هذا التعليل صرفهم عن عبادة الإله ابتغاء للرزق إلى عبادته للرجوع والحساب إذ لو لا المعاد لم يكن لعبادة الإله سبب محصل لأن الرزق وما يجري مجراه له أسباب خاصة كونية غير العبادات والقربات ولا يزيد ولا ينقص بإيمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالإيمان والكفر والعبادة والشكر وخلافهما فليكن الرجوع إلى الله هو الباعث إلى العبادة والشكر دون ابتغاء الرزق.

قوله تعالى: ﴿وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين﴾ الظاهر أنه من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام)، وذكر بعضهم أنه خطاب منه تعالى لمشركي قريش ولا يخلو من بعد.

ومعنى الشرط والجزاء في صدر الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه كالسنة الجارية في الأمم المشركة وقد كذب من قبلكم وأنتم منهم وفي آخرهم وليس علي بما أنا رسول إلا البلاغ المبين.

ويمكن أن يكون المراد أن حالكم في تكذيبكم كحال الأمم من قبلكم لم ينفعهم تكذيبهم شيئا حل بهم عذاب الله ولم يكونوا بمعجزين في الأرض ولا في السماء ولم يكن لهم من دون الله من ولي ولا نصير، فكذلكم أنتم، وقوله: ﴿وما على الرسول﴾ يناسب الوجهين جميعا.

قوله تعالى: ﴿أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير﴾ هذه الآية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصة تقيم الحجة على المعاد وترفع استبعادهم له متعلقه بما تقدم من حيث إن العمدة في تكذيبهم الرسل إنكارهم للمعاد كما يشير إليه قول إبراهيم: ﴿إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم﴾.

فقوله: ﴿أولم يروا﴾ إلخ الضمير فيه للمكذبين من جميع الأمم من سابق ولاحق والمراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية، وقوله: ﴿كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده﴾ في موضع المفعول لقوله: ﴿يروا﴾ بعطف ﴿يعيده﴾ على موضع ﴿يبدىء﴾ خلافا لمن يرى عطفه على ﴿أولم يروا﴾ والاستفهام للتوبيخ.

والمعنى: أولم يعلموا كيفية الإبداء ثم الإعادة أي إنهما من سنخ واحد هو إنشاء ما لم يكن، وقوله: ﴿إن ذلك على الله يسير﴾ الإشارة فيه إلى الإعادة بعد الإبداء وفيه رفع الاستبعاد لأنه إنشاء بعد إنشاء وإذ كانت القدرة المطلقة تتعلق بالإيجاد فهي جائزة التعلق بالإنشاء بعد الإنشاء وهي في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار وإنزال للسائرين إليه في دار القرار.

وقول بعضهم: إن المراد بالإبداء ثم الإعادة إنشاء الخلق ثم إعادة أمثالهم بعد إفنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الذي هو إعادة عين ما فنى دون مثله.

قوله تعالى: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير﴾ الآية إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطبهم بما يتم به الحجة عليهم فيرشدهم إلى السير في الأرض لينظروا إلى كيفية بدء الخلق وإنشائهم على اختلاف طبائعهم وتفاوت ألوانهم وأشكالهم من غير مثال سابق وحصر أو تحديد في عدتهم وعدتهم ففيه دلالة على عدم التحديد في القدرة الإلهية فهو ينشىء النشأة الآخرة كما أنشأ النشأة الأولى فالآية في معنى قوله: ﴿ولقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون﴾ الواقعة: 62.

قوله تعالى: ﴿يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون﴾ من مقول القول، والظاهر أنه بيان لقوله: ﴿ينشىء النشأة الآخرة﴾ وقلب الشيء تحويله عن وجهه أو حاله كجعل أسفله أعلاه وجعل باطنه ظاهره وهذا المعنى الأخير يناسب قوله تعالى: ﴿يوم تبلى السرائر﴾ الطارق: 9.

و فسروا القلب بالرد قال في المجمع:، والقلب هو الرجوع والرد فمعناه أنكم تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع والضر إلا الله.

انتهى وهذا معنى لطيف يفسر به معنى الرجوع إلى الله والرد إليه وهو وقوفهم موقفا تنقطع فيه عنهم الأسباب ولا يحكم فيه إلا الله سبحانه فالآية في معنى قوله: ﴿وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ يونس: 30.

ومحصل المعنى: أن النشأة الآخرة هي نشأة يعذب الله فيها من يشاء وهم المجرمون ويرحم من يشاء وهم غيرهم وإليه تردون فلا يحكم فيكم غيره.

قوله تعالى: ﴿وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير﴾ من مقول القول وتوصيف لشأنهم يوم القيامة كما أن الآية السابقة توصيف لشأنه تعالى يومئذ.

فقوله: ﴿وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء﴾ أي أنكم لا تقدرون أن تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه والخروج من حكمه وسلطانه بالفرار والخروج من ملكه والنفوذ من أقطار الأرض والسماء، فالآية تجري مجرى قوله: ﴿يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا﴾ الرحمن: 33.

وقيل: الكلام في معنى ﴿من في السماء﴾ فحذف من لدلالة الكلام عليه والتقدير وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا من في السماء بمعجزين في السماء.

وهو بعيد ودلالة الكلام عليه غير مسلمة ولو بني عليه لكفى فيه أن الخطاب للأعم من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجن والملك والمعنى: وما أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الأرض ولا في السماء.

وقوله: ﴿وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير﴾ أي ليس لكم اليوم ولي من دون الله يتولى أمركم فيغنيكم من الله ولا نصير ينصركم فيقوي جانبكم ويتمم ناقص قوتكم فيظهركم عليه سبحانه.

فالآية - كما ترى - تنفي ظهورهم على الله وتعجيزهم له بالخروج والامتناع عن حكمه بأقسامه فلا هم يستقلون بذلك وهو قوله: ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ إلخ ولا غيرهم يستقل بذلك وهو قوله: ﴿وما لكم من دون الله من ولي﴾ ولا المجموع منهم ومن غيرهم يعجزه تعالى وهو قوله: ﴿ولا نصير﴾.

قوله تعالى: ﴿والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم﴾ خطاب مصروف إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خارج من مقول القول السابق ﴿قل سيروا في الأرض﴾ إلخ والمطلوب فيه أن ينبئه (صلى الله عليه وآله وسلم) صريح الحق فيمن يشقى ويهلك يوم القيامة فإنه أبهم ذلك في قوله أولا: ﴿يعذب من يشاء ويرحم من يشاء﴿.

ومن الدليل عليه الخطاب في ﴿أولئك﴾ مرتين ولو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقيل: أولئكم.

ويؤيد ذلك أيضا قوله: ﴿من رحمتي﴾ فإن الانتقال من مثل قولنا: أولئك يئسوا من رحمة الله أو من رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله: ﴿أولئك يئسوا من رحمتي﴾ يفيد التصديق والاعتراف مضافا إلى أصل الإخبار فيفيد صريح التعيين لأهل العذاب، ويؤيد ذلك أيضا تكرار الإشارة وما في السياق من التأكيد.

وكان في تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الإخبار تقوية لنفسه الشريفة وعزلا لهم عن صلاحية السمع لمثله وهم لا يؤمنون.

والمراد بآيات الله - على ما يفيده إطلاق اللفظ - جميع الأدلة الدالة على الوحدانية والنبوة والمعاد من الآيات الكونية والمعجزات النبوية ومنها القرآن فالكفر بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء وهو المعاد بعد الكفر بالآيات من ذكر الخاص بعد العام والوجه فيه الإشارة إلى أهمية الإيمان بالمعاد إذ مع إنكار المعاد يلغو أمر الدين الحق من أصله وهو ظاهر.

والمراد بالرحمة ما يقابل العذاب ويلازم الجنة وقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الرحمة عليها بالملازمة كقوله: ﴿فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته﴾ الجاثية: 30، وقوله: ﴿يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما﴾ الإنسان: 31.

والمراد بإسناد اليأس إليهم إما تلبسهم به حقيقة فإنهم لجحدهم الحياة الآخرة آيسون من السعادة المؤبدة والجنة الخالدة وإما أنه كناية عن قضائه تعالى المحتوم أن الجنة لا يدخلها كافر.

والمعنى: والذين جحدوا آيات الله الدالة على الدين الحق وخاصة المعاد أولئك يئسوا من الرحمة والجنة وأولئك لهم عذاب أليم.

قوله تعالى: ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار﴾ إلخ، تفريع على قوله في صدر القصة: ﴿وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه﴾.

وظاهر قوله: ﴿قالوا اقتلوه أو حرقوه﴾ أن كلا من طرفي الترديد قول طائفة منهم والمراد بالقتل القتل بالسيف ونحوه فهو قولهم أول ما ائتمروا ليجازوه وإن اتفقوا بعد ذلك على إحراقه كما قال ﴿قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم﴾ الأنبياء: 68، ويمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددهم في أمره أولا ثم اتفاقهم على إحراقه.

وقوله: ﴿فأنجاه الله من النار﴾ فيه حذف وإيجاز وتقديره ثم اتفقوا على إحراقه فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها، وقد فصلت القصة في مواضع من كلامه تعالى.

قوله تعالى: ﴿وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا﴾ إلى آخر الآية إذ كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ الأوثان لم يبق لهم مما يستنون به إلا الاستنان بسنة من يعظمونه ويحترمون جانبه كالآباء للأبناء والرؤساء المعظمين لأتباعهم والأصدقاء لأصدقائهم وبالأخرة الأمة لأفرادها فهذا السبب الرابط هو عمدة ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها.

فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار الموت الاجتماعية يرى العامة ذلك بعضهم من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده والاستنان به مثله ثم هذا الاستنان نفسه يحفظ المودة القومية ويقيم الاتحاد والاتفاق على ساقه.

هذه حال العامة منهم وأما الخاصة فربما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجة وما هو بحجة كقولهم إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو وهم أو عقل فلا يتعلق به توجهنا العبادي فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية كالملائكة والجن ليقربونا إليه زلفى ويشفعوا لنا عنده.

فقوله: ﴿إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا﴾ خطاب منه (عليه السلام) لعامة قومه في أمر اتخاذهم الأوثان للمودة القومية ليصلحوا به شأن حياتهم الدنيا الاجتماعية، وقد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم ﴿إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين﴾ الأنبياء: 53، ﴿قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون﴾ الشعراء: 74.

ومن هنا يظهر أن قوله: ﴿مودة بينكم﴾ صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام التعليل والمودة على هذا سبب مؤد إلى اتخاذ الأوثان، وأن يكون مفعولا له، والمودة غاية مقصودة من اتخاذ الأوثان، لكن ذيل الآية إنما تلائم الوجه الثاني على ما سيظهر.

ثم عقب (عليه السلام) بقوله: ﴿إنما اتخذتم﴾ إلخ، بقوله: ﴿ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا﴾ يبين لهم عاقبة اتخاذهم الأوثان للمودة وهو باطن هذه المودة المقصودة الذي سيظهر يوم تبلى السرائر فإنهم توسلوا إلى هذا المتاع القليل بالشرك الذي هو أعظم الظلم وأكبر الكبائر الموبقة واجتمعوا عليه وتوافقوا لكنهم سيبدو لهم حقيقة عملهم ويلحق بهم وباله فيتبرأ بعضهم من بعض وينكره بعضهم على بعض.

والمراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم وتبريهم منهم، كما قال تعالى: ﴿سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا﴾ مريم: 82، وقال: ﴿ويوم القيامة يكفرون بشرككم﴾ فاطر: 14، وفي معناه: تبري المتبوعين من تابعيهم، كما قال تعالى: ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب﴾ البقرة: 166، والمراد بلعن بعضهم بعضا لعن كل بعض صاحبه، قال تعالى: ﴿كلما دخلت أمة لعنت أختها﴾ الأعراف: 38.

ثم عقب ذلك بقوله: ﴿ومأواكم النار وما لكم من ناصرين﴾ إشارة إلى لحوق الوبال ووقوع الجزاء وهو النار التي فيها الهلاك المؤبد ولا ناصر ينصرهم ويدفع عنهم العذاب فهم إنما توسلوا إلى المودة ليتناصروا ويتعاونوا ويتعاضدوا في الحياة لكنها عادت يوم القيامة معاداة ومضادة وأورثت تبريا وخذلانا.

قوله تعالى: ﴿فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم﴾ أي آمن به لوط والإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء والمعنى واحد.

وقوله: ﴿وقال إني مهاجر إلى ربي﴾ قيل الضمير راجع إلى لوط، وقيل: راجع إلى إبراهيم ويؤيده قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ﴿وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين﴾ الصافات: 99.

وكأن المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه وخروجه من بين قومه المشركين إلى أرض لا يعترضه فيها المشركون ولا يمنعونه من عبادة ربه فعد المهاجرة مهاجرة إلى الله من المجاز العقلي.

وقوله: ﴿إنه هو العزيز الحكيم﴾ أي عزيز لا يذل من نصره حكيم لا يضيع من حفظه.

قوله تعالى: ﴿ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب﴾ معناه ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ الأجر هو الجزاء الذي يقابل العمل ويعود إلى عامله والفرق بينه وبين الأجرة أن الأجرة تختص بالجزاء الدنيوي والأجر يعم الدنيا والآخرة، والفرق بينه وبين الجزاء أن الأجر لا يقال إلا في الخير والنافع، والجزاء يعم الخير والشر والنافع والضار.

والغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الأجر في جزاء العمل العبودي الذي أعده الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب ودرجات الولاية ومنها الجنة، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): ﴿أنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ يوسف: 90، وقوله: ﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين﴾ يوسف: 56 إطلاق الأجر على الجزاء الدنيوي الحسن.

فقوله: ﴿وآتيناه أجره في الدنيا﴾ يمكن أن يكون المراد به إيتاء الأجر الدنيوي الحسن والأنسب على هذا أن يكون ﴿في الدنيا﴾ متعلقا بالأجر لا بالإيتاء وربما تأيد هذا المعنى بقوله تعالى فيه (عليه السلام) في موضع آخر: ﴿وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ النحل: 122، فإن الظاهر أن المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو العيشة الحسنة وإيتاؤها فعلية إعطائها دون تقديرها وكتابتها.

ويمكن أن يكون المراد به تقديم ما أعد لعامة المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب في حقه (عليه السلام) وإيتاؤه ذلك في الدنيا وقد تقدم إحصاء ما يذكره القرآن الكريم من مقاماته (عليه السلام) في قصصه من تفسير سورة الأنعام.

وقوله: ﴿وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: ﴿ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ البقرة: 130 في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين﴾ أي وأرسلنا لوطا أو واذكر لوطا إذ قال لقومه، وقوله: ﴿إنكم لتأتون الفاحشة﴾ إخبار بداعي الاستعجاب والإنكار، والمراد بالفاحشة إتيان الذكران.

وقوله: ﴿ما سبقكم بها من أحد من العالمين﴾ استئناف يوضح معنى الفاحشة ويؤكده، وكأن المراد أن هذا العمل لم يشع في قوم قبلهم هذا الشيوع أو الجملة حال من فاعل ﴿لتأتون﴾.

قوله تعالى: ﴿أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر﴾ إلى آخر الآية، استفهام من أمر من الحري أن لا يصدقه سامع ولا يقبله ذو لب ولذا أكد بالنون واللام، وهذا السياق يشهد أن المراد بإتيان الرجل اللواط وبقطع السبيل إهمال طريق التناسل وإلغاؤها وهي إتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الإعراض عن النساء وترك نكاحهن، وبإتيانهم المنكر في ناديهم - والنادي هو المجلس الذي يجتمعون فيه ولا يسمى نادية إلا إذا كان فيه أهله - الإتيان بالفحشاء أو بمقدماتها الشنيعة بمرأى من الجماعة.

وقيل: المراد بقطع السبيل قطع سبيل المارة بديارهم فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم وكانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف فأيهم أصابه كان أولى به فيأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضي بذلك وقيل: بل كانوا يقطعون الطرق، وقد عرفت أن السياق يقضي بخلاف ذلك.

وقيل: المراد بإتيان المنكر في النادي أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات والقبائح مثل الشتم والسخف والقمار وخذف الأحجار على من مر بهم وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط ونحو ذلك وقد عرفت ما يقتضيه السياق.

وقوله: ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين﴾ استهزاء وسخرية منهم، ويظهر من جوابهم أنه كان ينذرهم بعذاب الله وقد قال الله في قصته في موضع آخر: ﴿ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر﴾ القمر: 36.

قوله تعالى: ﴿قال رب انصرني على القوم المفسدين﴾ سؤال للفتح ودعاء منه عليهم، وقد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض ويقطع النسل ويهدد الإنسانية بالفناء.

قوله تعالى: ﴿ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين﴾ إجمال قصة هلاك قوم لوط، وقد كان ذلك برسل من الملائكة أرسلهم الله أولا إلى إبراهيم (عليه السلام) فبشروه وبشروا امرأته بإسحاق ويعقوب ثم أخبروه بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط، والقصة مفصلة في سورة هود وغيرها.

وقوله: ﴿قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية﴾ أي قالوا لإبراهيم، وفي الإتيان بلفظ الإشارة القريبة - هذه القرية - دلالة على قربها من الأرض التي كان إبراهيم (عليه السلام) نازلا بها، وهي الأرض المقدسة.

وقوله: ﴿إن أهلها كانوا ظالمين﴾ تعليل لإهلاكهم بأنهم ظالمون قد استقرت فيهم رذيلة الظلم، وقد كان مقتضى الظاهر أن يقال: إنهم كانوا ظالمين فوضع المظهر موضع المضمر للإشارة إلى أن ظلمهم ظلم خاص بهم يستوجب الهلاك وليس من مطلق الظلم الذي كان الناس مبتلين به يومئذ كأنه قيل: إن أهلها بما أنهم أهلها ظالمون.

قوله تعالى: ﴿قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين﴾ ظاهر السياق أنه (عليه السلام) كان يريد بقوله: ﴿إن فيها لوطا﴾ أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا وإهلاك أهلها يشمله فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشمله العذاب وهم أهله إلا امرأته.

لكنه (عليه السلام) لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطا وهو نبي مرسل، وإن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته ولا أنه يخوفه ويزعره ويفزعه بقهره عليهم بل كان (عليه السلام) يريد بقوله: ﴿إن فيها لوطا﴾ أن يصرف العذاب عن أهل القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فأجيب بأنهم مأمورون بإنجائه وإخراجه من بين أهل القرية ومعه أهله إلا امرأته كانت من الغابرين.

والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة: ﴿فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود﴾ هود: 76، فالآيات أظهر ما يكون في أن إبراهيم (عليه السلام) كان يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه.

فظاهر كلامه (عليه السلام) في الآية التي نحن فيها الدفاع عن لوط وعلى ذلك جاراه الرسل فأبقوا كلامه على ظاهره وأجابوا بأنهم ما كانوا ليجهلوا ذلك فهم أعلم بمن فيها وعالمون بأن فيها لوطا ومعه أهله ممن لا ينبغي أن يعذب لكنهم سينجونه وأهله إلا امرأته، لكن الذي أراده إبراهيم (عليه السلام) بكلامه دفع العذاب عن أهل القرية فأجيب بأنه من الأمر المحتوم على ما تشير إليه آيات سورة هود.

وللقوم في قوله: ﴿إن أهلها كانوا ظالمين﴾ وقوله: ﴿قال إن فيها لوطا﴾ مشاجرات طويلة أعرضنا عن التعرض لها لعدم الجدوى، من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن﴾ إلى آخر الآية، ضميرا الجمع في ﴿سيء بهم وضاق بهم﴾ للرسل والباء للسببية أي أخذته المساءة وهي سوء الحال بسببهم وضاقت طاقته بسببهم لكونهم في صور شبان حسان مرد يخاف عليهم من القوم ثم قصد القوم إياهم بالسوء وضعف لوط من أن يدفعهم عنهم وهم ضيف له نازلون بداره.

وقوله: ﴿وقالوا لا تخف ولا تحزن﴾ أي لا خطر محتملا يهددك ولا مقطوعا يقع عليك فإن الخوف إنما هو في المكروه الممكن والحزن في المكروه الواقع.

وقوله: ﴿إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين﴾ أي الباقين في العذاب تعليل لنفي الخوف والحزن.

قوله تعالى: ﴿إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون﴾ بيان لما يشير إليه قوله: ﴿إنا منجوك وأهلك﴾ من العذاب، والرجز العذاب.

قوله تعالى: ﴿ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون﴾ ضمير التأنيث للقرية والترك الإبقاء أي أبقينا من القرية علامة واضحة لقوم يعقلون ليعتبروا بها فيتقوا الله وهي الآثار الباقية منها بعد خرابها بنزول العذاب.

وهي اليوم مجهولة المحل لا أثر منها وربما يقال: إن الماء غمرها بعد وهي بحر لوط، لكن الآية ظاهرة - كما ترى - أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن وأوضح منها قوله تعالى: ﴿وإنها لبسبيل مقيم﴾ الحجر: 76، وقوله: ﴿وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون﴾ الصافات: 138.

قوله تعالى: ﴿وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ يدعوهم إلى عبادة الله وهو التوحيد وإلى رجاء اليوم الآخر وهو الاعتقاد بالمعاد وأن لا يفسدوا في الأرض وكانت عمدة إفسادهم فيها - على ما ذكر في قصتهم في مواضع أخر - نقص الميزان والمكيال.

قوله تعالى: ﴿فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين﴾ الرجفة الاضطراب الشديد على ما ذكره الراغب، والجثم والجثوم في المكان القعود فيه أو البروك على الأرض وهو كناية عن الموت والمعنى: فكذبوا شعيبا فأخذهم الاضطراب الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم.

وقال في قصتهم في موضع آخر: ﴿وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾ هود: 94، ويستظهر من ذلك أنهم أهلكوا بالصيحة والرجفة.

قوله تعالى: ﴿وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم﴾ إلى آخر الآية غير السياق تفننا فبدأ بذكر عاد وثمود وكذا في الآية التالية بدأ بذكر قارون وفرعون وهامان بخلاف قصص الأمم المذكورين سابقا حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب.

وقوله: ﴿وعادا وثمود﴾ منصوبان بفعل مقدر تقديره واذكر عادا وثمود.

وقوله: ﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين﴾ تزيين الشيطان لهم أعمالهم كناية استعارية عن تحبيب أعمالهم السيئة إليهم وتأكيد تعلقهم بها وصده إياهم عن السبيل صرفهم عن سبيل الله التي هي سبيل الفطرة، ولذا قال بعضهم: إن المراد بكونهم مستبصرين أنهم كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة.

لكن الظاهر كما تقدم في تفسير قوله: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين﴾ البقرة: 213 أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوح (عليه السلام) وعاد وثمود كانوا بعد نوح فكونهم مستبصرين قبل انصدادهم عن السبيل هو كونهم يعيشون على عبادة الله ودين التوحيد وهو دين الفطرة.

قوله تعالى: ﴿وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين﴾ السبق استعارة كنائية من الغلبة، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فكلا أخذنا بذنبه﴾ إلى آخر الآية أي كل واحدة من الأمم المذكورين أخذناها بذنبها ثم أخذ في التفصيل فقال: ﴿فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا﴾ والحاصب الحجارة وقيل: الريح التي ترمي بالحصى وعلى الأول فهم قوم لوط، وعلى الثاني قوم عاد ﴿ومنهم من أخذته الصيحة﴾ وهم قوم ثمود وقوم شعيب ﴿ومنهم من خسفنا به الأرض﴾ وهو قارون ﴿ومنهم من أغرقنا﴾ وهم قوم نوح وفرعون وهامان وقومهما.

ثم عاد سبحانه إلى كافة القصص المذكورة وما انتهى إليه أمر تلك الأمم من الأخذ والعذاب فبين ببيان عام أن الذي أوقعهم فيما وقعوا لم يكن بظلم منه سبحانه بل بظلم منهم لأنفسهم فقال: ﴿وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ أي فيجازيهم الله على ظلمهم لأن الدار دار الفتنة والامتحان وهي السنة الإلهية التي لا معدل عنها فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه ومن ضل فعليها.

بحث روائي:

في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه معاني الكفر قال: والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة قال تعالى: ﴿وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا - مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة - يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا﴾ يعني يتبرأ بعضكم من بعض الحديث.

أقول: وروي هذا المعنى في التوحيد، عن علي (عليه السلام): في حديث طويل يجيب فيه عما سئل عنه من تهافت الآيات وفيه: والكفر في هذه الآية البراءة يقول: يتبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: ﴿إني كفرت بما أشركتمون من قبل﴾ وقول إبراهيم خليل الرحمن: ﴿كفرنا بكم﴾ أي تبرأنا.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن الخذف وهو قول الله: ﴿وتأتون في ناديكم المنكر﴾.

أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن أم هاني بنت أبي طالب ولفظ الحديث: قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله: ﴿وتأتون في ناديكم المنكر﴾ قال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل ويسخرون منهم.

وفي الكافي، بإسناده عن أبي زيد الحماد عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث نزول الملائكة على إبراهيم بالبشرى قال: فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط.

فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ فقال جبرئيل: لا.

قال: فإن كان فيها خمسون؟ قال: لا.

قال: فإن كان فيها ثلاثون؟ قال: لا.

قال: فإن كان فيها عشرون؟ قال: لا.

قال: فإن كان فيها عشرة؟ قال: لا.

قال: فإن كان فيها خمسة؟ قال: لا.

قال: فإن كان فيها واحد؟ قال: لا.

قال: فإن فيها لوطا؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.

قال الحسن بن علي (عليهما السلام): لا أعلم هذا القول إلا وهو يستبقيهم وهو قول الله عز وجل: ﴿يجادلنا في قوم لوط﴾.