الآيات 27-50

وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿27﴾ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴿28﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ ﴿29﴾ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴿30﴾ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿31﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴿32﴾ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿33﴾ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴿34﴾ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ﴿35﴾ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿36﴾ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴿37﴾ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴿39﴾ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ﴿41﴾ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿42﴾ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿43﴾ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴿44﴾ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴿45﴾ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ﴿46﴾ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ﴿47﴾ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ ﴿48﴾ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ﴿49﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿50﴾

بيان:

صدر الآيات متصل بحديث الرزق المذكور في قوله: ﴿الله لطيف بعباده يرزق من يشاء﴾ وقد سبقه قوله: ﴿له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ وقد تقدمت الإشارة إلى أن من الرزق نعمة الدين التي آتاها الله سبحانه عباده المؤمنين وبهذه العناية دخل الكلام فيه في الكلام على الوحي الذي سيقت لبيانه آيات السورة وانعطف عليه انعطافا بعد انعطاف.

ثم يذكر بعض آيات التوحيد المتعلقة بالرزق كخلق السماوات والأرض وبث الدواب فيهما والسفائن الجواري في البحر وإيتاء الأولاد الذكور والإناث أو إحداهما لمن يشاء وجعل من يشاء عقيما.

ثم يذكر أن من الرزق ما آتاهموه في الدنيا وهو متاعها الفاني بفنائها ومنه ما يخص المؤمنين في الآخرة وهو خير وأبقى، وينتقل الكلام من هنا إلى صفات المؤمنين وحسن عاقبتهم وإلى وصف ما يلقاه الظالمون وهم غيرهم في عقباهم من أهوال القيامة وعذاب الآخرة.

ووراء ذلك في خلال الآيات من إجمال بعض الأحكام والإنذار والتخويف والدعوة إلى الحق وحقائق المعارف شيء كثير.

قوله تعالى: ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء أنه بعباده خبير بصير﴾ القدر مقابل البسط معناه التضييق ومنه قوله السابق: ﴿يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ والقدر بفتح الدال وسكونها كمية الشيء وهندسته ومنه قوله: ﴿ولكن ينزل بقدر ما يشاء﴾ أو جعل الشيء على كمية معينة ومنه قوله: ﴿فقدرنا فنعم القادرون﴾ المرسلات: 23.

والبغي الظلم، وقوله: ﴿بعباده﴾ من وضع الظاهر موضع الضمير، والنكتة فيه الإشارة إلى بيان كونه خبيرا بصيرا بهم وذلك أنهم عباده المخلوقون له القائمون به فلا يكونون محجوبين عنه مجهولين له، وكذا قوله السابق: ﴿لعباده﴾ لا يخلو من إشارة إلى بيان إيتاء الرزق وذلك أنهم عباده ورزق العبد على مولاه.

ومعنى الآية: ولو وسع الله الرزق على عباده فأشبع الجميع بإيتائه لظلموا في الأرض - لما أن من طبع سعة المال الأشر والبطر والاستكبار والطغيان كما قال تعالى: ﴿إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى﴾ العلق: 7 - ولكن ينزل ما يشاء من الرزق بقدر وكمية معينة أنه بعباده خبير بصير فيعلم ما يستحقه كل عبد وما يصلحه من غنى أو فقر فيؤتيه ذلك.

ففي قوله: ﴿ولكن ينزل بقدر ما يشاء﴾ بيان للسنة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم، ولا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين ونماء رزقهم على ذلك فإن هناك سنة أخرى حاكمة على هذه السنة وهي سنة الابتلاء والامتحان، قال تعالى: ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾ التغابن: 15، وسنة أخرى هي سنة المكر والاستدراج، قال تعالى: ﴿سنستدرجهم من حيث لا يشعرون وأملي لهم إن كيدي متين﴾ الأعراف: 183.

فسنة الإصلاح بتقدير الرزق سنة ابتدائية يصلح بها حال الإنسان إلا أن يمتحنه الله كما قال: ﴿وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم﴾ آل عمران: 154 أو يغير النعمة ويكفر بها فيغير الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه، قال تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ الرعد: 11.

وكما أن إيتاء المال والبنين وسائر النعم الصورية من الرزق المقسوم كذلك المعارف الحقة والشرائع السماوية المنتهية إلى الوحي من حيث إنزالها ومن حيث الابتلاء بها والتلبس بالعمل بها من الرزق المقسوم.

فلو نزلت المعارف والأحكام عن آخرها دفعة واحدة - على ما لها من الإحاطة والشمول لجميع شئون الحياة الإنسانية - لشقت على الناس ولم يؤمن بها إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه أنزلها على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) تدريجا وعلى مكث وهيأ بذلك الناس بقبول بعضها لقبول بعض، قال تعالى: ﴿وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث﴾ الإسراء: 106.

وكذا المعارف العالية التي هي في بطون المعارف الساذجة الدينية لو لم يضرب عليها بالحجاب وبينت لعامة الناس على حد الظواهر المبينة لهم لم يتحملوها ودفعته أفهامهم إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه كلمهم في ذلك نوع تكليم يستفيد منه كل على قدر فهمه وسعة صدره كما قال في مثل ضربه في ذلك: ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها﴾ الرعد: 17.

وكذلك الأحكام والتكاليف الشرعية لو كلف بجميعها جميع الناس لتحرجوا منها ولم يتحملوها لكنه سبحانه قسمها بينهم حسب تقسيم الابتلاءات المقتضية لتوجه التكاليف المتنوعة بينهم.

فالرزق بالمعارف والشرائع من أي جهة فرض كالرزق الصوري مفروز بين الناس مقدر على حسب صلاح حالهم.

قوله تعالى: ﴿وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد﴾ القنوط اليأس، والغيث المطر، قال في مجمع البيان: الغيث ما كان نافعا في وقته، والمطر قد يكون نافعا وقد يكون ضارا في وقته وغير وقته.

ونشر الرحمة تفريق النعمة بين الناس بإنبات النبات وإخراج الثمار التي يكون سببها المطر.

وفي الآية انتقال من حديث الرزق إلى آيات التوحيد التي لها تعلق ما بالأرزاق، ويتلوها في هذا المعنى آيات، وتذييل الآية بالاسمين: الولي الحميد وهما من أسمائه تعالى الحسنى للثناء عليه في فعله الجميل.

قوله تعالى: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة﴾ إلخ، البث التفريق، ويقال: بث الريح التراب إذا أثاره، والدابة كل ما يدب على الأرض فيعم الحيوانات جميعا، والمعنى ظاهر.

وظاهر الآية أن في السماوات خلقا من الدواب كالأرض، وقول بعضهم: إن ما في السموات من دابة هي الملائكة يدفعه أن إطلاق الدواب على الملائكة غير معهود.

وقوله: ﴿وهو على جمعهم إذا يشاء قدير﴾ إشارة إلى حشر ما بث فيهما من دابة وقد عبر بالجمع لمقابلته البث الذي هو التفريق، ولا دلالة في قوله: ﴿على جمعهم﴾ حيث أتى بضمير أولي العقل على كون ما في السماوات من الدواب أولي عقل كالإنسان لقوله تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون﴾ الأنعام: 38.

والقدير من أسمائه تعالى الحسنى وهو الذي أركزت فيه القدرة وثبتت، قال الراغب: القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما، وإذا وصف الله بها فهي نفي العجز عنه، ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنى وإن أطلق عليه لفظا بل حقه أن يقال: قادر على كذا، ومتى قيل: هو قادر فعلى سبيل معنى التقييد، ولهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه.

والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى قال: ﴿إنه على ما يشاء قدير﴾ والمقتدر يقاربه نحو ﴿عند مليك مقتدر﴾ لكن قد يوصف به البشر، وإذا استعمل في الله فمعناه معنى القدير وإذا استعمل في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة.

وهو حسن غير أن في قوله: إن القدرة إذا وصف بها الله فهي نفي العجز عنه مساهلة ظاهرة فإن صفاته تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة لها معان إيجابية هي عين الذات لا معان سلبية حتى تكون الحياة بمعنى انتفاء الموت والعلم بمعنى انتفاء الجهل والقدرة بمعنى انتفاء العجز على ما يقوله الصابئون ولازمه خلو الذات عن صفات الكمال.

فالحق أن معنى قدرته تعالى كونه بحيث يفعل ما يشاء، ولازم هذا المعنى الإيجابي انتفاء مطلق العجز عنه تعالى.

قوله تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير﴾ المصيبة النائبة تصيب الإنسان كأنها تقصده، والمراد بما كسبت أيديكم المعاصي والسيئات، وقوله: ﴿ويعفوا عن كثير﴾ أي عن كثير مما كسبت أيديكم وهي السيئات.

والخطاب في الآية اجتماعي موجه إلى المجتمع غير منحل إلى خطابات جزئية ولازمه كون المراد بالمصيبة التي تصيبهم المصائب العامة الشاملة كالقحط والغلاء والوباء والزلازل وغير ذلك.

فيكون المراد أن المصائب والنوائب التي تصيب مجتمعكم ويصابون بها إنما تصيبكم بسبب معاصيكم والله يصفح عن كثير منها فلا يأخذ بها.

فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾ الروم: 41، وقوله: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا﴾ الأعراف: 96، وقوله: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ الرعد: 11، وغير ذلك من الآيات الدالة على أن بين أعمال الإنسان وبين النظام الكوني ارتباطا خاصا فلو جرى المجتمع الإنساني على ما يقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل لنزلت عليه الخيرات وفتحت عليه البركات ولو أفسدوا أفسد عليهم.

هذا ما تقتضيه هذه السنة الإلهية إلا أن ترد عليه سنة الابتلاء أو سنة الاستدراج والإملاء فينقلب الأمر، قال تعالى: ﴿ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا السراء والضراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون﴾ الأعراف: 95.

ويمكن أن يكون الخطاب في الآية عاما منحلا إلى خطابات الأفراد فيكون ما يصاب كل إنسان بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو عرضه وما يتعلق به مستندا إلى معصية أتى بها وسيئة عملها ويعفو الله عن كثير منها.

وكيف كان فالخطاب في الآية لعامة الناس من المؤمن والكافر وهو الذي يفيده السياق وتؤيده الآية التالية هذا أولا، والمراد بما كسبته الأيدي المعاصي والسيئات دون مطلق الأعمال، وهذا ثانيا، والمصائب التي تصيب إنما هي آثار الأعمال في الدنيا لما بين الأعمال وبينها من الارتباط والتداعي دون جزاء الأعمال وهذا ثالثا.

وبما ذكر يندفع أولا ما استشكل على عموم الآية بالمصائب النازلة على الأنبياء (عليهم السلام) وهم معصومون لا معصية لهم، المصائب النازلة على الأطفال والمجانين وهم غير مكلفين بتكليف فلا معصية لهم فيجب تخصيص الآية بمصائب الأنبياء ومصائب الأطفال والمجانين.

وجه الاندفاع أن إثبات المعصية لهم في قوله: ﴿فبما كسبت أيديكم﴾ دليل على أن الخطاب في الآية لمن يجوز عليه صدور المعصية فلا يشمل المعصومين وغير المكلفين من رأس فعدم شمول الآية لهم من باب التخصص دون التخصيص.

وثانيا ما قيل: إن مقتضى الآية مغفرة ذنوب المؤمنين جميعا فإنها بين ما يجزون عليها بإصابة المصائب وما يعفى عنها.

وجه الاندفاع أن الآية مسوقة لبيان ارتباط المصائب بالمعاصي وكون المعاصي ذوات آثار دنيوية سيئة منها ما يصيب الإنسان ولا يخطىء ومنها ما يعفى عنه فلا يصيب لأسباب صارفة وحكم مانعة كصلة الرحم والصدقة ودعاء المؤمن والتوبة وغير ذلك مما وردت به الأخبار، وأما جزاء الأعمال فالآية غير ناظرة إليه كما تقدم.

على أن الخطاب في الآية يعم المؤمن والكافر كما تقدمت الإشارة إليه، ولا معنى لتبعضها في الدلالة فتدل على المغفرة في المؤمن وعدمها في الكافر.

وبعد هذا كله فالوجه الأول هو الأوجه.

قوله تعالى: ﴿وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير﴾ معنى الآية ظاهر وهي باتصالها بما قبلها تفيد أنكم لا تعجزون الله حتى لا تصيبكم المصائب لذنوبكم وليس لكم من دونه من ولي يتولى أمركم فيدفع عنكم المصائب ولا نصير ينصركم ويعينكم على دفعها.

قوله تعالى: ﴿ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام﴾ ، الجواري جمع جارية وهي السفينة، والأعلام جمع علم وهو العلامة ويسمى به الجبل وشبهت السفائن بالجبال لعظمها وارتفاعها والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره﴾ إلخ، ضمير ﴿يشأ﴾ لله تعالى، وظل بمعنى صار، و﴿رواكد﴾ جمع راكدة وهي الثابتة في محلها والمعنى: إن يشأ الله يسكن الريح التي تجري بها الجواري فيصرن أي الجواري ثوابت على ظهر البحر.

وقوله: ﴿إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور﴾ أصل الصبر الحبس وأصل الشكر إظهار نعمة المنعم بقول أو فعل، والمعنى: أن فيما ذكر من أمر الجواري من كونها جارية على ظهر البحر بسبب جريان الرياح ناقلة للناس وأمتعتهم من ساحل إلى ساحل لآيات لكل من حبس نفسه عن الاشتغال بما لا يعنيه واشتغل بالتفكر في نعمه والتفكر في النعمة من الشكر.

وقيل: المراد بكل صبار شكور المؤمن لأن المؤمن لا يخلو من أن يكون في الضراء أو في السراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان من الشاكرين.

قوله تعالى: ﴿أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير﴾ الإيباق الإهلاك، وضمير التأنيث للجواري وضمير التذكير للناس، ويوبقهن ويعف معطوفان على ﴿يسكن﴾ والمعنى: إن يشأ يهلك الجواري بإغراقها بسبب ما كسبوا من السيئات ويعف عن كثير منها أي إن بعضها كاف في اقتضاء الإهلاك وإن عفا عن كثير منها.

وقيل: المراد بإهلاكها إهلاك أهلها إما مجازا أو بتقدير مضاف، و﴿يوبقهن﴾ بالعطف على ﴿يسكن﴾ في معنى يرسل الرياح العاصفة فيوبقهم، والمعنى: إن يشأ يسكن الريح إلخ، وإن يشأ يرسلها فيهلكهم بالإغراق وينج كثير منهم بالعفو، والمحصل: إن يشأ يسكن الريح أو يرسلها فيهلك ناسا بذنوبهم وينج ناسا بالعفو عنهم ولا يخفى وجه التكلف فيه.

وقيل: إن ﴿يعف﴾ عطف على قوله: ﴿يسكن الريح﴾ إلى قوله: ﴿بما كسبوا﴾ ولذا عطف بالواو لا بأو، والمعنى: إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الإعصاف وإن يشأ يعف عن كثير.

وهو في التكلف كسابقه.

قوله تعالى: ﴿ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص﴾ قيل: هو غاية معطوفة على أخرى محذوفة، والتقدير نحو من قولنا: ليظهر به قدرته ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من مفر ولا مخلص، وهذا كثير الورود في القرآن الكريم غير أن المعطوف فيما ورد فيه مقارن للأم الغاية كقوله: ﴿وليعلم الله الذين آمنوا﴾ آل عمران: 140.

وقوله: ﴿وليكون من الموقنين﴾ الأنعام: 75.

وجوز بعضهم أن يكون معطوفا على جزاء الشرط بتقدير إن نحو إن جئتني أكرمك وأعطيك كذا وكذا بنصب أعطيك، والمسألة نحوية خلافية فليرجع إلى ما ذكروه فيه.

قوله تعالى: ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا﴾ إلخ، تفصيل لما تقدم ذكره من الرزق وتقسيم له إلى ما عند الناس من رزق الدنيا الشامل للمؤمن والكافر وما عند الله من رزق الآخرة المختص بالمؤمنين، وفيه تخلص إلى ذكر صفات المؤمنين وذكر بعض ما يلقاه الظالمون يوم القيامة.

فقوله: ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا﴾ الخطاب للناس على ما يفيده السياق دون المشركين خاصة، والمراد بما أوتيتم من شيء جميع ما أعطيه للناس ورزقوه من النعيم، وإضافة المتاع إلى الحياة للإشارة إلى انقطاعه وعدم ثباته ودوامه، والمعنى: فكل شيء أعطيتموه مما عندكم متاع تتمتعون به في أيام قلائل.

وقوله: ﴿وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون﴾ المراد بما عند الله ما ادخره الله ثوابا ليثيب به المؤمنين، واللام في ﴿للذين آمنوا﴾ للملك والظرف لغو، وقيل اللام متعلق بقوله: ﴿أبقى﴾ والأول أظهر، وكون ما عند الله خيرا لكونه خالصا من الألم والكدر وكونه أبقى لكونه أدوم غير منقطع الآخر.

قوله تعالى: ﴿والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون﴾ عطف على قوله: ﴿الذين آمنوا﴾ والآية وآيتان بعدها تعد صفات المؤمنين الحسنة وقول بعضهم إنه كلام مستأنف لا يساعد عليه السياق.

وكبائر الإثم المعاصي الكبيرة التي لها آثار سوء عظيمة وقد عد تعالى منها شرب الخمر والميسر، قال تعالى: ﴿قل فيهما إثم كبير﴾ البقرة: 219، والفواحش جمع فاحشة وهي المعصية الشنيعة النكراء وقد عد تعالى منها الزنا واللواط قال: ﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة﴾ الإسراء: 32، وقال حاكيا عن لوط: ﴿أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون﴾ النمل: 54.

وقوله: ﴿يجتنبون كبائر الإثم والفواحش﴾ وهو في سورة مكية إشارة إلى إجمال ما سيفصل من تشريع تحريم كبائر المعاصي والفواحش.

وفي قوله: ﴿وإذا ما غضبوا هم يغفرون﴾ إشارة إلى العفو عند الغضب وهو من أخص صفات المؤمنين ولذا عبر عنه بما عبر ولم يقل: ويغفرون إذا غضبوا ففي الكلام جهات من التأكيد وليس قصرا للمغفرة عند الغضب فيهم.

قوله تعالى: ﴿والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة﴾ إلخ، الاستجابة هي الإجابة واستجابتهم لربهم إجابتهم لما يكلفهم به من الأعمال الصالحة - على ما يفيده السياق - وذكر إقامة الصلاة بعدها من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشرفه.

على أن الظاهر أن الآيات مكية ولم يشرع يومئذ أمثال الزكاة والخمس والصوم والجهاد، وفي قوله: ﴿والذين استجابوا لربهم﴾ من الإشارة إلى الإجمال الأعمال الصالحة المشرعة نظير ما تقدم في قوله: ﴿والذين يجتنبون﴾ إلخ، ونظير الكلام جار في الآيات التالية.

وقوله: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ قال الراغب: والتشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه، قال تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر﴾ والشورى الأمر الذي يتشاور فيه، قال تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ انتهى.

فالمعنى: الأمر الذي يعزمون عليه شورى بينهم يتشاورون فيه، ويظهر من بعضهم أنه مصدر، والمعنى: وشأنهم المشاورة بينهم.

وكيف كان ففيه إشارة إلى أنهم أهل الرشد وإصابة الواقع يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول فالآية قريبة المعنى من قول الله تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾ الزمر: 18.

وقوله: ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ إشارة إلى بذل المال لمرضاة الله.

قوله تعالى: ﴿والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾ قال الراغب: الانتصار والاستنصار طلب النصرة.

فالمعنى: الذين إذا أصاب الظلم بعضهم طلب النصرة من الآخرين وإذا كانوا متفقين على الحق كنفس واحدة فكان الظلم أصاب جميعهم فطلبوا المقاومة قباله وأعدوا عليه النصرة.

وعن بعضهم أن الانتصار بمعنى التناصر نظير اختصم وتخاصم واستبق وتسابق والمعنى عليه ظاهر.

وكيف كان فالمراد مقاومتهم لرفع الظلم فلا ينافي المغفرة عند الغضب المذكورة في جملة صفاتهم فإن المقاومة دون الظلم وسد بابه عن المجتمع لمن استطاعه والانتصار والتناصر لأجله من الواجبات الفطرية، قال تعالى: ﴿وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر﴾ الأنفال: 72، وقال: ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ الحجرات: 9.

قوله تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ إلى آخر الآية بيان لما جعل للمنتصر في انتصاره وهو أن يقابل الباغي بما يماثل فعله وليس بظلم وبغي.

قيل: وسمي الثانية وهي ما يأتي بها المنتصر سيئة لأنها في مقابلة الأولى كما قال تعالى: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ البقرة: 194، وقال الزمخشري: كلتا الفعلتين: الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به ففيه رعاية لحقيقة معنى اللفظ وإشارة إلى أن مجازاة السيئة بمثلها إنما تحمد بشرط المماثلة من غير زيادة.

وقوله: ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ وعد جميل على العفو والإصلاح، والظاهر أن المراد بالإصلاح إصلاحه أمره فيما بينه وبين ربه، وقيل: المراد إصلاحه ما بينه وبين ظالمه بالعفو والإغضاء.

وقوله: ﴿إنه لا يحب الظالمين﴾ قيل: فيه بيان أنه تعالى لم يرغب المظلوم في العفو عن الظالم لميله إلى الظالم أو لحبه إياه ولكن ليعرض المظلوم بذلك لجزيل الثواب، ولحبه تعالى الإحسان والفضل.

وقيل: المراد أنه لا يحب الظالم في قصاص وغيره بتعديه عما هو له إلى ما ليس هو له.

والوجهان وإن كانا حسنين في نفسهما لكن سياق الآية لا يساعد عليهما وخاصة مع حيلولة قوله: ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ بين التعليل والمعلل.

ويمكن أيضا أن يكون قوله: ﴿إنه لا يحب الظالمين﴾ تعليلا لأصل كون جزاء السيئة سيئة من غير نظر إلى المماثلة والمساواة.

قوله تعالى: ﴿ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - إلى قوله - من عزم الأمور﴾ ضمير ﴿ظلمه﴾ راجع إلى المظلوم.

والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله.

الآيات الثلاث تبيين ورفع لبس من قوله في الآية السابقة: ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ فمن الجائز أن يتوهم المظلوم أن في ذلك إلغاء لحق انتصاره فبين سبحانه بقوله أولا: ﴿ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل﴾ أن لا سبيل على المظلومين ولا مجوز لإبطال حقهم في الشرع الإلهي، وإرجاع ضمير الإفراد إلى الموصول أولا باعتبار لفظه، وضمير الجمع ثانيا باعتبار معناه.

وبين بقوله ثانيا: ﴿إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق﴾ إن السبيل كله على الظالمين في الانتقام منهم للمظلومين، وأكد ذلك ذيلا بقوله: ﴿أولئك لهم عذاب أليم﴾.

وبين بقوله ثالثا: ﴿ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور﴾ إن الدعوة إلى الصبر والعفو ليست إبطالا لحق الانتصار وإنما هي إرشاد إلى فضيلة هي من أعظم الفضائل فإن في المغفرة الصبر الذي هو من عزم الأمور، وقد أكد الكلام بلام القسم أولا وباللام في خبر إن ثانيا لإفادة العناية بمضمونه.

قوله تعالى: ﴿ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده﴾ إلخ، لما ذكر المؤمنين بأوصافهم وأن لهم عند الله رزقهم المدخر لهم وفيه سعادة عقباهم التي هداهم الله إليها التفت إلى غيرهم وهم الظالمون الآيسون من تلك الهداية الموصلة إلى السعادة المحرومون من هذا الرزق الكريم فبين أن الله سبحانه أضلهم لكفرهم وتكذيبهم فلا ينتهون إلى ما عنده من الرزق ولا يسعدهم به وليس لهم من دونه من ولي حتى يتولى أمرهم ويرزقهم ما حرمهم الله من الرزق، فهم صفر الأكف يتمنون عند مشاهدة العذاب الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيكونوا أمثال المؤمنين.

فقوله: ﴿ومن يضلل الله﴾ إلخ، من قبيل وضع السبب وهو إضلال الله لهم وعدم ولي آخر يتولى أمرهم فيهديهم ويرزقهم موضع المسبب وهو الهداية والرزق.

وقوله: ﴿وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل﴾ إشارة إلى تمنيهم الرجوع إلى الدنيا بعد اليأس عن السعادة ومشاهدة العذاب.

و﴿ترى﴾ خطاب عام وجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه راء ومعناه وترى ويرى كل من هو راء، وفيه إشارة إلى أنهم يتمنون ذلك على رءوس الأشهاد، والمرد هو الرد.

قوله تعالى: ﴿وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي﴾ ضمير ﴿عليها﴾ للنار للدلالة المقام عليها وخفي الطرف ضعيفه وإنما ينظر من طرف خفي.

إلى المكاره المهولة من ابتلي بها فهو لا يريد أن ينصرف فيغفل عنها ولا يجترىء أن يمتلىء بها بصره كالمبصور ينظر إلى السيف، والباقي ظاهر.

وقوله: ﴿وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة﴾ أي إن الخاسرين كل الخسران وبحقيقته هم الذين خسروا أنفهسم بحرمانها عن النجاة وأهليهم بعدم الانتفاع بهم يوم القيامة.

وقيل أهلوهم أزواجهم من الحور وخدمهم في الجنة لو آمنوا ولا يخلو من وجه نظرا إلى آيات وراثة الجنة.

وهذا القول المنسوب إلى المؤمنين إنما يقولونه يوم القيامة - والتعبير بلفظ الماضي لتحقق الوقوع - لا في الدنيا كما يظهر من بعضهم فليس لاستناده تعالى إلى مقالة المؤمنين في الدنيا وجه في مثل المقام، وليس القائلون به جميع المؤمنين كائنين من كانوا وإنما هم الكاملون منهم المأذون لهم في الكلام الناطقون بالصواب محضا كأصحاب الأعراف وشهداء الأعمال قال تعالى: ﴿يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه﴾ هود: 105.

وقال: ﴿لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا﴾ النبأ: 38.

فلا يصغى إلى ما قيل: إن القول المذكور إنما نسب إلى المؤمنين للدلالة على ابتهاجهم بما رزقوا يومئذ من الكرامة ونجوا من الخسران وإلا فالقول قول كل من يتأتى منه القول من أهل الجمع كما أن الرؤية المذكورة قبله رؤية كل من تتأتى منه الرؤية.

وقوله: ﴿ألا إن الظالمين في عذاب مقيم﴾ تسجيل عليهم بالعذاب وأنه دائم غير منقطع، وجوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله﴾ إلخ، هذا التعبير أعني قوله: ﴿وما كان لهم﴾ إلخ، دون أن يقال: وما لهم من ولي كما قيل أولا للدلالة على ظهور بطلان دعواهم ولاية أوليائهم في الدنيا وأن ذلك كان باطلا من أول الأمر.

وقوله: ﴿ومن يضلل الله فما له من سبيل﴾ صالح لتعليل صدر الآية وهو كالنتيجة لجميع ما تقدم من الكلام في حال الظالمين في عقباهم، ونوع انعطاف إلى ما سبق من حديث تشريع الشريعة والسبيل بالوحي.

فهو كناية عن أنه لا سبيل إلى السعادة إلا سبيل الله الذي شرعه لعباده من طريق الوحي والرسالة فمن أضله عن سبيله لكفره وتكذيبه بسبيله فلا سبيل له يهتدي به إلى سعادة العقبى والتخلص من العذاب والهلاك.

قوله تعالى: ﴿استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير﴾ دعوة وإنذار بيوم القيامة المذكور في الآيات السابقة على ما يعطيه السياق، وقول بعضهم: إن المراد باليوم يوم الموت غير وجيه.

وفي قوله: ﴿لا مرد له من الله﴾ ﴿لا﴾ لنفي الجنس و﴿مرد﴾ اسمه و﴿له﴾ خبره و﴿من الله﴾ حال من ﴿مرد﴾ والمعنى، يوم لا رد له من قبل الله أي أنه مقضي محتوم لا يرده الله البتة فهو في معنى ما تكرر في كلامه تعالى من وصف يوم القيامة بأنه لا ريب فيه.

وقد ذكروا للجملة أعني قوله: ﴿يوم لا مرد له من الله﴾ وجوها أخر من الإعراب لا جدوى في نقلها.

وقوله: ﴿ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير﴾ الملجأ الملاذ الذي يلتجأ إليه والنكير - كما قيل - مصدر بمعنى الإنكار، والمعنى: ما لكم من ملاذ تلتجئون إليه من الله وما لكم من إنكار لما صدر منكم لظهور الأمر من كل جهة.

قوله تعالى: ﴿فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ﴾ عدول من خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لإعلام أن ما حمله من الأمر إنما هو التبليغ لا أزيد من ذلك فقد أرسل مبلغا لدين الله إن عليه إلا البلاغ ولم يرسل حفيظا عليهم مسئولا عن إيمانهم وطاعتهم حتى يمنعهم عن الإعراض ويتعب نفسه لإقبالهم عليه.

قوله تعالى: ﴿وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور﴾ الفرح بالرحمة كناية عن الاشتغال بالنعمة ونسيان المنعم، والمراد بالسيئة المصيبة التي تسوء الإنسان إذا أصابته، وقوله: ﴿فإن الإنسان كفور﴾ من وضع الظاهر موضع الضمير، والنكتة فيه تسجيل الذم واللوم عليه بذكره باسمه.

وفي الآية استشعار بإعراضهم وتوبيخهم بعنوان الإنسان المشتغل بالدنيا فإنه بطبعه حليف الغفلة إن ذكر بنعمة يؤتاها صرفه الفرح بها عن ذكر الله، وإن ذكر بسيئة تصيبه بما قدمت يداه شغله الكفران عن ذكر ربه فهو في غفلة عن ذكر ربه في نعمة كانت أو في نقمة فكاد أن لا تنجح فيه دعوة ولا تنفع فيه موعظة.

قوله تعالى: ﴿لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء﴾ إلى آخر الآيتين، للآيتين نوع اتصال بما تقدم من حديث الرزق لما أن الأولاد المذكورين فيهما من قبيل الرزق.

وقيل: إنهما متصلتان بالآية السابقة حيث ذكر فيها إذاقة الرحمة وإصابة السيئة وإن الإنسان يفرح بالرحمة ويكفر في السيئة فذكر تعالى في هاتين الآيتين أن ملك السماوات والأرض لله سبحانه يخلق ما يشاء فليس لمن يذوق رحمته أن يفرح بها ويشتغل به ولا لمن أصابته السيئة أن يكفر ويعترض بل له الخلق والأمر فعلى المرحوم أن يشكر وعلى المصاب أن يرجع إليه.

ويبعده أنه تعالى لم ينسب السيئة في الآية السابقة إلى نفسه بل إلى تقديم أيديهم فلا يناسبه نسبة القسمين جميعا في هذه الآية إلى مشيته ودعوتهم إلى التسليم لها.

وكيف كان فقوله: ﴿لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء﴾ فيه قصر الملك والسلطنة فيه تعالى على جميع العالم وأن الخلق منوط بمشيته من غير أن يكون هناك أمر يوجب عليه المشية أو يضطره على الخلق.

وقوله: ﴿يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور﴾ الإناث جمع أنثى والذكور والذكران جمعا ذكر، وظاهر التقابل أن المراد هبة الإناث فقط لمن يشاء وهبة الذكور فقط لمن يشاء ولذلك كررت المشية، قيل: وجه تعريف الذكور أنهم المطلوبون لهم المعهودون في أذهانهم وخاصة العرب.

وقوله: ﴿أو يزوجهم ذكرانا وإناثا﴾ أي يجمع بينهم حال كونهم ذكرانا وإناثا معا فالتزويج في اللغة الجمع، وقوله: ﴿ويجعل من يشاء عقيما﴾ أي لا يلد ولا يولد له، ولما كان هذا أيضا قسما برأسه قيده بالمشية كالقسمين الأولين، وأما قسم الجمع بين الذكران والإناث فإنه بالحقيقة جمع بين القسمين الأولين فاكتفى بما ذكر من المشية فيهما.

وقوله: ﴿إنه عليم قدير﴾ تعليل لما تقدم أي أنه عليم لا يزيد ما يزيد لجهل قدير لا ينقص ما ينقص عن عجز.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن علي قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة: ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض﴾ وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا فتمنوا الدنيا.

أقول: والآية على هذا مدنية لكن الرواية أشبه بالتطبيق منها بسبب النزول.

وفي تفسير القمي، قوله: ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض﴾ قال الصادق (عليه السلام): لو فعل لفعلوا ولكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض واستعبدهم بذلك ولو جعلهم أغنياء لبغوا ﴿ولكن ينزل بقدر ما يشاء﴾ مما يعلم أنه يصلحهم في دينهم ودنياهم ﴿إنه بعباده خبير بصير﴾.

وفي المجمع، روى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل عن الله جل ذكره: أن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو صححته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده، وذلك أني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم.

وفي تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي حمزة عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إني سمعته يقول: إني أحدثكم بحديث ينبغي لكل مسلم أن يعيه.

ثم أقبل علينا فقال: ما عاقب الله عبدا مؤمنا في هذه الدنيا إلا كان الله أحكم وأجود وأمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة.

ثم قال: وقد يبتلي الله عز وجل المؤمن بالبلية في بدنه أو ماله أو ولده أو أهله ثم تلا هذه الآية: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم - ويعفوا عن كثير﴾ وحثا بيده ثلاث مرات.

وفي الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أما أنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب وذلك قول الله عز وجل في كتابه: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير﴾ قال: ثم قال: وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به.

أقول: وروي هذا المعنى بطريق آخر عن مسمع عنه (عليه السلام)، وروي مثله في الدر المنثور، عن الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظه: لما نزلت هذه الآية ﴿وما أصابكم من مصيبة - فبما كسبت أيديكم﴾ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.

وفي الكافي، أيضا بإسناده عن علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عز وجل: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾ أرأيت ما أصاب عليا وأهل بيته (عليهم السلام) من بعده أهو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتوب إلى الله ويستغفر في كل يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها.

وفي المجمع، روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خير آية في كتاب الله هذه الآية.

يا على ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب، وما عفا إله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده.

أقول: ورواه في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن علي (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفحوى الرواية أن قوله تعالى: ﴿وما أصابكم﴾ الآية خاص بالمؤمنين والخطاب لهم وأن مفاده غفران ذنوبهم كافة فلا يعاقبون عليها في برزخ ولا قيامة لأن الآية تقصر الذنوب في مأخوذ به بإصابة المصيبة ومعفو عنه ومفاد الرواية نفي المؤاخذة بعد المؤاخذة ونفي المؤاخذة بعد العفو.

فيشكل الأمر أولا: من جهة ما عرفت أن الآية في سياق يفيد عموم الخطاب للمؤمن والكافر.

وثانيا: من جهة معارضة الرواية لما ورد في أخبار متكاثرة لعلها تبلغ حد التواتر المعنوي من أن من المؤمنين من يعذب في قبره أو في الآخرة.

وثالثا: من جهة مخالفة الرواية لظواهر ما دلت من الآيات على أن موطن جزاء الأعمال هي الدار الآخرة كقوله تعالى: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ النحل: 61، وغيره من الآيات الدالة على أن كل مظلمة ومعصية مأخوذ بها وأن موطن الأخذ هو ما بعد الموت وفي القيامة إلا ما غفرت بالتوبة أو تذهب بحسنة أو بشفاعة في الآخرة أو نحو ذلك.

على أن الآية أعني قوله: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير﴾ - كما تقدمت الإشارة إليه - غير ظاهرة في كون أصابة المصيبة جزاء للعمل ولا في كون العفو بمعنى إبطال الجزاء وإنما هو الأثر الدنيوي للسيئة يصيب مرة ويمحى أخرى.

فالحري أن تحمل الرواية - لو قبلت - على الأخذ بحسن الظن بالله سبحانه.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي إلى الرشد.

وفي تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز وجل: ﴿يهب لمن يشاء إناثا﴾ يعني ليس معهن ذكور ﴿ويهب لمن يشاء الذكور﴾ يعني ليس معهم أنثى ﴿أو يزوجهم ذكرانا وإناثا﴾ أي يهب لمن يشاء ذكرانا وإناثا جميعا يجمع له البنين والبنات أي يهبهم جميعا لواحد.

وفي التهذيب، بإسناده عن الحسين بن علوان عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال: يا رسول الله إن أبي عمد إلى مملوك لي فأعتقه كهيئة المضرة لي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت ومالك من هبة الله لأبيك أنت سهم من كنانته ﴿يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور - أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما﴾ جازت عتاقة أبيك يتناول والدك من مالك وبدنك وليس لك أن تتناول من ماله ولا من بدنه شيئا إلا بإذنه.

أقول: وهذا المعنى مروي عن الرضا (عليه السلام) في جواب مسائل محمد بن سنان في العلل ومروي من طرق أهل السنة عن عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).