الآيات 192-227
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿192﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿193﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿194﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴿195﴾ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴿196﴾ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿197﴾ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ﴿198﴾ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿199﴾ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴿200﴾ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿201﴾ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿202﴾ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ﴿203﴾ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿204﴾ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ﴿205﴾ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿206﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴿207﴾ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ﴿208﴾ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿209﴾ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴿210﴾ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴿211﴾ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴿212﴾ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴿213﴾ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴿214﴾ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿215﴾ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴿216﴾ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴿217﴾ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ﴿218﴾ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴿219﴾ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يمُ ﴿220﴾ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ﴿221﴾ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿222﴾ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿223﴾ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿224﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴿225﴾ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴿226﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴿227﴾
بيان:
تشير الآيات إلى ما هو كالنتيجة المستخرجة من القصص السبع السابقة ويتضمن التوبيخ والتهديد لكفار الأمة.
وفيها دفاع عن نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاحتجاج عليه بذكره في زبر الأولين وعلم علماء بني إسرائيل به، ودفاع عن كتابه بالاحتجاج على أنه ليس من إلقاءات الشياطين ولا من أقاويل الشعراء.
قوله تعالى: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين﴾ الضمير للقرآن، وفيه رجوع إلى ما في صدر السورة من قوله: ﴿تلك آيات الكتاب المبين﴾ وتعقيب لحديث كفرهم به كما في قوله بعد ذلك: ﴿وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين، فقد كذبوا به﴾ الآية.
والتنزيل والإنزال بمعنى واحد، غير أن الغالب على باب الإفعال الدفعة وعلى باب التفعيل التدريج، وأصل النزول في الأجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه وفي غير الأجسام بما يناسبه.
وتنزيله تعالى إخراجه الشيء من عنده إلى موطن الخلق والتقدير وقد سمى نفسه بالعلي العظيم والكبير المتعال ورفيع الدرجات والقاهر فوق عباده فيكون خروج الشيء بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق والتقدير - وإن شئت فقل: إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة - تنزيلا منه تعالى له.
وقد استعمل الإنزال والتنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية كقوله تعالى: ﴿يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم﴾ الأعراف: 26، وقوله: ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ الزمر: 6، وقوله: ﴿وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد﴾ الحديد: 25، وقوله: ﴿ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم﴾ البقرة: 105، وقد أطلق القول في قوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر: 21.
ومن الآيات الدالة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى: ﴿إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ الزخرف: 4.
وقد أضيف التنزيل إلى رب العالمين للدلالة على توحيد الرب تعالى لما تكرر مرارا أن المشركين إنما كانوا يعترفون به تعالى بما أنه رب الأرباب ولا يرون أنه رب العالمين.
قوله تعالى: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين﴾ المراد بالروح الأمين هو جبرئيل ملك الوحي بدليل قوله: ﴿من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله﴾ البقرة: 97 وقد سماه في موضع آخر بروح القدس: ﴿قل نزله روح القدس من ربك بالحق﴾ النحل: 102، وقد تقدم في تفسير سورتي النحل والإسراء ما يتعلق بمعنى الروح من الكلام.
وقد وصف الروح بالأمين للدلالة على أنه مأمون في رسالته منه تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يغير شيئا من كلامه تعالى بتبديل أو تحريف بعمد أو سهو أو نسيان كما أن توصيفه في آية أخرى بالقدس يشير إلى ذلك.
وقوله: ﴿نزل به الروح﴾ الباء للتعدية أي نزله الروح الأمين وأما قول من قال: إن الباء للمصاحبة والمعنى نزل معه الروح فلا يلتفت إليه لأن العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن.
والضمير في ﴿نزل به﴾ للقرآن بما أنه كلام مؤلف من ألفاظ لها معانيها الحقة فإن ألفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى كما أن معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله: ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾ القيامة: 18، وقوله: ﴿تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق﴾ آل عمران: 108، الجاثية: 6، إلى غير ذلك.
فلا يعبأ بقول من قال: إن الذي نزل به الروح الأمين إنما هو معاني القرآن الكريم ثم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعبر عنها بما يطابقها ويحكيها من الألفاظ بلسان عربي.
وأسخف منه قول من قال: إن القرآن بلفظه ومعناه من منشئات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمى الروح الأمين إلى مرتبة منها تسمى القلب.
والمراد بالقلب المنسوب إليه الإدراك والشعور في كلامه تعالى هو النفس الإنسانية التي لها الإدراك وإليها تنتهي أنواع الشعور والإرادة دون اللحم الصنوبري المعلق عن يسار الصدر الذي هو أحد الأعضاء الرئيسة كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالى، كقوله: ﴿وبلغت القلوب الحناجر﴾ الأحزاب: 10، أي الأرواح، وقوله: ﴿فإنه آثم قلبه﴾ البقرة: 283، أي نفسه إذ لا معنى لنسبة الإثم إلى العضو الخاص.
ولعل الوجه في قوله: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾ دون أن يقول: عليك هو الإشارة إلى كيفية تلقيه (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن النازل عليه، وأن الذي كان يتلقاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية.
فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى ويسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع كما روي أنه كان يأخذه شبه إغماء يسمى برجاء الوحي.
فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى الشخص ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما.
ولو كان رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره فكان سائر الناس يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه والنقل القطعي يكذب ذلك فكثيرا ما كان يأخذه برجاء الوحي وهو بين الناس فيوحى إليه ومن حوله لا يشعرون بشيء ولا يشاهدون شخصا يكلمه ولا كلاما يلقى إليه.
والقول بأن من الجائز أن يصرف الله تعالى حواس غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسه وهي الأمور الغيبية المستورة عنا.
هدم لبنيان التصديق العلمي إذ لو جاز مثل هذا الخطأ العظيم على الحواس وهي مفتاح العلوم الضرورية والتصديقات البديهية وغيرها لم يبق وثوق على شيء من العلوم والتصديقات.
على أن هذا الكلام مبني على أصالة الحس وأن لا وجود إلا لمحسوس وهو من أفحش الخطأ وقد تقدم في تفسير سورة مريم كلام في معنى تمثل الملك نافع في المقام.
وربما قيل في وجه تخصيص القلب بالإنزال إنه لكونه هو المدرك المكلف دون الجسد وإن كان يتلقى الوحي بتوسيط الأدوات البدنية من السمع والبصر، وقد عرفت ما فيه.
وربما قيل: لما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جهتان: جهة ملكية يستفيض بها، وجهة بشرية يفيض بها، جعل الإنزال على روحه لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين، وللإشارة إلى ذلك قيل.
﴿على قلبك﴾ ولم يقل: عليك مع كونه أخصر.
وهذا أيضا مبني على مشاركة الحواس والقوى البدنية في تلقي الوحي فيرد عليه ما قدمناه.
وذكر جمع من المفسرين أن المراد بالقلب هو العضو الخاص البدني وأن الإدراك كيفما كان من خواصه.
فمنهم من قال: إن جعل القلب متعلق الإنزال مبني على التوسع لأن الله تعالى يسمع القرآن جبرئيل بخلق الصوت فيحفظه وينزل به على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرؤه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه فكأنه نزل به على قلبه.
ومنهم من قال: إن تخصيص القلب بالإنزال لأن المعاني الروحانية تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منها إلى القلب لما بينهما من التعلق ثم تنتقل منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة.
ومنهم من قال: إن تخصيصه به للإشارة إلى كمال تعقله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يعتبر الوسائط من سمع وبصر وغيرهما.
ومنهم من قال: إن ذلك للإشارة إلى صلاح قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم به صلاح سائر أجزائه وأعضائه فإن القلب رئيس سائر الأعضاء وملكها وإذا صلح الملك صلحت رعيته.
ومنهم من قال: إن ذلك لأن الله تعالى جعل لقلب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمعا وبصرا مخصوصين يسمع ويبصر بهما تمييزا لشأنه من غيره كما يشعر به قوله تعالى: ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى﴾ النجم: 11.
وهذه الوجوه مضافا على اشتمال أكثرها على المجازفة مبنية على قياس هذه الأمور الغيبية على ما عندنا من الحوادث المادية وإجراء حكمها فيها وقد بلغ من تعسف بعضهم أن قال: إن معنى إنزال الملك القرآن أن الله ألهمه كلامه وهو في السماء وعلمه قراءته ثم الملك أداه في الأرض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان: إحداهما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية فأخذه من الملك، وثانيتهما أن الملك انخلع إلى صورة البشرية حتى يأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأولى أصعب الحالين.
وليت شعري ما الذي تصوره من انخلاع الإنسان من صورته إلى صورة الملكية وصيرورته ملكا ثم عوده إنسانا ومن انخلاع الملك إلى صورة الإنسانية وقد فرض لكل منهما هوية مغايرة للآخر لا رابطة بين أحدهما والآخر ذاتا وأثرا وفي كلامه مواضع أخرى للنظر غير خفية على من تأمل فيه.
وللبحث تتمة لعل الله سبحانه يوفقنا لاستيفائها بإيراد كلام جامع في الملك وآخر في الوحي.
وقوله: ﴿لتكون من المنذرين﴾ أي من الداعين إلى الله سبحانه بالتخويف من عذابه وهو المراد بالإنذار في عرف القرآن دون النبي أو الرسول بالخصوص، قال تعالى في مؤمني الجن: ﴿وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين﴾ الأحقاف: 29، وقال في المتفقهين من المؤمنين: ﴿ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم﴾ البراءة: 122.
وإنما ذكر إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) غاية لإنزال القرآن دون نبوته أو رسالته لأن سياق آيات السورة سياق التخويف والتهديد.
وقوله ﴿بلسان عربي مبين﴾ أي ظاهر في عربيته أو مبين للمقاصد تمام البيان والجار والمجرور متعلق بنزل أي أنزله بلسان عربي مبين.
وجوز بعضهم أن يكون متعلقا بقوله: ﴿منذرين﴾ والمعنى أنزله على قلبك لتدخل في زمرة الأنبياء من العرب وقد ذكر منهم في القرآن هود وصالح وإسماعيل وشعيب (عليهما السلام) وأول الوجهين أحسنهما.
قوله تعالى: ﴿وإنه لفي زبر الأولين﴾ الضمير للقرآن أو نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والزبر جمع زبور وهو الكتاب والمعنى وإن خبر القرآن أو خبر نزوله عليك في كتب الماضين من الأنبياء.
وقيل: الضمير لما في القرآن من المعارف الكلية أي إن المعارف القرآنية موجودة مذكورة في كتب الأنبياء الماضين.
وفيه أولا: أن المشركين ما كانوا يؤمنون بالأنبياء وكتبهم حتى يحتج عليهم بما فيها من التوحيد والمعاد وغيرهما، وهذا بخلاف ذكر خبر القرآن ونزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب الأولين فإنه حينئذ يكون ملحمة تضطر النفوس إلى قبولها.
وثانيا: أنه لا يلائم الآية التالية.
قوله تعالى: ﴿أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ ضمير ﴿أن يعلمه﴾ لخبر القرآن أو خبر نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي أ ولم يكن علم علماء بني إسرائيل بخبر القرآن أو نزوله عليك على سبيل البشارة في كتب الأنبياء الماضين آية للمشركين على صحة نبوتك وكانت اليهود تبشر بذلك وتستفتح على العرب به كما مر في قوله تعالى: ﴿وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا﴾ البقرة: 89.
وقد أسلم عدة من علماء اليهود في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعترفوا بأنه مبشر به في كتبهم والسورة من أوائل السور المكية النازلة قبل الهجرة ولم تبلغ عداوة اليهود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلغها بعد الهجرة وكان من المرجو أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحق ولو بوجه كلي.
قوله تعالى: ﴿ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين﴾ قال في المفردات، العجمة خلاف الإبانة والإعجام الإبهام - إلى أن قال - والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم، والأعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم، ومنه قيل للبهيمة عجماء والأعجمي منسوب إليه قوله تعالى: ﴿ولو نزلناه على بعض الأعجمين﴾ على حذف الياءات.
ومقتضى ما ذكره - كما ترى - أن أصل الأعجمين الأعجميين ثم حذفت ياء النسبة وبه صرح بعض آخر، وذكر بعضهم أن الوجه أن أعجم مؤنثه عجماء وأفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكن الكوفيين من النحاة يجوزون ذلك وظاهر اللفظ يؤيد قولهم فلا موجب للقول بالحذف.
وكيف كان فظاهر السياق اتصال الآيتين بقوله: ﴿بلسان عربي مبين﴾ فتكونان في مقام التعليل له ويكون المعنى: نزلناه عليك بلسان عربي ظاهر العربية واضح الدلالة ليؤمنوا به ولا يتعللوا بعدم فهمهم مقاصده ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين وردوه بعدم فهم مقاصده.
فيكون المراد بنزوله على بعض الأعجمين نزوله أعجميا وبلسانه، والآيتان والتي بعدهما في معنى قوله تعالى: ﴿ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى﴾ حم السجدة: 44.
وقال بعضهم: إن المعنى ولو نزلناه قرآنا عربيا كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة.
قال: وأما قول بعضهم: إن المعنى ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد.
وفيه أن اتصال الآيتين بقوله: ﴿بلسان عربي مبين﴾ أقرب إليهما من اتصالهما بسياق تمادي الكفار في كفرهم وجحودهم وقد عرفت توضيحه.
ويمكن أن يورد على الوجه السابق أن الضمير في قوله: ﴿ولو نزلناه على بعض الأعجمين﴾ راجع إلى هذا القرآن الذي هو عربي فلو كان المراد تنزيله بلسان أعجمي لكان المعنى ولو نزلنا العربي غير عربي ولا محصل له.
ويرده أنه من قبيل قوله تعالى: ﴿إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون﴾ الزخرف: 3، ولا معنى لقولنا: إنا جعلنا العربي عربيا فالمراد بالقرآن على أي حال الكتاب المقروء.
قوله تعالى: ﴿كذلك سلكناه في قلوب المجرمين﴾ الإشارة بقوله: ﴿كذلك﴾ إلى الحال التي عليها القرآن عند المشركين وقد ذكرت في الآيات السابقة وهي أنهم معرضون عنه لا يؤمنون به وإن كان تنزيلا من رب العالمين وكان عربيا مبينا غير أعجمي وكان مذكورا في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل.
والسلوك الإدخال في الطريق والإمرار، والمراد بالمجرمين هم الكفار والمشركون وذكرهم بوصف الإجرام للإشارة إلى علة الحكم وهو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة والمنفورة وأن ذلك مجازاة إلهية جازاهم بها عن إجرامهم وليعم الحكم بعموم العلة.
والمعنى على هذه الحال - وهي أن يكون بحيث يعرض عنه ولا يؤمن به - ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين ونمره في نفوسهم جزاء لإجرامهم وكذلك كل مجرم.
وقيل: الإشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة والمعنى: ندخل القرآن ونمره في قلوب المجرمين بمثل ما بينا له الأوصاف فيرون أنه كتاب سماوي ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر وأنه مبشر به في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل وتتم الحجة به عليهم وهو بعيد من السياق.
وقيل: الضمير في ﴿سلكناه﴾ للتكذيب بالقرآن والكفر به المدلول عليه بقوله: ﴿ما كانوا به مؤمنين﴾ هذا وهو قريب من الوجه الأول لكن الوجه الأول ألطف وأدق، وقد ذكره في الكشاف.
وقد تبين بما تقدم أن المراد بالمجرمين مشركو مكة غير أن عموم وصف الإجرام يعمم الحكم، وقال بعضهم: إن المراد بالمجرمين غير مشركي مكة من معاصريهم ومن يأتي بعدهم، والمعنى: كما سلكناه في قلوب مشركي مكة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين.
ولعل الذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتحاد المشبه والمشبه به على الوجه الأول مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله: ﴿كذلك﴾ السلوك في قلوب مشركي مكة وهو المشبه به وجعل المشبه غيرهم من المجرمين وفيه أن تشبيه الكلي ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الأفراد طريقة شائعة.
ومن هنا يظهر أن هناك وجها آخر وهو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعم مشركي مكة وغيرهم بجعل اللام فيه لغير العهد ولعل الوجه الأول أقرب من السياق.
قوله تعالى: ﴿لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم - إلى قوله - منظرون﴾ تفسير وبيان لقوله: ﴿كذلك سلكناه﴾ إلخ هذا على الوجه الأول والثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة وأما على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبط بما قبله.
وقوله: ﴿حتى يروا العذاب الأليم﴾ أي حتى يشاهدوا العذاب الأليم فيلجئهم إلى الإيمان الاضطراري الذي لا ينفعهم، والظاهر أن المراد بالعذاب الأليم ما يشاهدونه عند الموت واحتمل بعضهم أن يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكة وغيرهم لا يلائم ذلك.
وقوله: ﴿فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون﴾ كالتفسير لقوله: ﴿حتى يروا العذاب الأليم﴾ إذ لو لم يأتهم بغتة وعلموا به قبل موعده لاستعدوا له وآمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه.
وقوله: ﴿فيقولوا هل نحن منظرون﴾ كلمة تحسر منهم.
قوله تعالى: ﴿أفبعذابنا يستعجلون﴾ توبيخ وتهديد.
قوله تعالى: ﴿أفرأيت إن متعناهم سنين - إلى قوله - يمتعون﴾ متصل بقوله: ﴿فيقولوا هل نحن منظرون﴾ ومحصل المعنى أن تمني الإمهال والإنظار تمني أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنونه ولم يغن عنهم شيئا لو أجيبوا إلى ما سألوه فإن تمتيعهم أمدا محدودا طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الذي قضي في حقهم.
وهو قوله: ﴿أفرأيت إن متعناهم سنين﴾ معدودة ستنقضي: ﴿ثم جاءهم ما كانوا يوعدون﴾ من العذاب بعد انقضاء سني الإنظار والإمهال ﴿ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون﴾ أي تمتيعهم أمدا محدودا.
قوله تعالى: ﴿وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى﴾ إلخ، الأقرب أن يكون قوله: ﴿لها منذرون﴾ حالا من ﴿قرية﴾ وقوله: ﴿ذكرى﴾ حالا من ضمير الجمع في ﴿منذرون﴾ أو مفعولا مطلقا عامله ﴿منذرون﴾ لكونه في معنى مذكرون والمعنى ظاهر، وقيل غير ذلك مما لا جدوى في ذكره وإطالة البحث عنه.
وقوله: ﴿وما كنا ظالمين﴾ ورود النفي على الكون دون أن يقال: وما ظلمناهم ونحو ذلك يفيد نفي الشأنية أي وما كان من شأننا ولا المترقب منا أن نظلمهم.
والجملة في مقام التعليل للحصر السابق والمعنى: ما أهلكنا من قرية إلا في حال لها منذرون مذكرون تتم بهم الحجة عليهم لأنا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنا ظالمين لهم وليس من شأننا أن نظلم أحدا فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ الإسراء: 15.
كلام في معنى نفي الظلم عنه تعالى من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل وتصرفه ما لا يملكه من الفعل والتصرف، ويقابله العدل ولازمه أنه فعل الفاعل وتصرفه ما يملكه.
ومن هنا يظهر أن أفعال الفواعل التكوينية من حيث هي مملوكة لها تكوينا لا يتحقق فيها معنى الظلم لأن فرض صدور الفعل عن فاعله تكوينا مساوق لكونه مملوكا له بمعنى قيام وجوده به قياما لا يستقل دونه.
ولله سبحانه ملك مطلق منبسط على الأشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه واستقلال دونه فأي تصرف تصرف به فيها مما يسرها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرها ليس من الظلم في شيء وإن شئت فقل: عدل بمعنى ما ليس بظلم فله أن يفعل ما يشاء وله أن يحكم ما يريد كل ذلك بحسب التكوين.
فله تعالى ملك مطلق بذاته، ولغيره من الفواعل التكوينية ملك تكويني بالنسبة إلى فعله حسب الإعطاء والموهبة الإلهية وهو ملك في طول ملكه تعالى وهو المالك لما ملكها والمهيمن على ما عليه سلطها.
ومن جملة هذه الفواعل النوع الإنساني بالنسبة إلى أفعاله وخاصة ما نسميها بالأفعال الاختيارية والاختيار الذي يتعين به هذه الأفعال، فالواحد منا يجد من نفسه عيانا أنه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل والترك معا، فإن شاء فعل وإن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرا يملك الفعل والترك، أي فعل وترك كانا، بمعنى إمكان صدور كل منهما عنه.
ثم إن اضطرار الإنسان إلى الحياة الاجتماعية المدنية اضطر العقل أن يغمض عن بعض ما للإنسان من حرية العمل ويرفع اليد عن بعض الأفعال التي كان يرى أنه يملكها وهي التي يختل بإتيانها أمر المجتمع فيختل نظم حياته نفسه وهذه هي المحرمات والمعاصي التي تنهى عنها القوانين المدنية أو السنن القومية أو الأحكام الملوكية الدائرة في المجتمعات.
ومن الضروري لتحكيم هذه القوانين والسنن أن يجعل نوع من الجزاء السيىء على المتخلف عنها - بشرط العلم وتمام الحجة لأنه شرط تحقق التكليف - من ذم أو عقاب، ونوع من الأجر الجميل للمطيع الذي يحترمها من مدح أو ثواب.
ومن الضروري أن ينتصب على المجتمع والقوانين الجارية فيها من يجريها على ما هي عليه وهو مسئول عما نصب له وخاصة بالنسبة إلى أحكام الجزاء، فلو لم يكن مسئولا وجاز له أن يجازي وأن لا يجازي ويأخذ المحسن ويترك المسيء لغا وضع القوانين والسنن من رأس.
هذه أصول عقلائية جارية في الجملة في المجتمعات الإنسانية منذ استقر هذا النوع على الأرض منبعثة عن فطرتهم الإنسانية.
وقد دلت البراهين العقلية وأيدها تواتر الأنبياء والرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية وسنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى وهي أحكام ووظائف إنسانية تهدي إليها الفطرة الإنسانية وتضمن سعادة حياته وتحفظ مصالح مجتمعه.
وهذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه ومجريها من حيث الثواب والعقاب - وموطنهما موطن الرجوع إليه تعالى - هو الله سبحانه.
ومقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية واعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا - وليس بالتكويني - أن لا يناقض نفسه ولا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند، وأخذ المظلوم بإثم الظالم وإلا كان ظلما منه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ولعل هذا معنى ما يقال: إن الظلم مقدور له تعالى لكنه ليس بواقع البتة لأنه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال وليس بفرض محال، وهو المستفاد من ظاهر قوله تعالى: ﴿وما كنا ظالمين﴾ الآية: 209 من السورة، وقوله: ﴿إن الله لا يظلم الناس شيئا﴾ يونس: 44، وقوله: ﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾ فصلت: 46، وقوله: ﴿لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ النساء: 165، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما يومىء إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما.
فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لأنه من حق المعاقب ومن الجائز على صاحب الحق تركه وعدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لأنه من حق الغير وهو المطيع فلا يجوز تركه وإبطاله.
على أنه قيل: إن الإثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لأن العبد وعمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشيء.
قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لأنه من الفضل وأما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين وترتيب الجزاء على العمل.
وأما كون ثواب الأعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله فلا ينافي فضلا آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكا له، ثم جعل ما يثيبه عليه أجرا لعمله، والقرآن مليء بحديث الأجر على الأعمال الصالحة، وقد قال تعالى: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾ البراءة: 111.
قوله تعالى: ﴿وما تنزلت به الشياطين - إلى قوله - لمعزولون﴾ شروع في الجواب عن قول المشركين: إن لمحمد جنا يأتيه بهذا الكلام، وقولهم: إنه شاعر، وقدم الجواب عن الأول وقد وجه الكلام أولا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبين له أن القرآن ليس من تنزيل الشياطين وطيب بذلك نفسه ثم وجه القول إلى القوم فبينه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه.
فقوله: ﴿وما تنزلت به الشياطين﴾ أي ما نزلته والآية متصلة بقوله: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين﴾ ووجه الكلام كما سمعت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله تلوا: ﴿فلا تدع مع الله إلها آخر﴾ إلى آخر الخطابات المختصة به (صلى الله عليه وآله وسلم) المتفرعة على قوله: ﴿وما تنزلت به﴾ إلخ، على ما سيجيء بيانه.
وإنما وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون القوم لأنه معلل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله: ﴿إنهم عن السمع لمعزولون﴾ والشيطان الشرير وجمعه الشياطين والمراد بهم أشرار الجن.
وقوله: ﴿وما ينبغي لهم﴾ أي للشياطين.
قال في مجمع البيان، ومعنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب.
والوجه في أنه لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به أنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والأخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله، والقرآن كلام حق لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد.
وقوله: ﴿وما يستطيعون﴾ أي وما يقدرون على التنزل به لأنه كلام سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى كما قال: ﴿فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم﴾ الجن: 28، وإلى ذلك يشير قوله: ﴿إنهم عن السمع﴾ إلخ.
وقوله: ﴿إنهم عن السمع لمعزولون﴾ أي إن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في الملإ الأعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه.
قوله تعالى: ﴿فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهاه عن الشرك بالله متفرع على قوله: ﴿وما تنزلت به الشياطين﴾ إلخ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلا من رب العالمين ولم تنزل به الشياطين وهو ينهى عن الشرك ويوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه وتدخل في زمرة المعذبين.
وكونه (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوما بعصمة إلهية يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإن العصمة لا توجب بطلان تعلق الأمر والنهي بالمعصوم وارتفاع التكليف عنه بما أنه بشر مختار في الفعل والترك متصور في حقه الطاعة والمعصية بالنظر إلى نفسه، وقد تكاثرت الآيات في تكليف الأنبياء (عليهم السلام) في القرآن الكريم كقوله في الأنبياء (عليهم السلام): ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ الأنعام: 88، وقوله في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ الزمر: 65، والآيتان في معنى النهي.
وقول بعضهم: إن التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال وتحققه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإن الأعمال الصالحة التي يتعلق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب والكمال النفساني كما يجب أن يكتسب بالإتيان بآثاره ومزاولة الأعمال التي تناسبه والارتياض بها كذلك يجب أن يستبقى بذلك فما دام الإنسان بشرا له تعلق بالحياة الأرضية لا مناص له عن تحمل أعباء التكليف، وقد تقدم كلام في هذا المعنى في بعض الأبحاث.
قوله تعالى: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ في مجمع البيان، عشيرة الرجل قرابته سموا بذلك لأنه يعاشرهم وهم يعاشرونه انتهى.
وخص عشيرته وقرابته الأقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك وإنذاره تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية ولا مداهنة ولا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكية فلا فرق في تعلق الإنذار بين النبي وأمته ولا بين الأقارب والأجانب، فالجميع عبيد والله مولاهم.
قوله تعالى: ﴿واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين أي اشتغل بالمؤمنين بك واجمعهم وضمهم إليك بالرأفة والرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها﴾ وهذا من الاستعارة بالكناية تقدم نظيره في قوله: ﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ الحجر: 88.
والمراد بالاتباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية: ﴿فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون﴾ فملخص معنى الآيتين: إن آمنوا بك واتبعوك فاجمعهم إليك بالرأفة واشتغل بهم بالتربية وإن عصوك فتبرأ من عملهم.
قوله تعالى: ﴿وتوكل على العزيز الرحيم﴾ أي ليس لك من أمر طاعتهم ومعصيتهم شيء وراء ما كلفناك فكل ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنه لعزته سيعذب العاصين وبرحمته سينجي المؤمنين المتبعين.
وفي اختصاص اسمي العزيز والرحيم إلفات للذهن إلى ما تقدم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين.
فهو في معنى أن يقال: توكل في أمر المتبعين والعاصين جميعا إلى الله فهو العزيز الرحيم الذي فعل بقوم نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وقوم فرعون ما فعل مما قصصناه فسنته أخذ العاصين وإنجاء المؤمنين.
قوله تعالى: ﴿الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين﴾ ظاهر الآيتين - على ما يسبق إلى الذهن - أن المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين وفيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاته بهم جماعة، والمراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى: الذي يراك وأنت بعينه في حالتي قيامك وسجودك متقلبا في الساجدين وأنت تصلي مع المؤمنين.
وفي معنى الآية روايات من طرق الشيعة وأهل السنة سنتعرض لها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
قوله تعالى: ﴿إنه هو السميع العليم﴾ تعليل لقوله: ﴿وتوكل على العزيز الرحيم﴾ وفي الآيات - على ما تقدم من معناها - تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبشرى للمؤمنين بالنجاة وإيعاد للكفار بالعذاب.
قوله تعالى: ﴿هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - إلى قوله - كاذبون﴾ تعريف لمن تتنزل عليه الشياطين بما يخصه من الصفة ليعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس منهم ولا أن القرآن من إلقاء الشياطين، والخطاب متوجه إلى المشركين.
فقوله: ﴿هل أنبئكم على من تنزل الشياطين﴾ في معنى هل أعرفكم الذين تتنزل عليهم شياطين الجن بالأخبار؟ وقوله: ﴿تنزل على كل أفاك أثيم﴾ قال في مجمع البيان:، الأفاك الكذاب وأصل الإفك القلب والأفاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب، والأثيم الفاعل للقبيح يقال: أثم يأثم إثما إذا ارتكب القبيح وتأثم إذا ترك الإثم انتهى.
وذلك أن الشياطين لا شأن لهم إلا إظهار الباطل في صورة الحق وتزيين القبيح في زي الحسن فلا يتنزلون إلا على أفاك أثيم.
وقوله: ﴿يلقون السمع وأكثرهم كاذبون﴾ الظاهر أن ضميري الجمع في ﴿يلقون﴾ و﴿أكثرهم﴾ معا للشياطين، والسمع مصدر بمعنى المسموع والمراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء ولو ناقصا فإنهم ممنوعون من الاستماع مرميون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلا ناقصا غير تام ولا كامل ولذا يتسرب إليه الكذب كثيرا.
وقوله: ﴿وأكثرهم كاذبون﴾ أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلا وهذا هو الكثرة بحسب الأفراد ويمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث التنزل أي أكثر المتنزلين منهم كاذبون أي أكثر أخبارهم كاذبة.
ومحصل حجة الآيات الثلاث أن الشياطين لابتناء جبلتهم على الشر لا يتنزلون إلا على كل كذاب فاجر وأكثرهم كاذبون في أخبارهم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بأفاك أثيم ولا ما يوحى إليه من الكلام كذبا مختلقا فليس ممن تتنزل عليه الشياطين ولا الذي يتنزل عليه شيطانا، ولا القرآن النازل عليه من إلقاء الشياطين.
قوله تعالى: ﴿والشعراء يتبعهم الغاون - إلى قوله - لا يفعلون﴾ جواب عن رمي المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه شاعر، نبه عليه بعد الجواب عن قولهم إن له شيطانا يوحي إليه القرآن.
وهذان أعني قولهم إن من الجن من يأتيه، وقولهم إنه شاعر، مما كانوا يكررونه في ألسنتهم بمكة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقة، وهذا مما يؤيد نزول هذه الآيات بمكة خلافا لما قيل إنها نزلت بالمدينة.
على أن الآيات مشتملة على ختام السورة أعني قوله: ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ ولا معنى لبقاء سورة هي من أقدم السور المكية سنين على نعت النقص ثم تمامها بالمدينة، ولا دلالة في الاستثناء على أن المستثنين هم شعراء المؤمنين بعد الهجرة.
وكيف كان فالغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع فالرشيد هو الذي لا يهتم إلا بما هو حق واقع والغوي هو السالك سبيل الباطل والمخطىء طريق الحق، والغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخييل وتصوير غير الواقع في صورة الواقع ولذلك لا يهتم به إلا الغوي المشعوف بالتزيينات الخيالية والتصويرات الوهمية الملهية عن الحق الصارفة عن الرشد، ولا يتبع الشعراء الذين يبتنى صناعتهم على الغي والغواية إلا الغاوون وذلك قوله تعالى: ﴿والشعراء يتبعهم الغاون﴾.
وقوله: ﴿ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون﴾ يقال: هام يهيم هيمانا إذا ذهب على وجهه والمراد بهيمانهم في كل واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حد فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحق المحمود وربما هجوا الجميل كما يهجى القبيح الدميم وربما دعوا إلى الباطل وصرفوا عن الحق وفي ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الإنسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحق، وكذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة.
وملخص حجة الآيات الثلاث أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بشاعر لأن الشعراء يتبعهم الغاوون لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد لكن الذين يتبعونه إنما يتبعونه ابتغاء للرشد وإصابة الواقع وطلبا للحق لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحق والرشد دون الباطل والغي.
قوله تعالى: ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا﴾ إلخ، استثناء من الشعراء المذمومين، والمستثنون هم شعراء المؤمنين فإن الإيمان وصالحات الأعمال تردع الإنسان بالطبع عن ترك الحق واتباع الباطل ثم الذكر الكثير لله سبحانه يجعل الإنسان على ذكر منه تعالى مقبلا إلى الحق الذي يرتضيه مدبرا عن الباطل الذي لا يحب الاشتغال به فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لأولئك.
وبهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالإيمان وعمل الصالحات ثم عطف قوله: ﴿وذكروا الله كثيرا﴾ على ذلك.
وقوله: ﴿وانتصروا من بعد ما ظلموا﴾ الانتصار الانتقام، قيل: المراد به رد الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو طعنوا فيها في الدين وقدحوا في الإسلام والمسلمين، وهو حسن يؤيده المقام.
وقوله: ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ المنقلب اسم مكان أو مصدر ميمي، والمعنى: وسيعلم الذين ظلموا - وهم المشركون على ما يعطيه السياق - إلى أي مرجع ومنصرف يرجعون وينصرفون وهو النار أو ينقلبون أي انقلاب.
وفيه تهديد للمشركين ورجوع مختتم السورة إلى مفتتحها وقد وقع في أولها قوله: ﴿فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون﴾.
بحث روائي:
في الكافي، بإسناده عن الحجال عمن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: ﴿بلسان عربي مبين﴾ قال: يبين الألسن ولا تبينه الألسن.
وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولو نزلناه على بعض الأعجمين﴾ إلخ، قال الصادق (عليه السلام): لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم.
وفي الكافي، بإسناده عن علي بن عيسى القماط عن عمه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده ويضلون الناس عن الصراط القهقرى فأصبح كئيبا حزينا.
قال: فهبط جبرئيل فقال: يا رسول الله ما لي أراك كئيبا حزينا؟ قال: يا جبرئيل إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: والذي بعثك بالحق نبيا إني ما اطلعت عليه فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها.
قال: ﴿أفرأيت إن متعناهم سنين - ثم جاءهم ما كانوا يوعدون - ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون﴾ وأنزل عليه: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر - وما أدراك ما ليلة القدر - ليلة القدر خير من ألف شهر﴾ جعل الله ليلة القدر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا من ألف شهر ملك بني أمية.
وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: رئي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه متحير فسألوه عن ذلك فقال: ولم ورأيت عدوي يلون أمر أمتي من بعدي فنزلت ﴿أفرأيت إن متعناهم سنين - ثم جاءهم ما كانوا يوعدون - ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون﴾ فطابت نفسه.
أقول: وقوله: ولم ورأيت إلخ، فيه حذف والتقدير ولم لا أكون كذلك وقد رأيت إلخ.
وفيه، أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وفي الدلائل عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا وعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.
يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.
يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.
يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.
يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.
يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا.
ألا إن لكم رحما وسأبلها ببلالها.
وفيه، أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ جعل يدعوهم قبائل قبائل.
وفيه، أخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين﴾ خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صعد على الصفا فنادى يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أ كنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أ لهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾.
وفيه، أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال: لما نزلت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار واسعوا في فكاك رقابكم وافتكوها بأنفسكم من الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا.
ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر ويا أم سلمة ويا فاطمة بنت محمد ويا أم الزبير عمة رسول الله اشتروا أنفسكم من الله واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني، الحديث.
أقول: وفي معنى هذه الروايات بعض روايات أخر وفي بعضها أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خص بني عبد مناف بالإنذار فيشمل بني أمية وبني هاشم جميعا.
والروايات الثلاث الأول لا تنطبق عليها الآية فإنها تعمم الإنذار قريشا عامة والآية تصرح بالعشيرة الأقربين وهم إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم وأبعد ما يكون من الآية الرواية الثانية حيث تقول: جعل يدعوهم قبائل قبائل.
على أن ما تقدم من معنى الآية وهو نفي أن تكون قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تغنيهم من تقوى الله وفي الروايات إشارة إلى ذلك - حيث تقول: لا أغني عنكم من الله شيئا - لا يناسب عمومه لغير الخاصة من قرابته (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما الرواية الرابعة فقوله تعالى: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ آية مكية في سورة مكية ولم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة وأين كانت يوم نزولها عائشة وحفصة وأم سلمة ولم يتزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهن إلا في المدينة فالمعتمد من الروايات ما يدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خص بالإنذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب، ومن عجيب الكلام قول الآلوسي بعد نقل الروايات: وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار.
وفي المجمع، عن تفسير الثعلبي بإسناده عن براء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا بسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا.
ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعا ثم قال لهم: اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل فسكت (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ ولم يتكلم.
ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله عز وجل فأسلموا وأطيعوني تهتدوا.
ثم قال: من يواخيني ويوازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم ويقول علي أنا فقال في المرة الثالثة: أنت فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك.
قال الطبرسي، وروي عن أبي رافع هذه القصة وأنه جمعهم في الشعب فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا وسقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا.
ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي ورهطي، وإن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووزيرا ووارثا ووصيا وخليفة في أهله فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصيي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ فقال علي: أنا فقال: ادن مني ففتح فاه ومج في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك أن أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقا فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ملأته حكمة وعلما.
أقول: وروى السيوطي في الدر المنثور، ما في معنى حديث البراء عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي في الدلائل من طرق عن علي رضي الله عنه وفيه: ثم تكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحدا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا؟ فقلت وأنا أحدثهم سنا: إنه أنا، فقام القوم يضحكون.
وفي علل الشرائع، بإسناده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لما نزلت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ أي رهطك المخلصين دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون رجلا وينقصون رجلا فقال: أيكم يكون أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي، فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا كلهم يأبى ذلك حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول الله.
فقال: يا بني عبد المطلب هذا وارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام.
أقول: ومن الممكن أن يستفاد من قوله (عليه السلام): أي رهطك المخلصين أن ما نسب إلى قراءة أهل البيت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين رهطك منهم المخلصين﴾ ونسب أيضا إلى قرآن أبي بن كعب كان من قبيل التفسير.
وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿وتقلبك في الساجدين﴾ قيل: معناه وتقلبك في الساجدين الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبيا: عن ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) قالا: أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم.
أقول: ورواه غيره من رواة الشيعة، ورواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم وغيرهم عن ابن عباس وغيرهم.
وفي المجمع، روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ترفعوا قبلي ولا تضعوا قبلي فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ثم تلا هذه الآية.
أقول: يريد (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الجبهة على الأرض ورفعها في السجدة ورواه في الدر المنثور، عن ابن عباس وغيره.
وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لئن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا.
أقول: وهو مروي من طرق الشيعة أيضا عن الصادق (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي تفسير القمي، قال: يعظون الناس ولا يتعظون وينهون عن المنكر ولا ينتهون ويأمرون بالمعروف ولا يعملون وهم الذين قال الله فيهم: ﴿ألم تر أنهم في كل واد يهيمون﴾ أي في كل مذهب يذهبون ﴿وأنهم يقولون ما لا يفعلون﴾ وهم الذين غصبوا آل محمد حقهم.
وفي اعتقادات الصدوق، سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿والشعراء يتبعهم الغاون﴾ قال: هم القصاص.
أقول: هم من المصاديق والمعنى الجامع ما تقدم في ذيل الآية.
وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن من الشعر حكما وإن من البيان سحرا.
أقول: وروى الجملة الأولى أيضا عنه عن بريدة وابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأيضا عن ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظه: إن من الشعر حكمة، والممدوح من الشعر ما فيه نصرة الحق ولا تشمله الآية.
وفي المجمع، عن الزهري قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك: أن كعب بن مالك قال: يا رسول الله ما ذا تقول في الشعراء؟ قال: إن المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما تنضخونهم بالنبل.
قال الطبرسي،: وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحسان بن ثابت: اهجهم أو هاجهم وروح القدس معك: رواه البخاري ومسلم في الصحيحين.
وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الحسن سالم البراد قال: لما نزلت ﴿والشعراء﴾ الآية جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وهم يبكون فقالوا يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء أهلكنا؟ فأنزل الله ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ فدعاهم رسول الله فتلاها عليهم.
أقول: هذه الرواية وما في معناها هي التي دعا بعضهم إلى القول بكون الآيات الخمس من آخر السورة مدنيات وقد عرفت الكلام في ذلك عند تفسير الآيات.
وفي الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا.
ثم قال: لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان منه ولكن ذكر الله عند ما أحل وحرم فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها.
أقول: فيه تأييد لما تقدم في تفسير الآية.