الآيات 10-68

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿10﴾ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ﴿11﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴿12﴾ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ﴿13﴾ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴿14﴾ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ﴿15﴾ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿16﴾ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿17﴾ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿18﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿19﴾ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿20﴾ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿21﴾ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿22﴾ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿23﴾ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴿24﴾ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿25﴾ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿26﴾ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴿27﴾ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿28﴾ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴿29﴾ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ﴿30﴾ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿31﴾ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴿32﴾ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ﴿33﴾ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿34﴾ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴿35﴾ قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿36﴾ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴿37﴾ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴿38﴾ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ﴿39﴾ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ﴿40﴾ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿41﴾ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿42﴾ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ﴿43﴾ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴿44﴾ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴿45﴾ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴿46﴾ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿47﴾ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴿48﴾ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿49﴾ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴿50﴾ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿51﴾ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴿52﴾ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿53﴾ إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴿54﴾ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ﴿55﴾ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴿56﴾ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿57﴾ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿58﴾ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿59﴾ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ﴿60﴾ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴿61﴾ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿62﴾ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴿63﴾ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ﴿64﴾ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ﴿65﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴿66﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿67﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿68﴾

بيان:

شروع في ذكر قصص عدة من أقوام الأنبياء الماضين موسى وهارون وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهما السلام) ليظهر أن قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سائرون مسيرهم وسيردون موردهم، لا يؤمن أكثرهم فيؤاخذهم الله تعالى بعقوبة العاجل والآجل، والدليل على ذلك ختم كل واحدة من القصص بقوله: ﴿وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم﴾ كما ختم به الكلام الحاكي لإعراض قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول السورة، وليس ذلك إلا لتطبيق القصة على القصة.

كل ذلك ليتسلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يضيق صدره ويعلم أنه ليس بدعا من الرسل ولا المتوقع من قومه غير ما عامل به الأمم الماضون رسلهم، وفيه تهديد ضمني لقومه ويؤيده تصدير قصة إبراهيم (عليه السلام) بقوله: ﴿واتل عليهم نبأ إبراهيم﴾.

قوله تعالى: ﴿وإذ نادى ربك موسى - إلى قوله - ألا يتقون﴾ أي واذكر وقتا نادى فيه ربك موسى وبعثه بالرسالة إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل على ما فصله في سورة طه وغيرها.

وقوله: ﴿أن ائت القوم الظالمين﴾ نوع تفسير للنداء، وتوصيفهم أولا بالظالمين ثم بيانه ثانيا بقوم فرعون للإشارة إلى حكمة الإرسال وهي ظلمهم بالشرك وتعذيب بني إسرائيل كما في سورة طه من قوله: ﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى إلى أن قال فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم﴾ طه: 47.

وقوله: ﴿ألا يتقون﴾ بصيغة الغيبة، وهو توبيخ غيابي منه تعالى لهم وإيراده في مقام عقد الرسالة لموسى (عليه السلام) في معنى قولنا: قل لهم إن ربي يوبخكم على ترك التقوى ويقول: ألا تتقون.

قوله تعالى: ﴿قال رب إني أخاف أن يكذبون - إلى قوله - فأرسل إلى هارون﴾ قال في مجمع البيان:، الخوف انزعاج النفس بتوقع الضر ونقيضه الأمن وهو سكون النفس إلى خلوص النفع، انتهى.

وأكثر ما يطلق الخوف على إحساس الشر بحيث يؤدي إلى الاتقاء عملا وإن لم تضطرب النفس، والخشية على تأثر النفس من توقع الشر بحيث يورث الاضطراب والقلق، ولذا نفى الله الخشية من غيره عن أنبيائه وربما أثبت الخوف فقال: ﴿ولا يخشون أحدا إلا الله﴾ الأحزاب: 39، وقال: ﴿وإما تخافن منهم خيانة﴾ الأنفال: 58.

وقوله: ﴿إني أخاف أن يكذبون﴾ أي ينسبني قوم فرعون إلى الكذب، وقوله: ﴿ويضيق صدري ولا ينطلق لساني﴾ الفعلان مرفوعان وهما معطوفان على قوله: ﴿أخاف﴾ فالذي اعتل به أمور ثلاثة: خوف التكذيب وضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان، وفي قراءة يعقوب وغيره يضيق وينطلق بالنصب عطفا على ﴿يكذبون﴾ وهو أوفق بطبع المعنى، وعليه فالعلة واحدة وهي خوف التكذيب الذي يترتب عليه ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان.

ويطابق ما سيجيء من آية القصص من ذكر علة واحدة هي خوف التكذيب.

وقوله: ﴿فأرسل إلى هارون﴾ أي أرسل ملك الوحي إلى هارون ليكون معينا لي على تبليغ الرسالة يقال لمن نزلت به نائبة أو أشكل عليه أمر: أرسل إلى فلان أي استمد منه واتخذه عونا لك.

فالجملة أعني قوله: ﴿فأرسل إلى هارون﴾ متفرعة على قوله: ﴿إني أخاف﴾ إلخ، وذكر خوف التكذيب مع ما معه من ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان توطئة وتقدمة لذكرها وسؤال موهبة الرسالة لهارون.

وإنما اعتل بما اعتل به وسأل الرسالة لأخيه ليكون شريكا له في أمره، معينا مصدقا له في التبليغ لا فرارا عن تحمل أعباء الرسالة، واستعفاء منها، قال في روح المعاني: ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع ﴿فأرسل﴾ بين الأوائل وبين الرابعة أعني قوله: ﴿ولهم علي ذنب﴾ إلخ، فآذن بتعلقه بها ولو كان تعللا لأخر.

وهو حسن وأوضح منه قوله تعالى في سورة القصص في القصة: ﴿قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون﴾ القصص: 34.

قوله تعالى: ﴿ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون﴾ قال الراغب في المفردات:، الذنب في الأصل الأخذ بذنب الشيء يقال: ذنبته أصبت ذنبه، ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا لما يحصل من عاقبته.

وفي الآية إشارة إلى قصة قتله (عليه السلام)، وكونه ذنبا لهم عليه إنما هو بالبناء على اعتقادهم أو الاعتبار بمعناه اللغوي المذكور آنفا، وأما كونه ذنبا بمعنى معصية الله تعالى فلا دليل عليه وسيوافيك فيه كلام عند تفسير سورة القصص إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون﴾ كلا للردع وهو متعلق بما ذكره من خوف القتل، ففيه تأمين له وتطييب لنفسه أنهم لا يصلون إليه، وأما سؤاله الإرسال إلى هارون فلم يذكر ما أجيب به عنه، غير أن قوله: ﴿فاذهبا بآياتنا﴾ دليل على إجابة مسئوله.

وقوله: ﴿فاذهبا بآياتنا﴾ متفرع على الردع فيفيد أن اذهبا إليه بآياتنا ولا تخافا، وقد علل ذلك بقوله: ﴿إنا معكم مستمعون﴾ والمراد بضمير الجمع موسى وهارون والقوم الذين أرسلا إليهم ولا يعبأ بقول من قال: إن المراد به موسى وهارون بناء على كون أقل الجمع اثنين فإنه مع فساده في أصله لا تساعد عليه ضمائر التثنية قبله وبعده كما قيل.

والاستماع هو الإصغاء إلى الكلام والحديث وهو كناية عن الحضور وكمال العناية بما يجري بينهما وبين فرعون وقومه عند تبليغ الرسالة كما قال في القصة من سورة طه: ﴿لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى﴾ طه: 46.

ومحصل المعنى: كلا لا يقدرون على قتلك فاذهبا إليهم بآياتنا ولا تخافا إنا حاضرون عندكم شاهدون عليكم معتنون بما يجري بينكم.

قوله تعالى: ﴿فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل﴾ بيان لقوله في الآية السابقة: ﴿فاذهبا بآياتنا﴾.

وقوله: ﴿فقولا إنا رسول رب العالمين﴾ تفريع على إتيان فرعون، والتعبير بالرسول بلفظ المفرد إما باعتبار كل واحد منهما أو باعتبار كون رسالتها واحدة وهي قولهما: ﴿أن أرسل﴾ إلخ، أو باعتبار أن الرسول مصدر في الأصل فالأصل أن يستوي فيه الواحد والجمع، والتقدير إنا ذوا رسول رب العالمين أي ذوا رسالته كما قيل.

وقوله: ﴿أن أرسل معنا بني إسرائيل﴾ تفسير للرسالة المفهومة من السياق والمراد بإرسالهم إطلاقهم لكن لما كان المطلوب أن يعودوا إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وهي أرض آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهما السلام) سمي إطلاقهم ليعودوا إليها إرسالا منه لهم إليها.

قوله تعالى: ﴿قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين﴾ الاستفهام للإنكار التوبيخي، و﴿نربك﴾ من التربية، والوليد الصبي.

لما أقبل فرعون على موسى وهارون وسمع كلامهما عرف موسى وخصه بالخطاب قائلا ألم نربك إلخ ومراده الاعتراض عليه أولا من جهة دعواه الرسالة يقول: أنت الذي ربيناك وأنت وليد ولبثت فينا من عمرك سنين عديدة نعرفك باسمك ونعتك ولم ننس شيئا من أحوالك فمن أين لك هذه الرسالة وأنت من نعرفك ولا نجهل أصلك؟ قوله تعالى: ﴿وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين﴾ الفعلة بفتح الفاء بناء مرة من الفعل، وتوصيف الفعلة بقوله: ﴿التي فعلت﴾ للدلالة على عظم خطره وكثرة شناعته وفظاعته نظير ما في قوله: ﴿فغشيهم من اليم ما غشيهم﴾ طه: 78، ومراده بهذه الفعلة قتله (عليه السلام) القبطي.

وقوله: ﴿وأنت من الكافرين﴾ ظاهر السياق على ما سيأتي الإشارة إليه أن مراده بالكفر كفران النعمة وأن قتله القبطي وإفساده في أرضه كفران لنعمته عليه بالخصوص بما له عنده من الصنيعة حيث كف عن قتله كسائر المواليد من بني إسرائيل ورباه في بيته بل لأنه من بني إسرائيل وهو يراهم عبيدا لنفسه ويرى نفسه ربا منعما عليهم فقتل الواحد منهم رجلا من قومه وإفساده في الأرض خروج من طور العبودية وكفر بنعمته.

فمحصل اعتراضه المشار إليه في الآيتين أنك الذي ربيناك صبيا صغيرا ولبثت فينا من عمرك سنين، وأفسدت في الأرض بقتل النفس فكفرت بنعمتي وأنت من عبيدي الإسرائيليين فمن أين جاءتك هذه الرسالة؟ وكيف تكون رسولا وأنت هذا الذي نعرفك؟.

وبذلك يظهر عدم استقامة تفسير بعضهم الكفر بالكفر المقابل للإيمان، وأن المعنى وأنت من الكافرين بألوهيتي أو أنت من الكافرين بالله على زعمك حيث خالطتنا سنين وأنت في ملتنا، وكذا قول بعضهم: إن المراد وأنت من الكافرين بنعمتي عليك خاصة.

قوله تعالى: ﴿قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل﴾ ضمير ﴿فعلتها﴾ راجع إلى الفعلة والظاهر أن ﴿إذا﴾ مقطوع عن الجواب والجزاء ويفيد معنى حينئذ كما قيل، وعبده تعبيدا وأعبده إعبادا إذا اتخذه عبدا لنفسه.

والآيات الثلاث جواب موسى (عليه السلام) عما اعترض به فرعون، والتطبيق بين جوابه (عليه السلام) وما اعترض به فرعون يعطي أنه (عليه السلام) حلل كلام فرعون إلى القدح في دعواه الرسالة من ثلاثة أوجه: أحدها استغراب رسالته واستبعادها وهو الذي يعلم حاله وقد أشار إليه بقوله: ﴿ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين﴾ والثاني استقباح فعلته ورميه بالإفساد والجرم بقوله: ﴿وفعلت فعلتك التي فعلت﴾ والثالث المن عليه بأنه من عبيده ويستفاد ذلك من قوله: ﴿وأنت من الكافرين﴾ وقد اقتضى طبع ما يذكره في الجواب أن يغير الترتيب في الجواب فيجيب أولا عن اعتراضه الثاني ثم عن الأول ثم عن الثالث.

فقوله: ﴿فعلتها إذا وأنا من الضالين﴾ جواب عن اعتراضه بقتل القبطي وقد استعظمه حيث لم يصرح باسمه بل كنى عنه بالفعلة التي فعلت صونا للأسماع أن تقرع باسمه فتتألم.

والتدبر في متن الجواب ومقابلته الاعتراض يعطي أن قوله: ﴿ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما﴾ من تمام الجواب عن القتل فيتقابل الحكم والضلال ويتضح حينئذ أن المراد بالضلال الجهل المقابل للحكم والحكم إصابة النظر في حقيقة الأمر وإتقان الرأي في تطبيق العمل عليه فيرجع معناه إلى القضاء الحق في حسن الفعل وقبحه وتطبيق العمل عليه، وهذا هو الذي كان يؤتاه الأنبياء، قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾.

فالمراد أني فعلتها حينئذ والحال أني في ضلال من الجهل بجهة المصلحة فيه والحق الذي يجب أن يتبع هناك فأقدمت على الدفاع عمن استنصرني ولم أعلم أنه يؤدي إلى قتل الرجل ويؤدي ذلك إلى عاقبة وخيمة تحوجني إلى خروجي من مصر وفراري إلى مدين والتغرب عن الوطن سنين.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالضلال الجهل بمعنى الإقدام على الفعل من غير مبالاة بالعواقب كما في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا.

فنجهل فوق جهل الجاهلينا.

وكذا قول بعض آخر: إن المراد بالضلال المحبة كما فسر به قول بني يعقوب لأبيهم: ﴿تالله إنك لفي ضلالك القديم﴾ أي في محبتك القديمة ليوسف، فالمعنى: فعلتها حينئذ وأنا من المحبين لله لا ألوي عن محبته إلى شيء.

أما الوجه الأول ففيه أنه اعتراف بالجرم والمعصية، وآيات سورة القصص ناصة على أن الله سبحانه آتاه حكما وعلما قبل واقعة القتل وهذا لا يجامع الضلال بهذا المعنى من الجهل.

وأما الوجه الثاني ففيه مضافا إلى عدم مساعدة السياق: أن من الممتنع من أدب القرآن أن يسمي محبة الله سبحانه ضلالا.

وأما قول القائل: إن المراد بالضلال الجهل بمعنى عدم التعمد وأنه إنما فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه (عليه السلام) إنما تعمد وكز القبطي للتأديب فأدى إلى ما أدى.

وكذا قول القائل: إن المراد بالضلال الجهل بالشرائع كما فسر به بعضهم قوله: ﴿ووجدك ضالا فهدى﴾.

وكذا قول القائل: إن المراد بالضلال النسيان كما فسر به قوله تعالى: ﴿أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾ البقرة: 282.

وأن المعنى فعلتها ناسيا حرمتها أو ناسيا أن الوكز مما يفضي إلى القتل عادة.

فوجوه يمكن أن يوجه كل منها بما يرجع به إلى ما قدمناه.

وقوله: ﴿ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما﴾ متفرع على قصة القتل، والسبب في خوفه وفراره ما أخبر الله به في سورة القصص بقوله: ﴿وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب﴾ القصص: 21.

وأما الحكم فالمراد به - كما استظهرناه - إصابة النظر في حقيقة الأمر وإتقان الرأي في العمل به.

فإن قلت: صريح الآية أن موهبة الحكم كانت بعد واقعة القتل ومفاد آيات سورة القصص أنه (عليه السلام) أعطي الحكم قبلها، قال تعالى: ﴿ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة﴾ إلخ، القصص: 15، ثم ساق القصة وذكر القتل والفرار.

قلت: إنما ورد لفظ الحكم هاهنا وفي سورة القصص منكرا وهو مشعر بمغايرة كل منهما الآخر وقد ورد في خصوص التوراة أنها متضمنة للحكم، قال تعالى: ﴿وعندهم التوراة فيها حكم الله﴾ المائدة: 43، وقد نزلت التوراة بعد غرق فرعون وإنجاء بني إسرائيل.

فمن الممكن أن يقال: إن موسى (عليه السلام) أعطي مراتب من الحكم بعضها فوق بعض قبل قتل القبطي وبعد الفرار قبل العود إلى مصر وبعد غرق فرعون، وقد خصه الله في كل مرة بمرتبة من الحكم حتى تمت له الحكمة بنزول التوراة، وهذا بحسب التمثيل نظير ما يرزق بعض الناس أوان صباه سلامة في فطرته قلما يميل معها طبعه إلى الشر والفساد ثم إذا نشأ يعطى اعتدالا في التعقل وجودة في التدبير فينبعث إلى اكتساب الفضائل فيرزق ملكة التقوى والصفات الثلاث في الحقيقة سنخ واحد ينمو ويزيد حالا بعد حال.

ويظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم الحكم بالنبوة لعدم دليل عليه من جهة اللفظ ولا المقام.

على أن الله سبحانه ذكر الحكم والنبوة في مواضع من كلامه وفرق بينهما كقوله: ﴿أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة﴾ آل عمران: 79، وقوله: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة﴾ الأنعام: 89، وقوله: ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة﴾ الجاثية: 16 إلى غير ذلك.

وقوله: ﴿وجعلني من المرسلين﴾ جواب عن الاعتراض الأول وهو استغراب رسالته واستبعادها وهم يعرفونه، وقد شاهدوا أحواله حينما كانوا يربونه فيهم وليدا ولبث فيهم من عمره سنين، وتقريره أن استغرابهم واستبعادهم رسالته استنادا إلى سابق معرفتهم بحاله إنما يستقيم لو كانت الرسالة أمرا اكتسابيا يمكن أن يحدس به أو يتوقع حصوله بحصول مقدماته الاختيارية، وليس الأمر كذلك بل هي أمر وهبي لا تأثير للأسباب العادية فيها وقد جعله الله من المرسلين كما وهب له الحكم بغير اكتساب هذا ما يعطيه التدبر في السياق.

وأما ما ذكروه من أن قوله: ﴿ألم نربك فينا وليدا﴾ إلخ، مسوق للمن على موسى (عليه السلام) دون الاستغراب والاستبعاد كما ذكرناه، فالآية في نفسها وإن لم تأب الحمل على ذلك لكن سياق مجموع الجواب لا يساعد عليه، وذلك أن فيه إفساد السياق من حيث يتعين أن يجعل قوله: ﴿وتلك نعمة تمنها علي﴾ إلخ، جوابا عن المن وهو لا ينطبق عليه، ويجعل قوله: ﴿فعلتها إذا﴾ إلخ جوابا عن الاعتراض بالقتل، ويبقى قوله: ﴿وجعلني من المرسلين﴾ فضلا لا حاجة إليه فافهم ذلك.

وقوله: ﴿وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل﴾ جواب عن منه عليه وتقريعه بأنه من عبيده وقد كفر نعمته وتقرير الجواب أن هذا الذي تعده نعمة وتقرعني بكفرانها سلطة ظلم وتغلب إذ عبدت بني إسرائيل والتعبيد ظلما وتغلبا ليس من النعمة في شيء.

فالجملة استفهامية مسوقة للإنكار و﴿أن عبدت بني إسرائيل﴾ بيان لما أشير إليه بقوله: ﴿تلك﴾ والمحصل أن الذي تشير إليه بقولك: ﴿وأنت من الكافرين﴾ من أن لك علي نعمة كفرتها إذ كنت ولي نعمتي وسائر بني إسرائيل - أو إذ كنت ولي نعمتنا معشر بني إسرائيل - ليس بحق إذ كونك وليا منعما ليس إلا استنادا إلى التعبيد، والتعبيد ظلم والولاية المستندة إليه أيضا ظلم وحاشا أن يكون الظالم وليا منعما له على من عبده نعمة وإلا كان التعبيد نعمة وليس نعمة، ففي قوله: ﴿أن عبدت بني إسرائيل﴾ وضع السبب موضع المسبب.

والقوم حللوا كلام فرعون: ﴿ألم نربك﴾ إلخ، إلى اعتراضين - كما أشرنا إليه - المن عليه بتربيته وليدا وكفرانه النعمة وإفساده في الأرض بقتل القبطي فأشكل عليهم الأمر من جهتين - كما أشرنا إليه.

إحداهما صيرورة قوله: ﴿وجعلني من المرسلين﴾ فضلا لا حاجة إليه في سوق الجواب.

والثانية: عدم صلاحية قوله: ﴿وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل﴾ جوابا عن منه على موسى (عليه السلام) بتربيته في بيته وليدا.

وقد ذكروا في توجيهه وجوها: منها: أنه مسوق للاعتراف بأن تربيته لموسى كانت نعمة عليه وإنكار أن يكون ترك استعباده نعمة وهمزة الإنكار مقدرة فكأنه يقول: أوتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ولم تعبدني هذا، وأنت ترى أن فيه تقديرا لما لا دليل عليه من جهة اللفظ ولا إشارة.

ومنها: أنه إنكار لأصل النعمة عليه لمكان تعبيده بني إسرائيل كأنه يقول: إن تربيتك لي ليست نعمة يمن بها علي لأنك عبدت قومي فأحبطت به عملك فقوله: ﴿أن عبدت﴾ إلخ في مقام التعليل للإنكار هذا، وهذا الوجه وإن كان أقرب إلى الذهن من سابقه لكن هذا الجواب غير تام معنى فإن تعبيده لبني إسرائيل لا يغير حقيقة ما له من الصنيعة عند موسى في تربيته وليدا.

ومنها: أن المعنى أن هذه النعمة التي تمن بها علي من التربية إنما سببه ظلمك بني إسرائيل بتعبيدهم فاضطرت أمي لذلك أن ألقتني في اليم فأخذتني فربيتني فإذ كانت هذه التربية مسببة عن ظلمك بالتعبيد فليست بنعمة هذا والشأن في استفادة هذا المعنى من لفظ الآية.

ومنها: أن الذي رباني أمي وغيرها من بني إسرائيل حيث استعبدتهم فأمرتهم فربوني فليست هذه التربية نعمة منك تمنها علي لانتهائها إلى التعبيد ظلما هذا، وهذا الوجه أبعد من سابقه من لفظ الآية.

ومنها: أن ذلك اعتراف منه (عليه السلام) بنعمة فرعون عليه والمعنى وتلك التربية نعمة منك تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركت تعبيدي هذا وأنت خبير بأن لا دليل على ما قدره من قوله: وتركت تعبيدي.

قوله تعالى: ﴿قال فرعون وما رب العالمين - إلى قوله - من المسجونين﴾ لما كلم فرعون موسى (عليه السلام) في معنى رسالته قادحا فيها فتلقى الجواب بما كان فيه إفحامه أخذ يكلمه في خصوص مرسله وقد أخبره أن الذي أرسله هو رب العالمين فراجعه فيه واستوضحه بقوله: ﴿وما رب العالمين﴾ إلى تمام سبع آيات.

واتضاح المراد منها يتوقف على تذكر أصول مذاهب الوثنية في أمر الربوبية وقد تقدمت الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة من هذا الكتاب كرارا.

فهؤلاء يرون أن وجود الأشياء ينتهي إلى موجد واجب الوجود هو واحد لا شريك له في وجوب وجوده هو أجل من أن يحده حد في وجوده وأعظم من أن يحيط به فهم أو يناله إدراك، ولذلك لا يجوز عبادته لأن العبادة نوع توجه إلى المعبود والتوجه إدراك.

ولذلك بعينه عدلوا عن عبادته والتقرب إليه إلى التقرب إلى أشياء من خلقه ذوي وجودات شريفة نورية أو نارية، هي مقربة إليه فانية فيه من الملائكة والجن والقديسين من البشر المتخلصين من ألواث المادة الفانين في اللاهوت الباقين بها ومنهم الملوك العظام أو بعضهم عند قدماء الوثنية وكان من جملتهم فرعون وموسى وبالجملة كانوا يعبدونهم بعبادة أصنامهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم بمعنى أن يفيضوا إليهم من الخير الذي يفيض عنهم كما في الملائكة أو لا يصيبوهم بالشر الذي يترشح عنهم كما في الجن فإن كلا من هؤلاء المعبودين يرجع إليه تدبير أمر من أمور العالم الكلية كالحب والبغض والسلم والحرب والرفاهية وغيرها أو صقع من أصقاعه كالسماء والأرض والإنسان ونحوها.

فهناك أرباب وآلهة يتصرف كل منهم في العالم الذي يرجع إليه تدبيره كإله عالم الأرض وإله عالم السماء وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسو البشر، وإله عالم الآلهة وهو الله سبحانه فهو إله الآلهة ورب الأرباب.

إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن لا معنى صحيحا لقولنا: رب العالمين عند الوثنيين نظرا إلى أصولهم إذ لو أريد به بعض هذه الموجودات الشريفة الممكنة بأعيانهم فهو رب عالم من عوالم الخلقة وهو العالم الذي يباشر التصرف فيه كعالم السماء وعالم الأرض مثلا ولو أريد به الله سبحانه فهو رب عالم الأرباب وإله عالم الآلهة فقط دون جميع العالمين ولو أريد غير الطائفتين من الرب الواجب الوجود والأرباب الممكنة الوجود فلا مصداق له معقولا.

فقوله: ﴿قال فرعون وما رب العالمين﴾ سؤال منه عن حقيقة رب العالمين بيانه أن فرعون كان وثنيا يعبد الأصنام وهو مع ذلك يدعي الألوهية، أما عبادته الأصنام فلقوله تعالى: ﴿ويذرك وآلهتك﴾ الأعراف: 127، وأما دعواه الألوهية فللآية المذكورة ولقوله تعالى: ﴿فقال أنا ربكم الأعلى﴾ النازعات: 24.

ولا منافاة عند الوثنية بين كون الشيء إلها ربا وبين كونه مربوبا لرب آخر لأن الربوبية هو الاستقلال في تدبير شيء من العالم وهو لا ينافي الإمكان والمربوبية لشيء آخر وكل رب عندهم مربوب لآخر إلا الله سبحانه فهو رب الأرباب لا رب فوقه وإله الآلهة لا إله له.

وكان الملك عند الوثنية ظهورا من اللاهوت في بعض النفوس البشرية بالسلطة ونفوذ الحكم فكان يعبد الملوك كما يعبد أرباب الأصنام وكذلك رؤساء البيوت في بيوتهم، وكان فرعون وثنيا يعبد الآلهة وهو ملك القبط يعبده قومه كسائر الآلهة.

فلما سمع من موسى وهارون قولهما: ﴿إنا رسول رب العالمين﴾ تعجب منه إذ لم يعقل له معنى محصلا إذ لو أريد به الواجب وهو الله سبحانه فهو عنده رب عالم الأرباب دون جميع العالمين ولو أريد به بعض الممكنات الشريفة من الآلهة كبعض الملائكة وغيرهم فهو أيضا عنده رب عالم من عوالم الخلقة دون جميع العالمين فما معنى رب العالمين.

ولذلك قال: ﴿وما رب العالمين﴾ فسأل عن حقيقة الموصوف بهذه الصفة بما هو موصوف بهذه الصفة ولم يسأل عن حقيقة الله سبحانه فإنه لوثنيته كان معتقدا بوجوده مذعنا له وهو يرى كسائر الوثنيين أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقته كيف؟ وهو أساس مذهبهم الذي يبنون عليه عبادة سائر الآلهة والأرباب كما سمعت.

وقوله: ﴿قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين﴾ جواب موسى (عليه السلام) عن سؤاله: ﴿وما رب العالمين﴾ وهو خبر لمبتدأ محذوف، ومحصل المعنى على ما يعطيه المطابقة بين السؤال والجواب: هو رب السماوات والأرض وما بينهما التي تدل بوجود التدبير فيها وكونه تدبيرا واحدا متصلا مرتبطا على أن لها مدبرا - ربا - واحدا على ما يراه الموقنون السالكون سبيل اليقين من البرهان والوجدان.

وبتعبير آخر مرادي بالعالمين السماوات والأرض وما بينهما التي تدل بالتدبير الواحد الذي فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا، ومرادي برب العالمين ذلك الرب الواحد الذي تدل عليه وهذه دلالة يقينية يجدها أهل اليقين الذين يتعاطون البرهان والوجدان.

فإن قلت: لم يطلب فرعون من موسى (عليه السلام) إلا أن يعرفه ما هذا الذي يسميه رب العالمين؟ وما حقيقته؟ لكونه غير معقول عنده فلم يسأل إلا التصور فما معنى قوله: ﴿إن كنتم موقنين﴾ واليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلا.

على أنه (عليه السلام) لم يأت في جواب فرعون بشيء غير أنه وضع لفظ السماوات والأرض وما بينهما موضع لفظ العالمين فكان تفسيرا للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيد وعمرو وبكر فلم يفد بالأخرة إلا التصور الأول ولا تأثير لليقين في ذلك.

قلت: كون فرعون يسأله أن يصور له ﴿رب العالمين﴾ تصويرا مسلم لا شك فيه لكن موسى بدل القول بوضع ﴿السماوات والأرض وما بينهما﴾ مكان العالمين وهو يدل على ارتباط بعض الأجزاء ببعض والاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها والنظام الجاري عليها ثم قيده بقوله: ﴿إن كنتم موقنين﴾ ليدل على أن أهل اليقين يصدقون من ذلك بوجود مدبر واحد لجميع العالمين.

فكأنه قيل له: ما تريد برب العالمين؟ فقال: أريد به ما يريده أهل اليقين إذ يستدلون بارتباط التدبير واتصاله في عوالم السماوات والأرض وما بينهما على أن لجميع هذه العوالم مدبرا واحدا وربا لا شريك له في ربوبيته لها وإذ كانوا يصدقون بوجود رب واحد للعالمين فهم يتصورونه بوجه تصورا إذ لا معنى للتصديق بلا تصور.

وبعبارة موجزة: رب العالمين هو الذي يوقن الموقنون بربوبيته لجميع السماوات والأرض وما بينهما إذا نظروا إليها وشاهدوا وحدة التدبير الذي فيها.

والاحتجاج بتحقق التصديق على تحقق التصور قبله أقوى ما يمكن أن يحتج به على أنه تعالى مدرك بوجه ومتصور تصورا صحيحا وإن استحال أن يدرك بكنهه ولا يحيطون به علما.

وقد ظهر بذلك كله أولا: أن الجواب إنما هو بإحالته في مسئوله إلى ما يتصوره منه الموقنون إذ يصدقون بوجوده.

وثانيا: أن الذي أشير إليه من الحجة في الآية هو البرهان على توحيد الربوبية المأخوذ من وحدة التدبير إذ هو الذي يمسه الحاجة قبال الوثنية المدعين للشركاء في الربوبية.

وبذلك يظهر فساد ما ذكروا أن العلم بحقيقة الذات لما كان ممتنعا عدل موسى (عليه السلام) عن تعريف الحقيقة بالحد إلى تعريفه تعالى بصفاته فقال: رب السماوات والأرض وما بينهما وأشار بقوله: ﴿إن كنتم موقنين﴾ إلى دلالتها بحدوثها على أن محدثها ذات واحدة واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها شيء غيرها.

وجه الفساد ما عرفت أن الوثنية قائلون باستحالة العلم بحقيقة الذات وكنهها، وأن الموجد ذات واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها غيره، وأن الآلهة من دون الله موجودات ممكنة الوجود كل منها مدبر لجهة من جهات العالم وهي جميعا مخلوقة لله فما قرروه في معنى الآية لا يجدي في مقام المخاصمة معهم شيئا.

وقوله: ﴿قال لمن حوله ألا تستمعون﴾ أي ألا تصغون إلى ما يقول موسى؟ والاستفهام للتعجيب يريد أن يصغوا إليه فيتعجبوا من قوله حيث يدعي رسالة رب العالمين، وإذا سئل ما رب العالمين؟ أعاد الكلمة ثانيا ولم يزد على ما بدأ به شيئا.

وهذا تمويه منه عليهم يريد به الستر على الحق الذي لاح من كلام موسى (عليه السلام) فإنه إنما قال إن جميع العالمين تدل بوحدة التدبير الذي يشاهده أهل اليقين فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا هو الذي تسألني عنه، وهو يفسر كلامه أنه يقول: أنا رسول رب العالمين، فإذا سألته ما رب العالمين؟ يجيبني بأنه رب العالمين.

وبما تقدم بأن عدم سداد قولهم في تفسير هذا التعجيب أن مراده أني سألته عن الذات فأجاب بالصفة وذلك أن السؤال إنما هو عن الذات من حيث صفته على ما تقدم بيانه، ولم يفسر موسى الذات بالوصف بل غير قوله: رب العالمين إلى قوله: ﴿رب السماوات والأرض﴾ فوضع ثانيا قوله: ﴿السماوات والأرض﴾ مكان قوله أولا: ﴿العالمين﴾ كأنه يومىء إلى أن فرعون لم يفهم معنى العالمين.

وقوله: ﴿قال ربكم ورب آبائكم الأولين﴾ جواب موسى (عليه السلام) ثانيا فإنه لما رأى تمويه فرعون على من حوله وقد كان أجاب عن سؤاله ﴿وما رب العالمين﴾ بتفسير العالمين من العالم الكبير كالسماوات والأرض وما بينهما عدل ثانيا إلى ما يكون أصرح في المقصود فذكر ربوبيته تعالى لعالمي الإنسانية فإن العالم الجماعة من الناس أو الأشياء فعالمو الإنسان هو الجماعات من الحاضرين والماضين ولذلك قال: ﴿ربكم ورب آبائكم الأولين﴾ .

فإن فرعون ما كان يدافع في الحقيقة إلا عن نفسه لما كان يدعي الألوهية فكان يحتال في أن يبطل تعلق ربوبية الرب به في ضمن تعلقه بالعالمين لاستلزام ذلك بطلان ربوبية الأرباب وهو من جملتهم وإن كان يرى أنه أعلاهم وأهمهم كما حكى الله تعالى عنه: ﴿فقال أنا ربكم الأعلى﴾ النازعات: 24.

﴿وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري﴾ القصص: 38.

فكأنه كان يقول إن أردت برب العالمين الله تعالى فهو رب الأرباب لا غير وإن أردت غيره من الآلهة فكل منهم رب عالم خاص فما معنى رب العالمين؟ فأجاب موسى بما حاصله أن ليس في الوجود إلا رب واحد فيكون رب العالمين فهو ربكم وقد أرسلني إليكم.

وكان محصل تمويه فرعون أن موسى لم يجبه بشيء إذ كرر اللفظ فأجابه موسى ثانيا بالتصريح على أن رب العالمين هو رب عالمي الإنسانية من الحاضرين والماضين وبذلك تنقطع حيلته.

وقوله: ﴿قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قول فرعون ثانيا وقد سمى موسى رسولا تهكما واستهزاء وأضافه إلى من حوله ترفعا من أن يكون رسولا إليه، وقد رماه بالجنون مستندا إلى قوله (عليه السلام): ﴿ربكم ورب آبائكم﴾ إلخ.

كأنه يقول: إنه لمجنون لما في كلامه من الاختلال الكاشف عن الاختلال في تعقله يدعي رسالة رب العالمين؟ فأسأله ما رب العالمين فيكرر اللفظ تقريبا أولا ثم يفسره بأنه ربكم ورب آبائكم الأولين.

وقوله: ﴿قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون﴾ ظاهر السياق أن المراد بالمشرق جهة شروق الشمس وسائر الأجرام النيرة السماوية وطلوعها وبالمغرب الجهة التي تغرب فيها بحسب الحس، وبما بينهما ما بين الجهتين فيشمل العالم المشهود ويساوي السماوات والأرض وما بينهما.

فيكون إعادة لمعنى الجواب الأول بتقرير آخر وهو مشتمل على ما اشتمل عليه من نكتة اتصال التدبير واتحاده فإن للشروق ارتباطا بالغروب والمشرق والمغرب يتحققان طرفين لوسط بينهما، كما أن للسماء أرضا ولهما أمر بينهما وهذا النوع من الاتحاد لا يقبل إلا تدبيرا متصلا واحدا، وكما أن كل أمة حاضرة لها ارتباط وجودي بالأمم الماضية ارتباط الأخلاف بالأسلاف فالنوع واحد والتدبير واحد فالمدبر واحد.

وقد بدل قوله في الجواب الأول: ﴿إن كنتم موقنين﴾ من قوله هاهنا: ﴿إن كنتم تعقلون﴾ تعريضا له حيث قال لمن حوله: ﴿ألا تستمعون﴾ استهزاء به وإهانة له، ثم رماه ثانيا بالجنون واختلال الكلام فأشار (عليه السلام) بقوله: ﴿إن كنتم تعقلون﴾ إلى أنهم هم المحرومون من نعمة التعقل والتفقه ولو كانوا يعقلون لفهموا أن جوابه الأول ليس بتكرار غير مفيد ولكفاهم حجة على توحيد الرب وأن القائم بتدبير جميع العالمين من السماوات والأرض وما بينهما مدبر واحد لا مدبر سواه ولا رب غيره.

وقد تبين بما ذكر أن الآية أعني قوله: ﴿رب المشرق﴾ إلخ، تقرير آخر لقوله في الجواب الأول: ﴿رب السماوات والأرض وما بينهما﴾ وأنه برهان على وحدة المدبر من طريق وحدة التدبير وفي ذلك تعريف لرب العالمين بأنه المدبر الواحد الذي يدل عليه التدبير الواحد في جميع العالمين، نعم البيان الذي يشير إليه هذه الآية أوضح لاشتماله على معنى الشروق والغروب وكونهما من التدبير ظاهر.

وقد ذكروا أن الحجج المودعة في الآيات حجج على وحدانية ذات الواجب بالذات ونفي الشريك في وجوب الوجود وقد تقدم عدم استقامته البتة.

وقوله: ﴿قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين﴾ تهديد منه لموسى (عليه السلام) لو دام على ما يقول به من ربوبية رب العالمين مدعيا أنه رسول منه وهذا دأب الجاهل المعاند إذا انقطع عن الحجة أخذ في التهديد وتشبث بالوعيد.

واتخاذ إله غيره كناية عن القول بربوبية رب العالمين الذي يدعو إليه موسى وإنما لم يذكره صونا للسانه عن التفوه باسمه، ولم يعبأ بسائر الآلهة التي كانوا يعبدونها استكبارا وعلوا، وكأن السجن كان جزاء المعرضين عنه المنكرين لألوهيته.

والظاهر أن اللام في المسجونين للعهد، والمعنى: لو دمت على ما تقول لأجعلنك في زمرة الذين في سجني على ما تعلم من سوء حالهم وشدة عذابهم، ولهذا لم يعدل عن هذا التعبير إلى مثل قولنا: لأسجننك مع اختصاره.

قوله تعالى: ﴿قال أولو جئتك بشيء مبين﴾ القائل هو موسى (عليه السلام) والمراد بشيء مبين شيء يبين ويظهر صحة دعواه وهو آية الرسالة التي تدل على صحة دعوى الرسالة من مدعيه فإن الآية المعجزة إنما تدل على صدق الرسول في دعواه الرسالة وأما المعارف الإلهية التي يدعو إليها كالتوحيد والمعاد وما يتعلق بهما فالسبيل إلى إثباته الحجة البرهانية وعلى ذلك كانت تجري سيرة الأنبياء في دعوتهم وقد تقدم كلام فيه في الجزء الأول من الكتاب.

والمعنى: قال موسى: أتجعلني من المسجونين ولو أتيتك بشيء يوضح صدقي فيما ادعيت من الرسالة.

قوله تعالى: ﴿قال فأت به إن كنت من الصادقين﴾ القائل فرعون وقد فرع أمره بإتيانه على استفهام موسى المشعر بأنه يدعي أن عنده شيئا مبينا ولذا قيد الأمر بالإتيان بقوله: ﴿إن كنت من الصادقين﴾ أي إن كنت صادقا في أن عندك شيئا كذلك.

قوله تعالى: ﴿فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين﴾ هاتان الآيتان اللتان أوتيهما موسى ليلة الطور، والثعبان: الحية العظيمة وكونه مبينا ظهور واقعيته بحيث لا يرتاب فيه، والمراد بنزع يده نزعه من جيبه بعد وضعها فيه كما في سورتي: النمل الآية: 12 والقصص الآية: 32.

قوله تعالى: ﴿قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فما ذا تأمرون﴾ القائل فرعون وقد قال لموسى: ﴿فأت به إن كنت من الصادقين﴾ رجاء أن يأتي بأمر فيه موضع معارضة ومناقشة فلما أتى بما لا مغمض فيه لم يجد بدا دون أن يبهته بأنه ساحر عليم.

ولذا أتبع رميه بالسحر بقوله: ﴿يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره﴾ إغراء لهم عليه وحثا لهم على أن يتفقوا معه على دفعه بأي وسيلة ممكنة.

وقوله: ﴿فما ذا تأمرون﴾ لعل المراد بالأمر الإشارة عليه لما أن المشير يشير على من يستشيره بلفظ الأمر فالمعنى إذا كان الشأن هذا فما ذا تشيرون علي أن أعامله به حتى أعمل به وذلك أنه كان يرى نفسه ربهم الأعلى ويراهم عبيده ولا يناسب ذلك حمل الأمر على معناه المتعارف.

ويؤيد هذا المعنى أنه تعالى حكى في موضع آخر هذا الكلام عن الملإ أنفسهم إذ قال قال: ﴿الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فما ذا تأمرون﴾ الأعراف: 110.

وظاهر أن المراد بأمرهم إشارتهم على فرعون أن افعل بهما كذا.

وقيل: إن سلطان المعجزة بهره وأدهشه فضل عن عجبه وتكبره وغشيته المسكنة فلم يدر ما ذا يقول؟ ولا كيف يتكلم؟ قوله تعالى: ﴿قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم﴾ القائلون هم الملأ حوله وهم أشراف قومه، وقوله: ﴿أرجه﴾ بسكون الهاء على القراءة الدائرة وهو أمر من الإرجاء بمعنى التأخير أي أخر موسى وأخاه وأمهلهما ولا تعجل إليهما بسياسة أو سجن ونحوه حتى تعارض سحرهما بسحر مثله.

وقرىء ﴿أرجه﴾ بكسر الهاء و﴿أرجئه﴾ بالهمزة وضم الهاء وهما أفصح من القراءة الدائرة، والمعنى واحد على أي حال.

وقوله: ﴿وابعث في المدائن حاشرين﴾ المدائن جمع مدينة وهي البلدة والحاشر من الحشر وهو إخراج إلى مكان بإزعاج أي ابعث في البلاد عدة من شرطائك وجنودك يحشرون كل سحار عليم فيها ويأتوك بهم لتعارضهما بسحرهم.

والتعبير بالسحارون الساحر للإشارة إلى أن هناك من هو أعلم منه بفنون السحر وأكثر عملا.

قوله تعالى: ﴿فجمع السحرة لميقات يوم معلوم﴾ هو يوم الزينة الذي اتفق موسى وفرعون على جعله ميقاتا للمعارضة كما في سورة طه ففي الكلام إيجاز وتلخيص.

قوله تعالى: ﴿وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين﴾ الاستفهام لحث الناس وترغيبهم على الاجتماع.

قال في الكشاف، ما حاصله أن المراد باتباع السحرة اتباعهم في دينهم - وكانوا متظاهرين بعبادة فرعون كما يظهر من سياق الآيات التالية - وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى لا اتباع السحرة، وإنما ساقوا كلامهم مساق الكناية ليحملوا به السحرة على الاهتمام والجد في المغالبة.

قوله تعالى: ﴿فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين﴾ الاستفهام في معنى الطلب، وقد قالوا: إن كنا ولم يقولوا، إذا كنا نحن الغالبين ليفيد القطع بالغلبة كما يفيده قولهم بعد: ﴿بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون﴾ بل ألقوه في صورة الشك ليكون أدعى لفرعون إلى جعل الأجر.

وقد أثر ذلك أثره حيث جعل لهم أجرا وزاد عليه الوعد بجعلهم من المقربين.

قوله تعالى: ﴿قال لهم موسى ألقوا﴾ إلى قوله - تلقف ما يأفكون﴾ الحبال جمع حبل، والعصي جمع عصا، واللقف الابتلاع بسرعة، وما يأفكون من الإفك بمعنى صرف الشيء عن وجهه سمي السحر إفكا لأن فيه صرف الشيء عن صورته الواقعية إلى صورة خيالية، ومعنى الآيات ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون﴾ يريد أن السحرة لما رأوا ما رأوا من الآيات الباهرة بهرهم وأدهشهم ذلك فلم يتمالكوا أنفسهم دون أن خروا على الأرض ساجدين لله سبحانه فاستعير الإلقاء لخرورهم على الأرض للدلالة على عدم تمالك أنفسهم كأنهم قد طرحوا على الأرض طرحا.

وقوله: ﴿قالوا آمنا برب العالمين﴾ فيه إيمان بالله سبحانه إيمان توحيد لما تقدم أن الاعتراف بكونه تعالى رب العالمين لا يتم إلا مع التوحيد ونفي الآلهة من دونه.

وقوله: ﴿رب موسى وهارون﴾ فيه إشارة إلى الإيمان بالرسالة مضافا إلى التوحيد.

قوله تعالى: ﴿قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون﴾ إلى آخر الآية، القائل فرعون، والمراد بقوله: ﴿آمنتم له قبل أن آذن لكم﴾ آمنتم من دون إذن مني كما في قوله تعالى: ﴿لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي﴾ وليس مفاده أن الإذن كان ممكنا أو متوقعا منه كما قيل.

وقوله: ﴿إنه لكبيركم الذي علمكم السحر﴾ بهتان آخر يبهت به موسى (عليه السلام) ليصرف به قلوب قومه وخاصة ملإهم عنه.

وقوله: ﴿فلسوف تعلمون﴾ تهديد لهم في سياق الإبهام للدلالة على أنه في غنى عن ذكره وأما هم فسوف يعلمونه.

وقوله: ﴿لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين﴾ القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس والتصليب جعل المجرم على الصليب، وقد تقدم نظير الآية في سورتي الأعراف وطه.

قوله تعالى: ﴿قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون﴾ الضير هو الضرر، وقوله: ﴿إنا إلى ربنا منقلبون﴾ تعليل لقولهم: لا ضير أي إنا لا نستضر بهذا العذاب الذي توعدنا به لأنا نصبر ونرجع بذلك إلى ربنا وما أكرمه من رجوع.

قوله تعالى: ﴿إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين﴾ تعليل لما يستفاد من كلامهم السابق أنهم لا يخافون الموت والقتل بل يشتاقون إلى لقاء ربهم يقولون: لا نخاف من عذابك شيئا لأنا نرجع به إلى ربنا ولا نخاف الرجوع لأنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا بسبب كوننا أول المؤمنين بموسى وهارون رسولي ربنا.

وفتح الباب في كل خير له أثر من الخير لا يرتاب فيه العقل السليم فلو أن الله سبحانه أكرم مؤمنا لإيمانه بالمغفرة والرحمة لم تطفر مغفرته ورحمته أول الفاتحين لهذا الباب والواردين هذا المورد.

قوله تعالى: ﴿وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون﴾ شروع في سرد الشطر الثاني من القصة وهو وصف عذاب آل فرعون بسبب ردهم دعوة موسى وهارون (عليهما السلام) و، قد كان الشطر الأول رسالة موسى وهارون إليهم ودعوتهم إلى التوحيد، والإسراء والسري السير بالليل، والمراد بعبادي بنو إسرائيل وفي هذا التعبير نوع إكرام لهم.

وقوله: ﴿إنكم متبعون﴾ تعليل للأمر أي سر بهم ليلا ليتبعكم آل فرعون وفيه دلالة على أن لله في اتباعهم أمرا وأن فيه فرج بني إسرائيل وقد صرح بذلك في قوله: ﴿فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون﴾ الدخان: 24.

قوله تعالى: ﴿فأرسل فرعون في المدائن حاشرين -إلى قوله- ثم أغرقنا الآخرين﴾ قصة غرق آل فرعون وإنجاء بني إسرائيل في أربع عشرة آية وقد أوجز في الكلام بحذف بعض فصول القصة لظهوره من سياقها كخروج موسى وبني إسرائيل ليلا من مصر لدلالة قوله: ﴿أن أسر بعبادي﴾ عليه وعلى هذا القياس.

فقال تعالى: ﴿فأرسل فرعون﴾ أي فأسرى موسى بعبادي فلما علم فرعون بذلك أرسل ﴿في المدائن﴾ التي تحت سلطانه رجالا ﴿حاشرين﴾ يحشرون الناس ويجمعون الجموع قائلين للناس ﴿إن هؤلاء﴾ بني إسرائيل ﴿لشرذمة قليلون﴾ والشرذمة من كل شيء بقيته القليلة فتوصيفها بالقلة تأكيد ﴿وإنهم لنا لغائظون﴾ يأتون من الأعمال ما يغيظوننا به ﴿وإنا لجميع﴾ مجموع متفق فيما نعزم عليه ﴿حاذرون﴾ نحذر العدو أن يغتالنا أو يمكر بنا وإن كان ضعيفا قليلا، والمطلوب بقولهم هذا وهو لا محالة بلاغ من فرعون لحث الناس عليهم.

﴿فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم فيه قصورهم المشيدة وبيوتهم الرفيعة﴾ ولما كان خروجهم عن مكر إلهي بسبب داعية الاستعلاء والاستكبار التي فيهم نسب إلى نفسه أنه أخرجهم ﴿كذلك﴾ أي الأمر كذلك ﴿وأورثناها﴾ أي تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم ﴿بني إسرائيل﴾ حيث أهلكنا فرعون وجنوده وأبقينا بني إسرائيل بعدهم فكانوا هم الوارثين.

﴿فأتبعوهم﴾ أي لحقوا ببني إسرائيل ﴿مشرقين﴾ أي داخلين في وقت شروق الشمس وطلوعها ﴿فلما تراءا الجمعان﴾ أي دنا بعضهم من بعض فرأى كل من الجمعين جمع فرعون وجمع موسى الآخر، ﴿قال أصحاب موسى من بني إسرائيل خائفين فزعين ﴿إنا لمدركون﴾ سيدركنا جنود فرعون.

﴿قال موسى كلا﴾ لن يدركونا ﴿إن معي ربي سيهدين﴾ والمراد بهذه المعية معية الحفظ والنصرة وهي التي وعدها له ربه أول ما بعثه وأخاه إلى فرعون: ﴿إنني معكما﴾ وأما معية الإيجاد والتدبير فالله سبحانه مع موسى وفرعون على نسبة سواء، وقوله: ﴿سيهدين﴾ أي سيدلني على طريق لا يدركني فرعون معها.

﴿فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق﴾ والانفلاق انشقاق الشيء وبينونة بعضه من بعض ﴿فكان كل فرق﴾ أي قطعة منفصلة من الماء ﴿كالطود﴾ وهو القطعة من الجبل ﴿العظيم﴾ فدخلها موسى ومن معه من بني إسرائيل.

﴿وأزلفنا ثم﴾ أي وقربنا هناك ﴿الآخرين﴾ وهم فرعون وجنوده ﴿وأنجينا موسى ومن معه أجمعين﴾ بحفظ البحر على حاله وهيئته حتى قطعوه وخرجوا منه، ﴿ثم أغرقنا الآخرين﴾ بإطباق البحر عليهم وهم في فلقه.

قوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم﴾ ظاهر السياق - ويؤيده سياق القصص الآتية - أن المشار إليه مجموع ما ذكر في قصة موسى من بعثه ودعوته فرعون وقومه وإنجاء بني إسرائيل وغرق فرعون وجنوده، ففي ذلك كله آية تدل على توحيده تعالى بالربوبية وصدق الرسالة لمن تدبر فيها.

وقوله: ﴿وما كان أكثرهم مؤمنين﴾ أي وما كان أكثر هؤلاء الذين ذكرنا قصتهم مؤمنين مع ظهور ما دل عليه من الآية وعلى هذا فقوله بعد كل من القصص الموردة في السورة: ﴿وما كان أكثرهم مؤمنين﴾ بمنزلة أخذ النتيجة وتطبيق الشاهد على المستشهد له كأنه يقال بعد إيراد كل واحدة من القصص: هذه قصتهم المتضمنة لآيته تعالى وما كان أكثرهم مؤمنين كما لم يؤمن أكثر قومك فلا تحزن عليهم فهذا دأب كل من الأمم التي بعثنا إليهم رسولا فدعاهم إلى توحيد الربوبية.

وقيل: إن الضمير في ﴿أكثرهم﴾ راجع إلى قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعنى: أن في هذه القصة آية وما كان أكثر قومك مؤمنين بها ولا يخلو من بعد.

وقوله: ﴿وإن ربك لهو العزيز الرحيم﴾ تقدم تفسيره في أول السورة.