الآيات 1-9

طسم ﴿1﴾ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿2﴾ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿3﴾ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴿4﴾ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴿5﴾ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴿6﴾ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴿7﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿8﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿9﴾

بيان:

غرض السورة تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبال ما كذبه قومه وكذبوا بكتابه النازل عليه من ربه - على ما يلوح إليه صدر السورة: تلك آيات الكتاب المبين - وقد رموه تارة بأنه مجنون وأخرى بأنه شاعر، وفيها تهديدهم مشفعا ذلك بإيراد قصص جمع من الأنبياء وهم موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهما السلام) وما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلى به نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يحزن بتكذيب أكثر قومه وليعتبر المكذبون.

والسورة من عتائق السور المكية وأوائلها نزولا وقد اشتملت على قوله تعالى: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾.

وربما أمكن أن يستفاد من وقوع هذه الآية في هذه السورة ووقوع قوله: ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين﴾ في سورة الحجر وقياس مضمونيهما كل مع الأخرى أن هذه السورة أقدم نزولا من سورة الحجر وظاهر سياق آيات السورة أنها جميعا مكية واستثنى بعضهم الآيات الخمس التي في آخرها، وبعض آخر قوله: ﴿أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ وسيجيء الكلام فيهما.

قوله تعالى: ﴿طسم تلك آيات الكتاب المبين﴾ الإشارة بتلك إلى آيات الكتاب مما سينزل بنزول السورة وما نزل قبل، وتخصيصها بالإشارة البعيدة للدلالة على علو قدرها ورفعة مكانتها، والمبين من أبان بمعنى ظهر وانجلى.

والمعنى: تلك الآيات العالية قدرا الرفيعة مكانا آيات الكتاب الظاهر الجلي كونه من عند الله سبحانه بما فيه من سمة الإعجاز وإن كذب به هؤلاء المشركون المعاندون ورموه تارة بأنه من إلقاء شياطين الجن وأخرى بأنه من الشعر.

قوله تعالى: ﴿لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين﴾ البخوع هو إهلاك النفس عن وجد، وقوله: ﴿ألا يكونوا مؤمنين﴾ تعليل للبخوع، والمعنى: يرجى منك أن تهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم بآيات هذا الكتاب النازل عليك.

والكلام مسوق سوق الإنكار والغرض منه تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين﴾ متعلق المشية محذوف لدلالة الجزاء عليه، وقوله: ﴿فظلت﴾ إلخ، ظل فعل ناقص اسمه ﴿أعناقهم﴾ وخبره ﴿خاضعين﴾ ونسب الخضوع إلى أعناقهم وهو وصفهم أنفسهم لأن الخضوع أول ما يظهر في عنق الإنسان حيث يطأطىء رأسه تخضعا فهو من المجاز العقلي.

والمعنى: إن نشأ أن ننزل عليهم آية تخضعهم وتلجئهم إلى القبول وتضطرهم إلى الإيمان ننزل عليهم آية كذلك فظلوا خاضعين لها خضوعا بينا بانحناء أعناقهم.

وقيل: المراد بالأعناق الجماعات وقيل: الرؤساء والمقدمون منهم، وقيل: هو على تقدير مضاف والتقدير فضلت أصحاب أعناقهم خاضعين لها.

وهو أسخف الوجوه.

قوله تعالى: ﴿وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين﴾ بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله وتمكن الإعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلما تجدد عليهم ذكر من الرحمن ودعوا إليه دفعه بالإعراض.

فالغرض بيان استمرارهم على الإعراض عن كل ذكر أتاهم لا أنهم يعرضون عن محدث الذكر ويقبلون إلى قديمه وفي ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أن الذكر الذي يأتيهم إنما ينشأ عن صفة الرحمة العامة التي بها صلاح دنياهم وأخراهم.

وقد تقدم في تفسير أول سورة الأنبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع.

قوله تعالى: ﴿فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون تفريع على ما تقدم من استمرار إعراضهم، وقوله: ﴿فسيأتيهم﴾ إلخ تفريع على التفريع والأنباء جمع نبإ وهو الخبر الخطير، والمعنى لما استمر منهم الإعراض عن كل ذكر يأتيهم تحقق منهم وثبت عليهم أنهم كذبوا، وإذ تحقق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون من آيات الله، وتلك الأنباء العقوبات العاجلة والآجلة التي ستحيق بهم.

قوله تعالى: ﴿أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم﴾ الاستفهام للإنكار التوبيخي والجملة معطوف على مقدر يدل عليه المقام والتقدير أصروا واستمروا على الإعراض وكذبوا بالآيات ولم ينظروا إلى هذه الأزواج الكريمة من النباتات التي أنبتناها في الأرض.

فالرؤية في قوله: ﴿أولم يروا﴾ مضمنة معنى النظر ولذا عديت بإلى، والظاهر أن المراد بالزوج الكريم.

وهو الحسن على ما قيل: النوع من النبات وقد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجا، وقيل: المراد بالزوج الكريم الذي أنبته الله يعم الحيوان وخاصة الإنسان بدليل قوله: ﴿والله أنبتكم من الأرض نباتا﴾.

قوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين﴾ الإشارة بذلك إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كل زوج كريم حيث إن فيه إيجادا لكل زوج منه وتتميم نقائص كل من الزوجين بالآخر وسوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما وفيه هداية كل إلى سعادته الأخيرة ومن كانت هذه سنته فكيف يهمل أمر الإنسان ولا يهديه إلى سعادته ولا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه وآخرته.

هذا ما تدل عليه آية النبات.

وقوله: ﴿وما كان أكثرهم مؤمنين﴾ أي لم يكن المترقب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الإعراض وبطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله: ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾ يونس: 74 وتعليل الكفر والفسوق برسوخ الملكات الرذيلة واستحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصى.

ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: إن المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لأنه مضافا إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، مما لا دليل على أنه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه لسبق الدلالة على أن ملكة الإعراض راسخة لم تزل في نفوسهم.

وعن سيبويه أن ﴿كان﴾ في قوله: ﴿وما كان أكثرهم مؤمنين﴾ صلة زائدة والمعنى: وما أكثرهم مؤمنين.

وفيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن المقام بما تقدم من المعنى أوفق.

قوله تعالى: ﴿وإن ربك لهو العزيز الرحيم﴾ فهو تعالى لكونه عزيزا غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذبين لآياته المستهزءين بها ويجازيهم بالعقوبات العاجلة والآجلة، ولكونه رحيما ينزل عليهم الذكر ليهديهم ويغفر للمؤمنين به ويمهل الكافرين.

بحث عقلي متعلق بالعلم قال في روح المعاني، في قوله تعالى ﴿وما كان أكثرهم مؤمنين﴾ قيل: أي وما كان في علم الله تعالى ذلك، واعترض - بناء على أنه يفهم من السياق العلية - بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.

ورد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن يتحقق ويوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزلي ووقوعه تابع له.

وهذه حجة كثيرة الورود في كلام المجبرة وخاصة الإمام الرازي في تفسيره الكبير يستدلون بها على إثبات الجبر ونفي الاختيار ومحصلها أن الحوادث ومنها أفعال الإنسان معلومة لله سبحانه في الأزل فهي ضرورية الوقوع وإلا كان علمه جهلا - تعالى عن ذلك - فالإنسان مجبر عليها غير مختار.

واعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس وأجيب بما ذكره من أن علمه في الأزل تابع لماهية المعلوم لكن المعلوم تابع في وجوده للعلم.

والحجة مضافا إلى فساد مقدماتها بناء ومبنى مغالطة بينة ففيها أولا أن فرض ثبوت ما للماهية في الأزل ووجودها فيها لا يزال يقضي بتقدم الماهية على الوجود وأنى للماهية هذه الأصالة والتقدم؟.

وثانيا: أن مبنى الحجة وكذا الاعتراض والجواب على كون علمه تعالى بالأشياء علما حصوليا نظير علومنا الحصولية المتعلقة بالمفاهيم وقد أقيم البرهان في محله على بطلانه وأن الأشياء معلومة له تعالى علما حضوريا وعلمه علمان: علم حضوري بالأشياء قبل الإيجاد وهو عين الذات وعلم حضوري بها بعد الإيجاد وهو عين وجود الأشياء.

وتفصيل الكلام في محله.

وثالثا: أن العلم الأزلي بمعلومه فيما لا يزال إنما يكون علما بحقيقة معنى العلم إذا تعلق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده ومشخصاته وخصوصياته الوجودية، ومن خصوصيات وجود الفعل أنه حركات خاصة إرادية اختيارية صادرة عن فاعله الخاص مخالفة لسائر الحركات الاضطرارية القائمة بوجوده.

وإذا كان كذلك كانت الضرورة اللاحقة للفعل من جهة تعلق العلم به صفة للفعل الخاص الاختياري بما هو فعل خاص اختياري لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله واختياره وإلا تخلف المعلوم عن العلم لا أن يتعلق العلم بالفعل الاختياري ثم يدفع صفة الاختيار عن متعلقه ويقيم مقامها صفة الضرورة والإجبار.

فقد وضع في الحجة الفعل المطلق مكان الفعل الخاص فعد ضروريا مع أن الضروري تحقق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق والفعل المقيد بالاختيار.

ومن هنا يتبين عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلق العلم الأزلي به فإن تعلق العلم الأزلي بفعل إنما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الذي هو عليه فإن كان اختياريا وجب تحققه اختياريا وإن كان غير اختياري وجب تحققه كذلك.

على أنه لو كان معنى قوله: ﴿وما كان أكثرهم مؤمنين﴾ امتناع إيمانهم لتعلق العلم الأزلي بعدمه لاتخذوه حجة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدوه عذرا لأنفسهم في استنكافهم عن الإيمان كما اعترف به بعض المجبرة.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية - فظلت أعناقهم لها خاضعين﴾ حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تخضع رقابهم يعني بني أمية وهي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر.

أقول: وهذا المعنى رواه الكليني في روضة الكافي، والصدوق في كمال الدين، والمفيد في الإرشاد، والشيخ في الغيبة، والظاهر أنه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه.