الآيات 1-10

تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿1﴾ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿2﴾ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿3﴾ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿4﴾ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴿5﴾ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴿6﴾ إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿7﴾ وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴿8﴾ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴿9﴾ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿10﴾

بيان:

يظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوه أن ينصرف عما هو عليه من التوحيد والدعوة إليه والتعرض لآلهتهم وخوفوه بآلهتهم فنزلت السورة - وهي قرينة سورة ص بوجه - وهي تؤكد الأمر بأن يخلص دينه لله سبحانه ولا يعبأ بآلهتهم وأن يعلمهم أنه مأمور بالتوحيد وإخلاص الدين الذي تواترت الآيات من طريق الوحي والعقل جميعا عليه.

ولذلك نراه سبحانه يعطف الكلام عليه في خلال السورة مرة بعد مرة كقوله في مفتتح السورة: ﴿فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص﴾ ثم يرجع إليه ويقول: ﴿قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين﴾ - إلى قوله - ﴿قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه﴿.

ثم يقول: ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾ إلخ ثم يقول: ﴿أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه﴾ ثم يقول: ﴿قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل﴾ ثم يقول: ﴿قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون﴾ إلى غير ذلك من الإشارات.

ثم عمم الاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية والألوهية من الوحي ومن طريق البرهان وقايس بين المؤمنين والمشركين مقايسات لطيفة فوصف المؤمنين بأجمل أوصافهم وبشرهم بما سيثيبهم في الآخرة مرة بعد مرة وذكر المشركين وأنذرهم بما سيلحقهم من الخسران وعذاب الآخرة مضافا إلى ما يصيبهم في الدنيا من وبال أمرهم كما أصاب الذين كذبوا من الأمم الدارجة من عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر.

ومن ثم وصفت السورة يوم البعث وخاصة في مختتمها بأوضح الوصف وأتمه.

والسورة مكية لشهادة سياق آياتها بذلك وكأنها نزلت دفعة واحدة لما بين آياتها من الاتصال.

والآيات العشر المنقولة تجمع الدعوة من طريق الوحي والحجة العقلية بادئة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم﴾ ﴿تنزيل الكتاب﴾ خبر لمبتدإ محذوف، وهو مصدر بمعنى المفعول فيكون إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و﴿من الله﴾ متعلق بتنزيل والمعنى هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم.

وقيل: ﴿تنزيل الكتاب﴾ مبتدأ و﴿من الله﴾ خبره ولعل الأول أقرب إلى الذهن.

قوله تعالى: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين﴾ عبر بالإنزال دون التنزيل كما في الآية السابقة لأن القصد إلى بيان كونه بالحق وهو يناسب مجموع ما نزل إليه من ربه.

وقوله: ﴿بالحق﴾ الباء فيه للملابسة أي أنزلناه إليك متلبسا بالحق فما فيه من الأمر بعبادة الله وحده حق، وعلى هذا المعنى فرع عليه قوله: ﴿فاعبد الله مخلصا له الدين﴾ والمعنى فإذا كان بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين لأن فيه ذلك.

والمراد بالدين - على ما يعطيه السياق - العبادة ويمكن أن يراد به سنة الحياة وهي الطريقة المسلوكة في الحياة في المجتمع الإنساني، ويراد بالعبادة تمثيل العبودية بسلوك الطريق التي شرعها الله سبحانه والمعنى فأظهر العبودية لله في جميع شئون حياتك باتباع ما شرعه لك فيها والحال أنك مخلص له دينك لا تتبع غير ما شرعه لك.

قوله تعالى: ﴿ألا لله الدين الخالص﴾ إظهار وإعلان لما أضمر وأجمل في قوله: ﴿بالحق﴾ وتعميم لما خصص في قوله: ﴿فاعبد الله مخلصا له الدين﴾ أي إن الذي أوحيناه إليك من إخلاص الدين لله واجب على كل من سمع هذا النداء، ولكون الجملة نداء مستقلا أظهر اسم الجلالة وكان مقتضى الظاهر أن يضمر ويقال: له الدين الخالص.

ومعنى كون الدين الخالص له أنه لا يقبل العبادة ممن لا يعبده وحده سواء عبده وغيره أو عبد غيره وحده.

قوله تعالى: ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ إلى آخر الآية تقدم أن الوثنية يرون أن الله سبحانه أجل من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس فيتنزه تعالى عن أن يقع عليه توجه عبادي منا.

فمن الواجب أن نتقرب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه وهم الذين فوض إليهم تدبير شئون العالم فنتخذهم أربابا من دون الله ثم آلهة نعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسو البشر وهؤلاء هم الأرباب والآلهة بالحقيقة.

أما الأصنام المصنوعة المنصوبة في الهياكل والمعابد فإنما هي تماثيل للأرباب والآلهة وليست في نفسها أربابا ولا آلهة غير أن الجهلة من عامتهم ربما لم يفرقوا بين الأصنام وأرباب الأصنام فعبدوا الأصنام كما يعبد الأرباب والآلهة وكذلك كانت عرب الجاهلية وكذلك الجهلة من عامة الصابئين ربما لم يفرقوا بين أصنام الكواكب والكواكب التي هي أيضا أصنام لأرواحها الموكلة عليها وبين أرواحها التي هي الأرباب والآلهة بالحقيقة عند خاصتهم.

وكيف كان فالأرباب والآلهة هم المعبودون عندهم وهم موجودات ممكنة مخلوقة لله مقربة عنده مفوضة إليهم تدبير أمر العالم لكل بحسب منزلته وأما الله سبحانه فليس له إلا الخلق والإيجاد وهو رب الأرباب وإله الآلهة.

إذا تذكرت ما مر ظهر أن المراد بقوله: ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء﴾ اتخاذهم أربابا يدبرون الأمر بأن يسندوا الربوبية وأمر التدبير إليهم لا إلى الله فهم المدبرون للأمر عندهم ويتفرع عليه أن يخضع لهم ويعبدوا لأن العبادة لجلب النفع أو لدفع الضرر أو شكر النعم وكل ذلك إليهم لتصديهم أمر التدبير دون الله سبحانه.

فالمراد باتخاذهم أولياء اتخاذهم أربابا، ولذا عقب اتخاذ الأولياء بذكر العبادة ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا﴾ فقوله: ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء﴾ مبتدأ خبره ﴿إن الله يحكم﴾ إلخ والمراد بهم المشركون القائلون بربوبية الشركاء وألوهيتهم دون الله إلا ما ذهب إليه جهلتهم من كونه تعالى شريكا لهم في المعبودية.

وقوله: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ تفسير لمعنى اتخاذ الأولياء من دون الله وهو حكاية لقولهم أو بتقدير القول أي يقولون: ما نعبدهم هؤلاء إلا ليقربونا بسبب عبادتنا لهم إلى الله تقريبا فهم عادلون منه تعالى إلى غيره، وإنما سموا مشركين لأنهم يشركون به تعالى غيره حيث يقولون بكونهم أربابا وآلهة للعالم وكونه تعالى ربا وإلها لأولئك الأرباب والآلهة، وأما الشركة في الخلق والإيجاد فلم يقل به لا مشرك ولا موحد.

وقوله: ﴿إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون﴾ قيل: ضمير الجمع للمشركين وأوليائهم أي إن الله يحكم بين المشركين وبين أوليائهم فيما هم فيه يختلفون، وقيل: الضميران راجعان إلى المشركين وخصمائهم من أهل الإخلاص في الدين المفهوم من السياق، والمعنى إن الله يحكم بينهم وبين المخلصين للدين.

وقوله: ﴿إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار﴾ الكفار كثير الكفران لنعم الله أو كثير الستر للحق، وفي الجملة إشعار بل دلالة على أن الحكم يوم القيامة على المشركين لا لهم وأنهم مسيرون إلى العذاب، والمراد بالهداية الإيصال إلى حسن العاقبة.

قوله تعالى: ﴿لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار﴾ احتجاج على نفي قولهم: إن الله اتخذ ولدا، وقول بعضهم: الملائكة بنات الله.

والقول بالولد دائر بين عامة الوثنية على اختلاف مذاهبهم وقد قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود على ما حكاه القرآن عنهم: عزير ابن الله وكأنها بنوة تشريفية.

والبنوة كيفما كانت تقتضي شركة ما بين الابن والأب والولد والوالد فإن كانت بنوة حقيقية وهي اشتقاق شيء من شيء وانفصاله منه اقتضت الشركة في حقيقة الذات والخواص والآثار المنبعثة من الذات كبنوة إنسان لإنسان المقتضية لشركة الابن لأبيه في الإنسانية ولوازمها، وإن كانت بنوة اعتبارية كالبنوة الاجتماعية وهو التبني اقتضت الاشتراك في الشئونات الخاصة بالأب كالسؤدد والملك والشرف والتقدم والوراثة وبعض أحكام النسب، والحجة المسوقة في الآية تدل على استحالة اتخاذ الولد عليه تعالى بكلا المعنيين.

فقوله: ﴿لو أراد الله أن يتخذ ولدا﴾ شرط صدر بلو الدال على الامتناع للامتناع، وقوله: ﴿لاصطفى مما يخلق ما يشاء﴾ أي لاختار لذلك مما يخلق ما يتعلق به مشيئته على ما يفيده السياق وكونه مما يخلق لكون ما عداه سبحانه خلقا له.

وقوله: ﴿سبحانه﴾ تنزيه له سبحانه، وقوله: ﴿هو الله الواحد القهار﴾ بيان لاستحالة الشرط وهو إرادة اتخاذ الولد ليترتب عليه استحالة الجزاء وهو اصطفاء ما يشاء مما يخلق وذلك لأنه سبحانه واحد في ذاته المتعالية لا يشاركه فيها شيء ولا يماثله فيها أحد لأدلة التوحيد، وواحد في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته كالحياة والعلم والقدرة، وواحد في شئونه التي هي من لوازم ذاته كالخلق والملك والعزة والكبرياء لا يشاركه فيها أحد.

وهو سبحانه قهار يقهر كل شيء بذاته وصفاته فلا يستقل قبال ذاته ووجوده شيء في ذاته ووجوده ولا يستغني عنه شيء في صفاته وآثار وجوده فالكل أذلاء داخرون بالنسبة إليه مملوكون له فقراء إليه.

فمحصل حجة الآية قياس استثنائي ساذج يستثنى فيه نقيض المقدم لينتج نقيض التالي وهو نحو من قولنا: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى لذلك بعض من يشاء من خلقه لكن إرادته اتخاذ الولد ممتنعة لكونه واحدا قهارا فاصطفاؤه لذلك بعض من يشاء من خلقه ممتنع.

وقد أغرب بعضهم في تقريب حجة الآية فقال: حاصل المعنى لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض.

وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صعوبة.

وكأنه مأخوذ من قول الزمخشري في الكشاف، في تفسير الآية حيث قال: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح لكونه محالا ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة لكنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء على الله وملائكته غالين في الكفر.

وأنت خبير أن سياق الآية لا يلائم هذا البيان.

على أنه لا يدفع قول القائل بالتبني التشريفي كقول اليهود عزير ابن الله فإنهم لا يريدون بالتبني إلا اصطفاء من يشاء من خلقه.

وهناك بعض تقريبات أخر منهم لا جدوى فيه تركنا إيراده.

قوله تعالى: ﴿خلق السموات والأرض بالحق﴾ لا يبعد أن يكون ما فيه من الإشارة إلى الخلق والتدبير بيانا لقهاريته تعالى لكن اتصال الآيتين وارتباطهما مضمونا وانتهاء الثانية إلى قوله: ﴿ذلكم الله ربكم﴾ إلخ كالصريح في أن ذلك استئناف بيان للاحتجاج على توحيد الربوبية.

فالآية والتي تليها مسوقتان لتوحيد الربوبية وقد جمع فيهما بين الخلق والتدبير لما مر مرارا أن إثبات وحدة الخالق لا يستلزم عند الوثني نفي تعدد الأرباب والآلهة لأنهم لا ينكرون انحصار الخلق والإيجاد فيه تعالى لكنه سبحانه فيما يحتج على توحده في الربوبية والألوهية في كلامه يجمع بين الخلق والتدبير إشارة إلى أن التدبير غير خارج من الخلق بل هو خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه وعند ذلك يتم الاحتجاج على رجوع التدبير إليه تعالى وانحصاره فيه برجوع الخلق إليه.

وقوله: ﴿خلق السموات والأرض بالحق﴾ إشارة إلى الخلقة، وفي قوله: ﴿بالحق﴾ - والباء للملابسة - إشارة إلى البعث فإن كون الخلقة حقا غير باطل يلازم كونها لغاية تقصدها وتنساق إليها وهي البعث قال تعالى: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا﴾ ص: 27.

وقوله: ﴿يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل﴾ قال في المجمع، التكوير طرح الشيء بعضه على بعض.

انتهى فالمراد طرح الليل على النهار وطرح النهار على الليل فيكون من الاستعارة بالكناية قريب المعنى من قوله: ﴿يغشي الليل النهار﴾ الأعراف: 54 والمراد استمرار توالي الليل والنهار بظهور هذا على ذاك ثم ذاك على هذا وهكذا، وهو من التدبير.

وقوله: ﴿وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى﴾ أي سخر الشمس والقمر فأجراهما للنظام الجاري في العالم الأرضي إلى أجل مسمى معين لا يتجاوزانه.

وقوله: ﴿ألا هو العزيز الغفار﴾ يمكن أن يكون في ذكر الاسمين إشارة إلى ما يحتج به على توحده تعالى في الربوبية والألوهية فإن العزيز الذي لا يعتريه ذلة إن كان فهو الله وهو المتعين للعبادة لا غيره الذي تغشاه الذلة وتغمره الفاقة وكذا الغفار للذنوب إذا قيس إلى من ليس من شأنه ذلك.

ويمكن أن يكون ذكرهما تحضيضا على التوحيد والإيمان بالله الواحد والمعنى أنبهكم أنه هو العزيز فآمنوا به واعتزوا بعزته، الغفار فآمنوا به يغفر لكم.

قوله تعالى: ﴿خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها﴾ إلخ الخطاب لعامة البشر، والمراد بالنفس الواحدة - على ما تؤيده نظائره من الآيات - آدم أبو البشر، والمراد بزوجها امرأته التي هي من نوعها وتماثلها في الإنسانية، و﴿ثم﴾ للتراخي بحسب رتبة الكلام.

والمراد أنه تعالى خلق هذا النوع وكثر أفراده من نفس واحدة وزوجها.

وقوله: ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ الأنعام هي الإبل والبقر والضأن والمعز، وكونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر والأنثى.

وتسمية خلق الأنعام في الأرض إنزالا لها باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي هي عنده ومن الغيب إلى الشهادة قال تعالى: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر: 21.

وقوله: ﴿يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث﴾ بيان لكيفية خلق من تقدم ذكره من البشر والأنعام، وفي الخطاب تغليب أولي العقل على غيرهم، والخلق من بعد الخلق التوالي والتوارد كخلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وهكذا، والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن والرحم والمشيمة كما قيل ورواه في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام).

وقيل: المراد بها ظلمة الصلب والرحم والمشيمة وهو خطأ فإن قوله: ﴿في بطون أمهاتكم﴾ صريح في أن المراد بالظلمات الثلاث ما في بطون النساء دون أصلاب الرجال.

وقوله: ﴿ذلكم الله ربكم﴾ أي الذي وصف لكم في الآيتين بالخلق والتدبير هو ربكم دون غيره لأن الرب هو المالك الذي يدبر أمر ما ملكه وإذ كان خالقا لكم ولكل شيء دونكم وللنظام الجاري فيكم فهو الذي يملككم ويدبر أمركم فهو ربكم لا غير.

وقوله: ﴿له الملك﴾ أي على جميع المخلوقات في الدنيا والآخرة فهو المليك على الإطلاق﴾ وتقديم الظرف يفيد الحصر، والجملة خبر بعد خبر لقوله: ﴿ذلكم الله﴾ كما أن قوله: ﴿لا إله إلا هو﴾ كذلك، وانحصار الألوهية فيه تعالى فرع انحصار الربوبية فيه لأن الإله إنما يعبد لأنه رب مدبر فيعبد إما خوفا منه أو رجاء فيه أو شكرا له.

وقوله: ﴿فأنى تصرفون﴾ أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وهو ربكم الذي خلقكم ودبر أمركم وهو المليك عليكم.

قوله تعالى: ﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر﴾ إلى آخر الآية.

مسوق لبيان أن الدعوة إلى التوحيد وإخلاص الدين لله سبحانه ليست لحاجة منه تعالى إلى إقبالهم إليه بالانصراف عن عبادة غيره بل لعناية منه تعالى بهم فيدعوهم إلى سعادتهم اعتناء بها كما يعتني برزقهم فيفيض النعم عليهم وكما يعتني بحفظهم فيلهمهم أن يدفعوا الآفات عن أنفسهم.

فقوله: ﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم﴾ الخطاب لعامة المكلفين أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم وطاعتكم ولا يتضرر بكفركم ومعصيتكم فالنفع والضرر إنما يتحققان في مجال الإمكان والحاجة وأما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع ولا تضرر.

وقوله: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله: ﴿فإن الله غني عنكم﴾ إنه إذا لم يتضرر بكفر ولم ينتفع بإيمان فلا موجب له أن يريد منا الإيمان والشكر فدفعه بأن تعلق العناية الإلهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم وأنتم عباده.

والمراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله: ﴿وإن تشكروا يرضه لكم﴾ وبذلك يظهر أن التعبير بقوله: ﴿لعباده﴾ دون أن يقول: لكم للدلالة على علة الحكم أعني سبب عدم الرضا.

والمحصل أنكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه ورابطة المولوية والعبودية وهي نسبة المالكية والمملوكية لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه ويتخذ لنفسه أولياء من دونه ويعصي المولى ويطيع عدوه وهو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

وقوله: ﴿وإن تشكروا يرضه لكم﴾ الضمير للشكر نظير قوله تعالى: ﴿اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ المائدة: 8 والمعنى وإن تشكروا الله بالجري على مقتضى العبودية وإخلاص الدين له يرض الشكر لكم وأنتم عباده، والشكر والكفر المقابل له ينطبقان على الإيمان والكفر المقابل له.

ومما تقدم يظهر أن العباد في قوله: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ عام يشمل الجميع فقول بعضهم: إنه خاص أريد به من عناهم في قوله: ﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين﴾ الحجر: 42 وهم المخلصون - أو المعصومون على ما فسره الزمخشري - ولازمه أن الله سبحانه رضي الإيمان لمن آمن ورضي الكفر لمن كفر إلا المعصومين فإنه أراد منهم الإيمان، وصانهم عن الكفر سخيف جدا، والسياق يأباه كل الإباء، إذ الكلام مشعر حينئذ برضاه الكفر للكافر فيؤول معنى الكلام إلى نحو من قولنا: إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى للأنبياء مثلا الكفر لرضاه لهم الإيمان وإن تشكروا أنتم يرضه لكم وإن تكفروا يرضه لكم وهذا - كما ترى - معنى رديء ساقط وخاصة من حيث وقوعه في سياق الدعوة.

على أن الأنبياء مثلا داخلون فيمن شكر وقد رضي لهم الشكر والإيمان ولم يرض لهم الكفر فلا موجب لإفرادهم بالذكر وقد ذكر الرضا عمن شكر.

وقوله: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلا من ارتكبه.

وقوله: ﴿ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور﴾ أي هذا في الدنيا من كفر أو شكر ثم يبعثكم الله فيظهر لكم حقيقة أعمالكم ويحاسبكم على ما في قلوبكم وقد تكرر الكلام في معاني هذه الجمل فيما تقدم.

كلام في معنى الرضا والسخط من الله الرضا من المعاني التي يتصف بها أولو الشعور والإرادة ويقابله السخط وكلاهما وصفان وجوديان.

ثم الرضا يتعلق بالمعاني من الأوصاف والأفعال دون الذوات يقال: رضي له كذا ورضي بكذا قال تعالى: ﴿ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله﴾ التوبة: 59 وقال: ﴿ورضوا بالحياة الدنيا﴾ يونس: 7 وما ربما يتعلق بالذوات فإنما هو بعناية ما ويؤول بالآخرة إلى المعنى كقوله: ﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى﴾ البقرة: 120.

وليس الرضا هو الإرادة بعينها وإن كان كلما تعلقت به الإرادة فقد تعلق به الرضا بعد وقوعه بوجه.

وذلك لأن الإرادة - كما قيل - تتعلق بأمر غير واقع والرضا إنما يتعلق بالأمر بعد وقوعه أو فرض وقوعه فإذن كون الإنسان راضيا بفعل كذا كونه بحيث يلائم ذلك الفعل ولا ينافره، وهو وصف قائم بالراضي دون المرضي.

ثم الرضا لكونه متعلقا بالأمر بعد وقوعه كان متحققا بتحقق المرضي حادثا بحدوثه فيمتنع أن يكون صفة من الصفات القائمة بذاته لتنزهه تعالى عن أن يكون محلا للحوادث فما نسب إليه تعالى من الرضا صفة فعل قائم بفعله منتزع عنه كالرحمة والغضب والإرادة والكراهة قال تعالى: ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ البينة: 8 وقال: ﴿وأن أعمل صالحا ترضاه﴾ النمل: 19، وقال: ﴿ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ المائدة: 3.

فرضاه تعالى عن أمر من الأمور ملائمة فعله تعالى له، وإذ كان فعله قسمين تكويني وتشريعي انقسم الرضا منه أيضا إلى تكويني وتشريعي فكل أمر تكويني وهو الذي أراد الله وأوجده فهو مرضي له رضا تكوينيا بمعنى كون فعله وهو إيجاده عن مشية ملائما لما أوجده، وكل أمر تشريعي وهو الذي تعلق به التكليف من اعتقاد أو عمل كالإيمان والعمل الصالح فهو مرضي له رضا تشريعيا بمعنى ملاءمة تشريعه للمأتي به.

وأما ما يقابل هذه الأمور المأمور بها مما تعلق به نهي فلا يتعلق بها رضا البتة لعدم ملاءمة التشريع لها كالكفر والفسوق كما قال تعالى: ﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر﴾ الزمر: 7، وقال: ﴿فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين﴾ التوبة: 96.

قوله تعالى: ﴿وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه﴾ إلى آخر الآية الإنابة الرجوع، والتخويل العطية العظيمة على وجه الهبة وهي المنحة.

على ما في المجمع.

لما مر في الآية السابقة ذكر من كفر النعمة وأن الله سبحانه على غناه من الناس لا يرضى لهم ذلك نبه في هذه الآية على أن الإنسان كفور بالطبع مع أنه يعرف ربه بالفطرة ولا يلبث عند الاضطرار دون أن يرجع إليه فيسأله كشف ضره كما قال: ﴿وكان الإنسان كفورا﴾ الإسراء: 67، وقال: ﴿إن الإنسان لظلوم كفار﴾ إبراهيم: 34.

فقوله: ﴿وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه﴾ أي إذا أصاب الإنسان ضر من شدة أو مرض أو قحط ونحوه دعا ربه - وهو الله يعترف عند ذلك بربوبيته - راجعا إليه معرضا عمن سواه يسأله كشف الضر عنه.

وقوله: ﴿ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل﴾ أي وإذا أعطاه ربه سبحانه بعد كشف الضر نعمة منه اشتغل به مستغرقا ونسي الضر الذي كان يدعو إليه أي إلى كشفه من قبل إعطاء النعمة.

فما في قوله: ﴿ما كان يدعوا إليه﴾ موصولة والمراد به الضر وضمير ﴿إليه﴾ له وقيل: مصدرية والضمير للرب سبحانه والمعنى نسي دعاءه إلى ربه من قبل الإعطاء، وقيل: موصولة والمراد به الله سبحانه وهو أبعد الوجوه.

وقوله: ﴿وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله﴾ الأنداد الأمثال والمراد بها - على ما قيل - الأصنام وأربابها، واللام في ﴿ليضل عن سبيله﴾ للعاقبة، والمعنى واتخذ الله أمثالا يشاركونه في الربوبية والألوهية على مزعمته لينتهي به ذلك إلى إضلال الناس عن سبيل الله لأن الناس مطبوعون على التقليد يتشبه بعضهم ببعض وفي الفعل دعوة كالقول.

ولا يبعد أن يراد بالأنداد مطلق الأسباب التي يعتمد عليها الإنسان ويطمئن إليها ومن جملتها أرباب الأصنام عند الوثني وذلك لأن الآية تصف الإنسان وهو أعم من المشرك نعم مورد الآية هو الكافر.

وقوله: ﴿قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار﴾ أي تمتع تمتعا قليلا لا يدوم لك لأنك من أصحاب النار مصيرك إليها، وهو أمر تهديدي في معنى الإخبار أي إنك إلى النار ولا يدفعها عنك تمتعك بالكفر أياما قلائل.

قوله تعالى: ﴿أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه﴾ الآية لا تخلو عن مناسبة واتصال بقوله السابق: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ فإن فحواه أن الكافر والشاكر لا يستويان ولا يختلطان فأوضح ذلك في هذه الآية بأن القانت الذي يخاف العذاب ويرجو رحمة لا يساوي غيره.

فقوله: ﴿أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه﴾ أحد شقي الترديد محذوف والتقدير أهذا الذي ذكرناه خير أم من هو قانت إلخ.

والقنوت - على ما ذكره الراغب - لزوم الطاعة مع الخضوع، والآناء جمع أنى وهو الوقت، و﴿يحذر الآخرة﴾ أي عذاب الله في الآخرة قال تعالى: ﴿إن عذاب ربك كان محذورا﴾ الإسراء: 57، وقوله: ﴿يرجوا رحمة ربه﴾ هو وما قبله يجمعان خوف العذاب ورجاء الرحمة، ولم يقيد الرحمة بالآخرة فإن رحمة الآخرة ربما وسعت الدنيا.

والمعنى أهذا الكافر الذي هو من أصحاب النار خير أم من هو لازم للطاعة والخضوع لربه في أوقات الليل إذا جن عليه ساجدا في صلاته تارة قائما فيها أخرى يحذر عذاب الآخرة ويرجو رحمة ربه؟ أي لا يستويان.

وقوله: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ العلم وعدمه مطلقان لكن المراد بهما بحسب ما ينطبق على مورد الآية العلم بالله وعدمه فإن ذلك هو الذي يكمل به الإنسان وينتفع بحقيقة معنى الكلمة ويتضرر بعدمه، وغيره من العلم كالمال ينتفع به في الحياة الدنيا ويفنى بفنائها.

وقوله: ﴿إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ أي ذوو العقول وهو في مقام التعليل لعدم تساوي الفريقين بأن أحد الفريقين يتذكر حقائق الأمور دون الفريق الآخر فلا يستويان بل يترجح الذين يعلمون على غيرهم.

قوله تعالى: ﴿قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة﴾ إلى آخر الآية، الجار والمجرور ﴿في هذه الدنيا﴾ متعلق بقوله: ﴿أحسنوا﴾ فالمراد بالجملة وعد الذين أحسنوا أي لزموا الأعمال الحسنة أن لهم حسنة لا يقدر وصفها بقدر.

وقد أطلق الحسنة فلم يقيدها بدنيا أو آخرة وظاهرها ما يعلم الدنيا فللمؤمنين المحسنين في هذه الدنيا طيب النفس وسلامة الروح وصون النفوس عما يتقلب فيه الكفار من تشوش البال وتقسم القلب وغل الصدر والخضوع للأسباب الظاهرية وفقد من يرجى في كل نائبة وينصر عند طروق الطارقة ويطمأن إليه في كل نازلة وفي الآخرة سعادة دائمة ونعيم مقيم.

وقيل: ﴿في هذه الدنيا﴾ متعلق بحسنة، وليس بذاك.

وقوله: ﴿وأرض الله واسعة﴾ حث وترغيب لهم في الهجرة من مكة إذ كان التوقف فيها صعبا على المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركون يزيدون كل يوم في التشديد عليهم وفتنتهم، والآية بحسب لفظها عامة.

وقيل: المراد بأرض الله الجنة أي إن الجنة واسعة لا تزاحم فيها فاكتسبوها بالطاعة والعبادة، وهو بعيد.

وقوله: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ توفية الأجر إعطاؤه تاما كاملا، والسياق يفيد أن القصر في الكلام متوجه إلى قوله: ﴿بغير حساب﴾ فالجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿يوفى﴾ صفة لمصدر يدل عليه والمعنى لا يعطى الصابرون أجرهم إلا إعطاء بغير حساب، فالصابرون لا يحاسبون على أعمالهم ولا ينشر لهم ديوان ولا يقدر أجرهم بزنة عملهم.

وقد أطلق الصابرون في الآية ولم يقيد بكون الصبر على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة وإن كان الذي ينطبق على مورد الآية هو الصبر على مصائب الدنيا وخاصة ما يصيب من جهة أهل الكفر والسوق من آمن بالله وأخلص له دينه واتقاه.

وقيل: ﴿بغير حساب﴾ حال من ﴿أجرهم﴾ ويفيد كثرة الأجر الذي يوفونه، والوجه السابق أقرب.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي: أن رجلا قال: يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله لا يقبل إلا ممن أخلص له.

ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية ﴿ألا لله الدين الخالص﴾.

وفيه، أخرج ابن جرير من طريق جويبر عن ابن عباس: ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء﴾ الآية قال: أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة كانوا يعبدون الأوثان ويقولون: الملائكة بناته فقالوا: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾.

أقول: الآية مطلقة تشمل عامة الوثنيين، وقول: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ قول جميعهم، وكذا القول بالولد ولا تصريح في الآية بالقول بكون الملائكة بنات فالحق أن الخبر من التطبيق.

وفي الكافي، والعلل، بإسنادهما عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: ﴿آناء الليل ساجدا وقائما﴾ إلخ قال: يعني صلاة الليل.

وفي الكافي، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله عز وجل: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون - إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ قال نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا أولو الألباب.

أقول: وهذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن الباقر والصادق (عليهما السلام) وهو جري وليس من التفسير في شيء.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: ﴿أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما﴾ قال: نزلت في عمار بن ياسر:.

أقول: وروي مثله عن جويبر عن عكرمة، وروي عن جويبر عن ابن عباس أيضا: أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسالم مولى أبي حذيفة.

وروي عن أبي نعيم وابن عساكر عن ابن عمر أنه عثمان وقيل غير ذلك، والجميع من التطبيق وليس من النزول بالمعنى المصطلح عليه، والسورة نازلة دفعة.

وفي المجمع، روى العياشي بالإسناد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان.

ثم تلا هذه الآية ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾.

أقول: وروي ما في معناه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث.