الآيات 57-65

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴿57﴾ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴿58﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿59﴾ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴿60﴾ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿61﴾ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿62﴾ وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿63﴾ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿64﴾ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿65﴾

بيان:

إشارة إلى قصة عيسى بعد الفراغ عن قصة موسى (عليه السلام) وقدم عليها مجادلتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عيسى (عليه السلام) وأجيب عنها.

قوله تعالى: ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - إلى قوله - خصمون﴾ الآية إلى تمام أربع آيات أو ست آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، والذي يتحصل بالتدبر فيها نظرا إلى كون السورة مكية ومع قطع النظر عن الروايات هو أن المراد بقوله: ﴿و لما ضرب ابن مريم مثلا﴾ هو ما أنزله الله من وصفه في أول سورة مريم فإنها السورة المكية الوحيدة التي وردت فيها قصة عيسى بن مريم (عليهما السلام) تفصيلا، والسورة تقص قصص عدة من النبيين بما أن الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله: ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين﴾ مريم: 58، وقد وقع في هذه الآيات قوله: ﴿إن هو إلا عبد أنعمنا عليه﴾ وهو من الشواهد على كون قوله: ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلا﴾ إشارة إلى ما في سورة مريم.

والمراد بقوله: ﴿إذا قومك منه يصدون﴾ بكسر الصاد أي يضجون ويضحكون ذم لقريش في مقابلتهم المثل الحق بالتهكم والسخرية، وقرىء ﴿يصدون﴾ بضم الصاد أي يعرضون وهو أنسب للجملة التالية.

وقوله: ﴿وقالوا ء آلهتنا خير أم هو﴾ الاستفهام للإنكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنهم لما سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة والكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن وأخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنه إله ابن إله فردوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن آلهتنا خير منه وهذا من أسخف الجدال كأنهم يشيرون بذلك إلى أن الذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به وما عند النصارى لا ينفع فإن آلهتهم خير منه.

وقوله: ﴿ما ضربوه لك إلا جدلا﴾ أي ما وجهوا هذا الكلام: ﴿أآلهتنا خير أم هو﴾ إليك إلا جدلا يريدون به إبطال المثل المذكور وإن كان حقا ﴿بل هم قوم خصمون﴾ أي ثابتون على خصومتهم مصرون عليها.

وقوله: ﴿إن هو إلا عبد أنعمنا عليه﴾ رد لما يستفاد من قولهم: ﴿ء آلهتنا خير أم هو﴾ أنه إله النصارى كما سيجيء.

وقال الزمخشري في الكشاف، وكثير من المفسرين ونسب إلى ابن عباس وغيره في تفسير الآية: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قرأ قوله تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا فقال ابن الزبعري: يا محمد، أ خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال (عليه السلام): هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم.

فقال: خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيرا وعلى أمه؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد والملائكة يعبدون فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون﴾ ونزلت هذه الآية.

والمعنى: ولما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلا وجادل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعبادة النصارى إياه إذا قومك يعني قريشا من هذا المثل يضجون فرحا وضحكا بما سمعوا منه من إسكات رسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالوا: ءآلهتنا خير أم هو أي إن عيسى عندك خير من آلهتنا وإذا كان هو حصب جهنم فأمر آلهتنا هين.

ما ضربوا هذا المثل لك إلا جدلا وغلبة في القول لا لميز الحق من الباطل.

وفيه أنه تقدم في تفسير قوله: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ الأنبياء: 98، أن هذه الرواية بما فيها من وجوه الوهن والخلل ضعيفة لا يعبأ بها حتى نقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث لا مسندا ولا غير مسند.

وقصة ابن الزبعري هذه وإن رويت من طرق الشيعة على وجه سليم عن المناقشة لكن لم يذكر فيها نزول قوله: ﴿ولما ضرب ابن مريم﴾ الآية هناك.

على أن ظاهر قوله: ﴿ضرب ابن مريم مثلا﴾ وقوله: ﴿أآلهتنا خير أم هو﴾ لا يلائم ما فسرته تلك الملاءمة.

وقيل: إنهم لما سمعوا قوله تعالى: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ آل عمران: 59، قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم يعبدون آدميا ونحن نعبد الملائكة - يريدون أرباب الأصنام - فآلهتنا خير من إلههم فالذي ضرب المثل بابن مريم هو الله سبحانه، وقولهم: ﴿ء آلهتنا خير أم هو﴾ لتفضيل آلهتهم على عيسى لا بالعكس كما في الوجه السابق.

وفيه أن قوله تعالى: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم﴾ مدنية.

وهذه الآيات أعني قوله: ﴿ولما ضرب ابن مريم﴾ إلخ، آيات مكية من سورة مكية.

على أن الأساس في قولهم - على هذا الوجه - تفضيلهم أنفسهم على النصارى فلا يرتبط على هذا قوله: ﴿إن هو إلا عبد أنعمنا عليه﴾ إلخ، بما تقدمه.

وقيل: إنهم لما سمعوا قوله: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم﴾ ضجوا وقالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده كما يعبد النصارى المسيح، وآلهتنا خير منه أي من محمد.

وفيه ما في سابقه.

وقيل: مرادهم بقولهم: ﴿ء آلهتنا خير أم هو﴾ التنصل والتخلص عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، ومن عبادتهم لهم كأنهم قالوا: ما كان ذلك منا بدعا فإن النصارى يعبدون المسيح وينسبونه إلى الله وهو بشر ونحن نعبد الملائكة وننسبهم إلى الله وهم أفضل من البشر.

وفيه أنه لا يفي بتوجيه قوله: ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون﴾ على أن قوله: ﴿إن هو إلا عبد أنعمنا عليه﴾ على هذا الوجه لا يرتبط بما قبله كما في الوجهين السابقين.

وقيل: معنى قولهم: ﴿ءآلهتنا خير أم هو﴾ أن مثلنا في عبادة الآلهة مثل النصارى في عبادة المسيح فأيهما خير؟ عبادة آلهتنا أم عبادة المسيح؟ فإن قال: عبادة المسيح خير فقد اعترف بعبادة غير الله، وإن قال: عبادة الآلهة فكذلك، وإن قال: ليس في عبادة المسيح خير فقد قصر به عن منزلته وجوابه أن اختصاص المسيح بضرب من التشريف والإنعام من الله تعالى لا يوجب جواز عبادته.

وفيه أنه في نفسه لا بأس به لكن الشأن في دلالة قوله تعالى: ﴿ءآلهتنا خير أم هو﴾ على هذا التفصيل.

وقال في المجمع، في الوجوه التي أوردها في معنى الآية: ورابعها ما رواه سادة أهل البيت عن علي (عليه السلام) أنه قال: جئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إلي ثم قال: يا علي، إنما مثلك في هذه الأمة مثل عيسى بن مريم أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا.

فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا: يشبهه بالأنبياء والرسل، فنزلت الآية.

أقول: والرواية غير متعرضة لتوجيه قولهم: ﴿ءآلهتنا خير أم هو﴾ ولئن كانت القصة سببا للنزول فمعنى الجملة: لئن نتبع آلهتنا ونطيع كبراءنا خير من أن نتولى عليا فيتحكم علينا أو خير من أن نتبع محمدا فيحكم علينا ابن عمه.

ويمكن أن يكون قوله: ﴿وقالوا ء آلهتنا خير أم هو﴾ إلخ، استئنافا والنازل في القصة هو قوله: ﴿ولما ضرب ابن مريم مثلا﴾ الآية.

قوله تعالى: ﴿إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل﴾ الذي يستدعيه السياق أن يكون الضمير لابن مريم، والمراد بكونه مثلا - على ما قيل - كونه آية عجيبة إلهية يسير ذكره كالأمثال السائرة.

والمعنى: ليس ابن مريم إلا عبدا متظاهرا بالعبودية أنعمنا عليه بالنبوة وتأييده بروح القدس وإجراء المعجزات الباهرة على يديه وغير ذلك وجلعناه آية عجيبة خارقة نصف به الحق لبني إسرائيل.

وهذا المعنى كما ترى رد لقولهم: ﴿ءآلهتنا خير أم هو﴾ الظاهر في تفضيلهم آلهتهم في ألوهيتها على المسيح (عليه السلام) في ألوهيته ومحصله أن المسيح لم يكن إلها حتى ينظر في منزلته في ألوهيته وإنما كان عبدا أنعم الله عليه بما أنعم، وأما آلهتهم فنظر القرآن فيهم ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون﴾ الظاهر أن الآية متصلة بما قبلها مسرودة لرفع استبعاد أن يتلبس البشر من الكمال ما يقصه القرآن عن عيسى (عليه السلام) فيخلق الطير ويحيي الموتى ويكلم الناس في المهد إلى غير ذلك، فيكون كالملائكة المتوسطين في الإحياء والإماتة والرزق وسائر أنواع التدبير ويكون مع ذلك عبدا غير معبود ومألوها غير إله فإن هذا النوع من الكمال عند الوثنية مختص بالملائكة وهو ملاك ألوهيتهم ومعبوديتهم وبالجملة هم يحيلون تلبس البشر بهذا النوع من الكمال الذي يخصونه بالملائكة.

فأجيب بأن لله أن يزكي الإنسان ويطهره من أدناس المعاصي بحيث يصير باطنه باطن الملائكة فظاهره ظاهر البشر وباطنه باطن الملك يعيش في الأرض يخلف مثله ويخلفه مثله ويظهر منه ما يظهر من الملائكة.

وعلى هذا فمن في قوله ﴿منكم﴾ للتبعيض، وقوله: ﴿يخلفون﴾ أي يخلف بعضهم بعضا.

وفي المجمع، أن ﴿من﴾ في قوله: ﴿منكم﴾ تفيد معنى البدلية كما في قوله: فليت لنا من ماء زمزم شربة.

مبردة باتت على الطهيان.

وقوله: ﴿يخلفون﴾ أي يخلفون بني آدم ويكونون خلفاء لهم، والمعنى: ولو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلكم ملائكة يسكنون الأرض ويعمرونها ويعبدون الله.

وفيه أنه لا يلائم النظم تلك الملاءمة.

قوله تعالى: ﴿وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم﴾ ضمير ﴿إنه﴾ لعيسى (عليه السلام) والمراد بالعلم ما يعلم به، والمعنى: وإن عيسى يعلم به الساعة في خلقه من غير أب وإحيائه الموتى فيعلم به أن الساعة ممكنة فلا تشكوا في الساعة ولا ترتابوا فيها البتة.

وقيل: المراد بكونه علما للساعة كونه من أشراطها ينزل على الأرض فيعلم به قرب الساعة.

وقيل: الضمير للقرآن وكونه علما للساعة كونه آخر الكتب المنزلة من السماء.

وفي الوجهين جميعا خفاء التفريع الذي في قوله: ﴿فلا تمترن بها﴾.

وقوله: ﴿واتبعون هذا صراط مستقيم﴾ قيل: هو من كلامه تعالى، والمعنى: اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل: من كلام الرسول بأمر منه تعالى.

قوله تعالى: ﴿ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين﴾ الصد الصرف، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة﴾ إلخ، المراد بالبينات الآيات البينات من المعجزات، وبالحكمة المعارف الإلهية من العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة.

وقوله: ﴿ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه﴾ أي في حكمه من الحوادث والأفعال، والذي يختلفون فيه وإن كان أعم من الاعتقادات التي يختلف في كونها حقة أو باطلة والحوادث والأفعال التي يختلف في مشروع حكمها لكن المناسب لسبق قوله: ﴿قد جئتكم بالحكمة﴾ أن يختص ما اختلفوا فيه بالحوادث والأفعال والله أعلم.

وقيل: المراد بقوله: ﴿بعض الذي تختلفون فيه﴾ كل الذي تختلفون فيه.

وهو كما ترى.

وقيل: المراد لأبين لكم أمور دينكم دون أمور دنياكم ولا دليل عليه من لفظ الآية ولا من المقام.

وقوله: ﴿فاتقوا الله وأطيعون﴾ نسب التقوى إلى الله والطاعة إلى نفسه ليسجل أنه لا يدعي إلا الرسالة.

قوله تعالى: ﴿إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم﴾ دعوة منه إلى عبادة الله وحده وأنه هو ربه وربهم جميعا وإتمام للحجة على من يقول بألوهيته.

قوله تعالى: ﴿فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم﴾ ضمير ﴿من بينهم﴾ لمن بعث إليهم عيسى (عليه السلام) والمعنى: فاختلف الأحزاب المتشعبة من بين أمته في أمر عيسى من كافر به قال فيه، ومن مؤمن به غال فيه، ومن مقتصد لزم الاعتدال.

وقوله: ﴿فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم﴾ تهديد ووعيد للقالي منهم والغالي.