الآيات 16-24

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿16﴾ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿17﴾ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿18﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿19﴾ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿20﴾ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿21﴾ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿22﴾ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿23﴾ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿24﴾

بيان:

جرى على وفق مقصد الكلام السابق وهو الحث والترغيب في الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيل الله وتتضمن عتاب المؤمنين على ما يظهر من علائم قسوة القلوب منهم، وتأكيد الحث على الإنفاق ببيان درجة المنفقين عند الله والأمر بالمسابقة إلى المغفرة والجنة وذم الدنيا وأهلها الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.

وقد تغير السياق خلال الآيات إلى سياق عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب بعد اختصاص السياق السابق بالمسلمين وسيجيء توضيحه.

قوله تعالى: ﴿ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق﴾ إلى آخر الآية، يقال: أنى يأني إنى وإناء أي جاء وقته، وخشوع القلب تأثره قبال العظمة والكبرياء، والمراد بذكر الله ما يذكر به الله، وما نزل من الحق هو القرآن النازل من عنده تعالى و﴿من الحق﴾ بيان لما نزل، ومن شأن ذكر الله تعالى عند المؤمن أن يعقب خشوعا كما أن من شأن الحق النازل من عنده تعالى أن يعقب خشوعا ممن آمن بالله ورسله.

وقيل: المراد بذكر الله وما نزل من الحق جميعا القرآن، وعلى هذا فذكر القرآن بوصفيه لكون كل من الوصفين مستدعيا لخشوع المؤمن فالقرآن لكونه ذكر الله يستدعي الخشوع كما أنه لكونه حقا نازلا من عنده تعالى يستدعي الخشوع.

وفي الآية عتاب للمؤمنين على ما عرض لقلوبهم من القسوة وعدم خشوعها لذكر الله والحق النازل من عنده تعالى وتشبيه لحالهم بحال أهل الكتاب الذين نزل عليهم الكتاب وطال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

وقوله: ﴿ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم﴾ عطف على قوله: ﴿تخشع﴾ إلخ، والمعنى: ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم وأن لا يكونوا إلخ، والأمد الزمان، قال الراغب: الفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم: إن المدى والأمد يتقاربان.

وقد أشار سبحانه بهذا الكلام إلى صيرورة قلوبهم كقلوب أهل الكتاب القاسية والقلب القاسي حيث يفقد الخشوع والتأثر عن الحق ربما خرج عن زي العبودية فلم يتأثر عن المناهي واقترف الإثم والفسوق، ولذا أردف قوله: ﴿فقست قلوبهم﴾ بقوله: ﴿وكثير منهم فاسقون﴾.

قوله تعالى: ﴿اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها﴾ إلى آخر الآية في تعقيب عتاب المؤمنين على قسوة قلوبهم بهذا التمثيل تقوية لرجائهم وترغيب لهم في الخشوع.

ويمكن أن يكون من تمام العتاب السابق ويكون تنبيها على أن الله لا يخلي هذا الدين على ما هو عليه من الحال بل كلما قست قلوب وحرموا الخشوع لأمر الله جاء بقلوب حية خاشعة له يعبد بها كما يريد.

فتكون الآية في معنى قوله: ﴿ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ محمد: 38.

ولذلك ذيل الآية بقوله: ﴿قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون﴾.

قوله تعالى: ﴿إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم﴾ تكرار لحديث المضاعفة والأجر الكريم للترغيب في الإنفاق في سبيل الله وقد أضيف إلى الذين أقرضوا الله قرضا حسنا المصدقون والمصدقات.

والمصدقون والمصدقات - بتشديد الصاد والدال - المتصدقون والمتصدقات، وقوله: ﴿وأقرضوا الله﴾ عطف على مدخول اللام في ﴿المصدقين﴾ والمعنى: أن الذين تصدقوا والذين أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ما أعطوه ولهم أجر كريم.

قوله تعالى: ﴿والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم﴾ إلخ، لم يقل: آمنوا بالله ورسوله كما قال في أول السورة: ﴿آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا﴾ وقال في آخرها: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله﴾ لأنه تعالى لما ذكر أهل الكتاب في الآية السابقة بقوله: ﴿ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل﴾ عدل عن السياق السابق إلى سياق عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب جميعا كما قال بعد: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات﴾ وأما الآيتان المذكورتان في أول السورة وآخرها فالخطاب فيهما لمؤمني هذه الأمة خاصة ولذا جيء فيهما بالرسول مفردا.

والمراد بالإيمان بالله ورسله محض الإيمان الذي لا يفارق بطبعه الطاعة والاتباع كما مرت الإشارة إليه في قوله: ﴿آمنوا بالله ورسوله﴾ الآية، والمراد بقوله: ﴿أولئك هم الصديقون والشهداء﴾ إلحاقهم بالصديقين والشهداء بقرينة قوله: ﴿عند ربهم﴾ وقوله: ﴿لهم أجرهم ونورهم﴾ فهم ملحقون بالطائفتين يعامل معهم معاملة الصديقين والشهداء فيعطون مثل أجرهم ونورهم.

والظاهر أن المراد بالصديقين والشهداء هم المذكورون في قوله: ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا﴾ النساء: 69، وقد تقدم في تفسير الآية أن المراد بالصديقين هم الذين سرى الصدق في قولهم وفعلهم فيفعلون ما يقولون ويقولون ما يفعلون، والشهداء هم شهداء الأعمال يوم القيامة دون الشهداء بمعنى المقتولين في سبيل الله.

فهؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله ملحقون بالصديقين والشهداء منزلون منزلتهم عند الله أي بحكم منه لهم أجرهم ونورهم.

وقوله: ﴿لهم أجرهم ونورهم﴾ ضمير ﴿لهم﴾ للذين آمنوا، وضمير ﴿أجرهم ونورهم﴾ للصديقين والشهداء أي للذين آمنوا أجر من نوع أجر الصديقين والشهداء ونور من نوع نورهم، وهذا معنى قول من قال: إن المعنى: لهم أجر كأجرهم ونور كنورهم.

وربما قيل: إن الآية مسوقة لبيان أنهم صديقون وشهداء على الحقيقة من غير إلحاق وتنزيل فهم هم لهم أجرهم ونورهم، ولعل السياق لا يساعد عليه.

وربما قيل: إن قوله: ﴿والشهداء﴾ ليس عطفا على قوله: ﴿الصديقون﴾ بل استئناف و﴿الشهداء﴾ مبتدأ خبره ﴿عند ربهم﴾ وخبره الآخر ﴿لهم أجرهم﴾ فقد قيل: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون، وقد تم الكلام ثم استؤنف وقيل: ﴿والشهداء عند ربهم﴾ كما قيل: ﴿بل أحياء عند ربهم﴾ آل عمران: 169، والمراد بالشهداء المقتولون في سبيل الله، ثم تمم الكلام بقوله: ﴿لهم أجرهم ونورهم﴾.

وقوله: ﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم﴾ أي لا يفارقونها وهم فيها دائمين.

وقد تعرض سبحانه في الآية لشأن الملحقين بالصديقين والشهداء وهم خيار الناس والناجون قطعا، والكفار المكذبين لآياته وهم شرار الناس والهالكون قطعا وبقي فريق بين الفريقين وهم المؤمنون المقترفون للمعاصي والذنوب على طبقاتهم في التمرد على الله ورسوله، وهذا دأب القرآن في كثير من موارد التعرض لشأن الناس يوم القيامة.

وذلك ليكون بعثا لقريحتي الخوف والرجاء في ذلك الفريق المتخلل بين الخيار والشرار فيميلوا إلى السعادة ويختاروا النجاة على الهلاك.

ولذلك أعقب الآية بذم الحياة الدنيا التي تعلق بها هؤلاء الممتنعون من الإنفاق في سبيل الله ثم بدعوتهم إلى المسابقة إلى المغفرة والجنة ثم بالإشارة إلى أن ما يصيبهم من المصيبة في أموالهم وأنفسهم مكتوبة في كتاب سابق وقضاء متقدم فليس ينبغي لهم أن يخافوا الفقر في الإنفاق في سبيل الله، فيبخلوا ويمسكوا أو يخافوا الموت في الجهاد في سبيل الله فيتخلفوا ويقعدوا.

قوله تعالى: ﴿اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد﴾ إلخ، اللعب عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال، واللهو ما يشغل الإنسان عما يهمه، والزينة بناء نوع وربما يراد به ما يتزين به وهي ضم شيء مرغوب فيه إلى شيء آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال، والتفاخر المباهاة بالأنساب والأحساب، والتكاثر في الأموال والأولاد.

والحياة الدنيا عرض زائل وسراب باطل لا يخلو من هذه الخصال الخمس المذكورة: اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر وهي التي يتعلق بها هوى النفس الإنسانية ببعضها أو بجميعها وهي أمور وهمية وأعراض زائلة لا تبقى للإنسان وليست ولا واحدة منها تجلب للإنسان كمالا نفسيا ولا خيرا حقيقيا.

وعن شيخنا البهائي رحمه الله أن الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان ومراحل حياته فيتولع أولا باللعب وهو طفل أو مراهق ثم إذا بلغ واشتد عظمه تعلق باللهو والملاهي ثم إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتوله للحسن والجمال ثم إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب والأنساب ثم إذا شاب سعى في تكثير المال والولد.

وقوله: ﴿كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما﴾ مثل لزينة الحياة الدنيا التي يتعلق بها الإنسان غرورا ثم لا يلبث دون أن يسلبها.

والغيث المطر والكفار جمع كافر بمعنى الحارث، ويهيج من الهيجان وهو الحركة، والحطام الهشيم المتكسر من يابس النبات.

والمعنى: أن مثل الحياة الدنيا في بهجتها المعجبة ثم الزوال كمثل مطر أعجب الحراث نباته الحاصل بسببه ثم يتحرك إلى غاية ما يمكنه من النمو فتراه مصفر اللون ثم يكون هشيما متكسرا - متلاشيا تذروه الرياح -.

وقوله: ﴿وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان﴾ سبق المغفرة على الرضوان لتطهير المحل ليحل به الرضوان، وتوصيف المغفرة بكونه من الله دون العذاب لا يخلو من إيماء إلى أن المطلوب بالقصد الأول هو المغفرة وأما العذاب فليس بمطلوب في نفسه وإنما يتسبب إليه الإنسان بخروجه عن زي العبودية كما قيل.

وقوله: ﴿وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ أي متاع التمتع منه هو الغرور به، وهذا للمتعلق المغرور بها.

والكلام أعني قوله: ﴿وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان﴾ إشارة إلى وجهي الحياة الآخرة ليأخذ السامع حذره فيختار المغفرة والرضوان على العذاب، ثم في قوله: ﴿وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ تنبيه وإيقاظ لئلا تغره الحياة الدنيا بخاصة غروره.

قوله تعالى: ﴿سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض﴾ إلخ المسابقة هي المغالبة في السبق للوصول إلى غرض بأن يريد كل من المسابقين جعل حركته أسرع من حركة صاحبه ففي معنى المسابقة ما يزيد على معنى المسارعة فإن المسارعة الجد في تسريع الحركة والمسابقة الجد في تسريعها بحيث تزيد في السرعة على حركة صاحبه.

وعلى هذا فقوله: ﴿سابقوا إلى مغفرة﴾ إلخ، يتضمن من التكليف ما هو أزيد مما يتضمنه قوله: ﴿سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين﴾ آل عمران: 133.

ويظهر به عدم استقامة ما قيل: إن آية آل عمران في السابقين المقربين والآية التي نحن فيها في عامة المؤمنين حيث لم يذكر فيها إلا الإيمان بالله ورسله بخلاف آية آل عمران فإنها مذيلة بجملة الأعمال الصالحة، ولذا أيضا وصف الجنة الموعودة هناك بقوله: ﴿عرضها السماوات والأرض﴾ بخلاف ما هاهنا حيث قيل: ﴿عرضها كعرض السماء والأرض﴾ فدل على أن جنة أولئك أوسع من جنة هؤلاء.

وجه عدم الاستقامة ما عرفت أن المكلف به في الآية المبحوث عنها معنى فوق ما كلف به في آية آل عمران.

على أن اللام في ﴿السماء﴾ للجنس فتنطبق على ﴿السماوات﴾ في تلك الآية.

وتقديم المغفرة على الجنة في الآية لأن الحياة في الجنة حياة طاهرة في عالم الطهارة فيتوقف التلبس بها على زوال قذارات الذنوب وأوساخها.

والمراد بالعرض السعة دون العرض المقابل للطول وهو معنى شائع، والكلام كأنه مسوق للدلالة على انتهائها في السعة.

وقيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول والاقتصار على ذكر العرض أبلغ من ذكر الطول معه فإن العرض أقصر الامتدادين وإذا كان كعرض السماء والأرض كان طولها أكثر من طولهما.

ولا يخلو الوجه من تحكم إذ لا دليل على مساواة طول السماء والأرض لعرضهما ثم على زيادة طول الجنة على عرضها حتى يلزم زيادة طول الجنة على طولهما والطول قد يساوي العرض كما في المربع والدائرة وسطح الكرة وغيرها وقد يزيد عليه.

وقوله: ﴿أعدت للذين آمنوا بالله ورسله﴾ قد عرفت في ذيل قوله: ﴿آمنوا بالله ورسله﴾ وقوله: ﴿والذين آمنوا بالله ورسله﴾ أن المراد بالإيمان بالله ورسله هو مرتبة عالية من الإيمان تلازم ترتب آثاره عليه من الأعمال الصالحة واجتناب الفسوق والإثم.

وبذلك يظهر أن قول بعضهم: إن في الآية بشارة لعامة المؤمنين حيث قال: ﴿أعدت للذين آمنوا بالله ورسله﴾ ولم يقيد الإيمان بشيء من العمل الصالح ونحوه غير سديد فإن خطاب الآية وإن كان بظاهر لفظه يعم الكافر والمؤمن الصالح والطالح لكن وجه الكلام إلى المؤمنين يدعوهم إلى الإيمان الذي يصاحب العمل الصالح، ولو كان المراد بالإيمان بالله ورسله مجرد الإيمان ولو لم يصاحبه عمل صالح وكانت الجنة معدة لهم والآية تدعو إلى السباق إلى المغفرة والجنة كان خطاب ﴿سابقوا﴾ متوجها إلى الكفار فإن المؤمنين قد سبقوا وسياق الآيات يأباه.

وقوله: ﴿ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء﴾ وقد شاء أن يؤتيه الذين آمنوا بالله ورسله، وقد تقدم بيان أن ما يؤتيه الله من الأجر لعباده المؤمنين فضل منه تعالى من غير أن يستحقوه عليه.

وقوله: ﴿والله ذو الفضل العظيم﴾ إشارة إلى عظمة فضله، وأن ما يثيبهم به من المغفرة والجنة من عظيم فضله.

قوله تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها﴾ إلخ، المصيبة الواقعة التي تصيب الشيء مأخوذة من إصابة السهم الغرض وهي بحسب المفهوم أعم من الخير والشر لكن غلب استعمالها في الشر فالمصيبة هي النائبة، والمصيبة التي تصيب في الأرض كالجدب وعاهة الثمار والزلزلة المخربة ونحوها، والتي تصيب في الأنفس كالمرض والجرح والكسر والقتل والموت، والبرء والبروء الخلق من العدم، وضمير ﴿نبرأها﴾ للمصيبة، وقيل: للأنفس، وقيل: للأرض، وقيل: للجميع من الأرض والأنفس والمصيبة، ويؤيد الأول أن المقام مقام بيان ما في الدنيا من المصائب الموجبة لنقص الأموال والأنفس التي تدعوهم إلى الإمساك عن الإنفاق والتخلف عن الجهاد.

والمراد بالكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة كما تدل عليه الآيات والروايات وإنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض وفي أنفسهم من المصائب لكون الكلام فيها.

قيل: إنما قيد المصيبة بما في الأرض وفي الأنفس لأن مطلق المصائب غير مكتوبة في اللوح لأن اللوح متناه والحوادث غير متناهية ولا يكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي.

والكلام مبني على أن المراد باللوح لوح فلزي أو نحوه منصوب في ناحية من نواحي الجو مكتوب فيه الحوادث بلغة من لغاتنا بخط يشبه خطوطنا، وقد مر كلام في معنى اللوح والقلم وسيجيء له تتمة.

وقيل: المراد بالكتاب علمه تعالى وهو خلاف الظاهر إلا أن يراد به أن الكتاب المكتوب فيه الحوادث من مراتب علمه الفعلي.

وختم الآية بقوله: ﴿إن ذلك على الله يسير﴾ للدلالة على أن تقدير الحوادث قبل وقوعها والقضاء عليها بقضاء لا يتغير لا صعوبة فيه عليه تعالى.

قوله تعالى: ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ إلخ، تعليل راجع إلى الآية السابقة وهو تعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها لا لنفس الكتابة، والأسى الحزن، والمراد بما فات وما آتى النعمة الفائتة والنعمة المؤتاة.

والمعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل حدوثها وتحققها لئلا تحزنوا بما فاتكم من النعم ولا تفرحوا بما أعطاكم الله منها لأن الإنسان إذا أيقن أن الذي أصابه مقدر كائن لا محالة لم يكن ليخطئه وأن ما أوتيه من النعم وديعة عنده إلى أجل مسمى لم يعظم حزنه إذا فاته ولا فرحه إذا أوتيه.

قيل: إن اختلاف الإسناد في قوليه: ﴿ما فاتكم﴾ و﴿ما آتاكم﴾ حيث أسند الفوت إلى نفس الأشياء والإيتاء إلى الله سبحانه لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إلى الله تعالى.

وقوله: ﴿والله لا يحب كل مختال فخور﴾ المختال من أخذته الخيلاء وهي التكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه - على ما ذكره الراغب - والفخور الكثير الفخر والمباهاة والاختيال والفخر ناشئان عن توهم الإنسان أنه يملك ما أوتيه من النعم باستحقاق من نفسه، وهو مخالف لما هو الحق من استناد ذلك إلى تقدير من الله لا لاستقلال من نفس الإنسان فهما من الرذائل والله لا يحبها.

قوله تعالى: ﴿الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل﴾ وصف لكل مختال فخور يفيد تعليل عدم حبه تعالى.

والوجه في بخلهم الاحتفاظ للمال الذي يعتمد عليه اختيالهم وفخرهم والوجه في أمرهم الناس بالبخل أنهم يحبونه لأنفسهم فيحبونه لغيرهم، ولأن شيوع السخاء والجود بين الناس وإقبالهم على الإنفاق في سبيل الله يوجب أن يعرفوا بالبخل المذموم.

وقوله: ﴿ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد﴾ أي ومن يعرض عن الإنفاق ولم يتعظ بعظة الله ولا اطمأن قلبه بما بينه من صفات الدنيا ونعت الجنة وتقدير الأمور فإن الله هو الغني فلا حاجة له إلى إنفاقهم، والمحمود في أفعاله.

والآيات الثلاث أعني قوله: ﴿وما أصاب من مصيبة - إلى قوله - الغني الحميد﴾ كما ترى حث على الإنفاق وردع عن البخل والإمساك بتزهيدهم عن الأسى بما فاتهم والفرح بما آتاهم لأن الأمور مقدرة مقضية مكتوبة في كتاب معينة قبل أن يبرأها الله سبحانه.

بحث روائي:

في الدر المنثور، في قوله تعالى: ﴿ألم يأن﴾ الآية: أخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت: ﴿ألم يأن للذين آمنوا﴾.

أقول: هذه أعدل الروايات في نزول السورة وهناك رواية عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه ﴿ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله﴾ إلا أربع سنين، وظاهره كون السورة مكية، وفي معناه ما ورد أن عمر آمن بعد نزول هذه السورة وقد عرفت أن سياق آيات السورة تأبى إلا أن تكون مدنية، ويمكن حمل رواية ابن مسعود على كون آية ﴿ألم يأن﴾ إلخ، أو هي والتي تتلوها مما نزل بمكة دون باقي آيات السورة.

وفي رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة من نزول القرآن فأنزل الله ﴿ألم يأن﴾ الآية، ولازمه نزول السورة سنة أربع أو خمس من الهجرة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال: ﴿ألم يأن﴾ إلخ، ولازمه نزول السورة أيام الهجرة، والروايتان أيضا لا تلائمان سياق آياتها.

وفيه، أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: مؤمنوا أمتي شهداء، ثم تلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون - والشهداء عند ربهم﴾.

وفي تفسير العياشي، بإسناده عن منهال القصاب قال: لأبي عبد الله (عليه السلام): ادع الله أن يرزقني الشهادة فقال: إن المؤمن شهيد وقرأ هذه الآية.

أقول: وفي معناه روايات أخرى وظاهر بعضها كهذه الرواية تفسير الشهادة بالقتل في سبيل الله.

وفي تفسير القمي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك فما حد الزهد في الدنيا؟ فقال: قد حده الله في كتابه فقال عز وجل: ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾.

وفي نهج البلاغة، قال (عليه السلام): الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى: ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.

أقول: والأساس الذي يبتنيان عليه عدم تعلق القلب بالدنيا، وفي الحديث المعروف: حب الدنيا رأس كل خطيئة.