الآيات 2-8

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴿2﴾ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴿3﴾ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴿4﴾ فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ﴿5﴾ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴿6﴾ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ﴿7﴾ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴿8﴾

بيان:

الظاهر من سياق آيات صدر السورة أنها مسوقة لبيان أن السنة الإلهية في الأمم الإنسانية جرت على هدايتهم إلى طريق العبودية وسبيل التوحيد وأمكنهم من الوصول إلى ذلك باختيارهم فآتاهم من نعم الدنيا والآخرة، وأمدهم بأسباب الطاعة والمعصية فإن أطاعوا وأحسنوا أثابهم بسعادة الدنيا والآخرة، وإن أساءوا وعصوا جازاهم بنكال الدنيا وعذاب الآخرة.

وعلى هذا فهذه الآيات السبع كالمثال يمثل به ما جرى من هذه السنة العامة في بني إسرائيل أنزل الله على نبيهم الكتاب وجعله لهم هدى يهتدون به وقضى إليهم فيه أنهم سيعلون ويطغون ويفسقون فينتقم الله منهم باستيلاء عدوهم عليهم بالإذلال والقتل والأسر ثم يعودون إلى الطاعة فيعود تعالى إلى النعمة والرحمة ثم يستعلون ويطغون ثانيا فينتقم الله منهم ثانيا بأشد مما في المرة الأولى ثم من المرجو أن يرحمهم ربهم وإن يعودوا يعد.

ومن ذلك يستنتج أن الآيات السبع كالتوطئة لما سيذكر بعدها من جريان هذه السنة العامة في هذه الأمة، والآيات السبع كالمعترضة بين الآية الأولى والتاسعة.

قوله تعالى: ﴿وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا﴾ الكتاب كثيرا ما يطلق في كلامه تعالى على مجموع الشرائع المكتوبة على الناس القاضية بينهم فيما اختلفوا فيه من الاعتقاد والعمل ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية والعملية التي عليهم أن يأخذوها ويتلبسوا بها، ولعله لذلك قيل: ﴿وآتينا موسى الكتاب﴾ ولم يقل التوراة ليدل به على اشتماله على شرائع مفترضة عليهم.

وبذلك يظهر أن قوله: ﴿وجعلناه هدى لبني إسرائيل﴾ بمنزلة التفسير لإيتائه الكتاب.

وكونه هدى أي هاديا لهم هو بيانه لهم شرائع ربهم التي لو أخذوها وعملوا بها لاهتدوا إلى الحق ونالوا سعادة الدارين.

وقوله: ﴿ألا تتخذوا من دوني وكيلا﴾ أن: فيه للتفسير ومدخولها محصل ما يشتمل عليه الكتاب الذي جعل هدى لهم فيئول المعنى إلى أن محصل ما كان الكتاب يبينه لهم ويهديهم إليه هو نهيه إياهم أن يشركوا بالله شيئا ويتخذوا من دونه وكيلا فقوله: ﴿لا تتخذوا من دوني وكيلا﴾ تفسيرا لقوله: ﴿وجعلناه هدى لبني إسرائيل﴾ إن كان ضمير ﴿لا تتخذوا﴾ عائدا إليهم كما هو الظاهر، وتفسير لجميع ما تقدمه إن احتمل رجوعه إلى موسى وبني إسرائيل جميعا.

وفي الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده ووجهه بيان كون التكلم مع الغير لغرض التعظيم وجريان السياق على ما كان عليه من التكلم مع الغير كأن يقال: ﴿أن لا تتخذوا من دوننا وكلاء﴾ لا يناسب معنى التوحيد الذي سيقت له الجملة، ولذلك عدل فيها إلى سياق التكلم وحده ثم لما ارتفعت الحاجة رجع الكلام إلى سياقه السابق فقيل: ﴿ذرية من حملنا مع نوح﴾.

ورجوع اتخاذ الوكيل من دون الله إلى الشرك إنما هو من جهة أن الوكيل هو الذي يكفل إصلاح الشئون الضرورية لموكله ويقدم على رفع حوائجه وهو الله سبحانه فاتخاذ غيره ربا هو اتخاذ وكيل من دونه.

قوله تعالى: ﴿ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا﴾ تطلق الذرية على الأولاد بعناية كونهم صغارا ملحقين بآبائهم، وهي - على ما يهدي إليه السياق - منصوبة على الاختصاص ويفيد الاختصاص عناية خاصة من المتكلم به في حكمه فهو بمنزلة التعليل كقوله تعالى: ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت﴾ الأحزاب: 33 أي ليفعل بكم ذلك لأنكم أهل بيت النبوة.

فقوله: ﴿ذرية من حملنا مع نوح﴾ يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى ما تقدمه كما أن قوله: ﴿إنه كان عبدا شكورا﴾ يفيد فائدة التعليل بالنسبة إليه.

أما الأول فلأن الظاهر أن تعلق العناية بهم إنما هو من جهة ما سبق من الله سبحانه لأهل سفينة نوح من الوعد الجميل حين نجاهم من الطوفان وأمر نوحا بالهبوط بقوله: ﴿يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم﴾ هود: 48 ففي إنزاله الكتاب لموسى وجعله هدى لبني إسرائيل إنجاز للوعد الحسن الذي سبق لآبائهم من أهل السفينة وجرى على السنة الإلهية الجارية في الأمم فكأنه قيل: أنزلنا على موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل لأنهم ذرية من حملنا مع نوح وقد وعدناهم السلام والبركات والتمتيع.

وأما الثاني فلأن هذه السنة أعني سنة الهداية والإرشاد وطريقة الدعوة إلى التوحيد هي بعينها السنة التي كان نوح (عليه السلام) أول من قام بها في العالم البشري فشكر بذلك نعمة الله وأخلص له في العبودية - وقد تقدم مرارا أن الشكر بحقيقته يلازم الإخلاص في العبودية - فشكر الله له، وجعل سنته باقية ببقاء الدنيا، وسلم عليه في العالمين، وأثابه بكل كلمة طيبة وعمل صالح إلى يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين﴾ الصافات: 80.

فيتلخص معنى الآيتين في مثل قولنا: إنا جزينا نوحا بما كان عبدا شكورا لنا أنا أبقينا دعوته وأجرينا سنته وطريقته في ذرية من حملناهم معه في السفينة ومن ذلك أنا أنزلنا على موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل.

ويظهر من قوله في الآية: ﴿ذرية من حملنا مع نوح﴾ ومن قوله:﴾ وجعلنا ذريته هم الباقين﴾ أن الناس ذرية نوح (عليه السلام) من جهة الابن والبنت معا، ولو كانت الذرية منتهية إلى أبنائه فقط وكان المراد بقوله: ﴿من حملنا مع نوح﴾ أبناءه فقط كان الأحسن بل المتعين أن يقال: ذرية نوح وهو ظاهر.

وللقوم في إعراب الآية وجوه أخرى كثيرة كقول من قال: إن ﴿ذرية﴾ منصوب على النداء بحذف حرفه، والتقدير يا ذرية من حملنا، وقيل: مفعول أول لقوله: تتخذوا ومفعوله الثاني قوله: ﴿وكيلا﴾ والتقدير أن لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني، وقيل: بدل من موسى في الآية السابقة وهي وجوه ظاهرة السخافة.

ويتلوها في ذلك قول من قال: إن ضمير ﴿إنه﴾ عائد إلى موسى دون نوح والجملة تعليل لإيتائه الكتاب أو لجعله (عليه السلام) هدى لبني إسرائيل بناء على رجوع ضمير ﴿وجعلناه﴾ إلى موسى دون الكتاب.

قوله تعالى: ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا﴾ قال الراغب في المفردات،: القضاء فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾ أي أمر بذلك، وقال: ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب﴾ فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم أي أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما وعلى هذا ﴿وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع﴾.

ومن الفعل الإلهي قوله: ﴿والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء﴾ وقوله: ﴿فقضاهن سبع سماوات في يومين﴾ إشارة إلى إيجاده الإبداعي والفراغ منه نحو: ﴿بديع السماوات والأرض﴾.

قال: ومن القول البشري نحو قضى الحاكم بكذا فإن حكم الحاكم يكون بالقول، ومن الفعل البشري ﴿فإذا قضيتم مناسككم﴾ ﴿ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم﴾ انتهى موضع الحاجة.

والعلو هو الارتفاع وهو في الآية كناية عن الطغيان بالظلم والتعدي ويشهد بذلك عطفه على الإفساد عطف التفسير، وفي هذا المعنى قوله: ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا﴾.

ومعنى الآية وأخبرنا وأعلمنا بني إسرائيل إخبارا قاطعا في الكتاب وهو التوراة: أقسم وأحق هذا القول أنكم شعب إسرائيل ستفسدون في الأرض وهي أرض فلسطين وما يتبعها مرتين مرة بعد مرة وتعلون علوا كبيرا وتطغون طغيانا عظيما.

قوله تعالى: ﴿فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا﴾ إلخ، قال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية نحو والله أشد بأسا وأشد تنكيلا.

وفي المجمع: الجوس التخلل في الديار يقال: تركت فلان يجوس بني فلان ويجوسهم ويدوسهم أي يطؤهم، قال أبو عبيد: كل موضع خالطته ووطأته فقد حسته وجسته قال: وقيل: الجوس طلب الشيء باستقصاء.

وقوله: ﴿فإذا جاء وعد أولاهما﴾ تفريع على قوله: ﴿لتفسدن﴾ إلخ، وضمير التثنية راجع إلى المرتين وهما الإفسادتان فالمراد بها الإفسادة الأولى، والمراد بوعد أولاهما ما وعدهم الله من النكال والنقمة على إفسادهم فالوعد بمعنى الموعود، ومجيء الوعد كناية عن وقت إنجازه، ويدل ذلك على أنه وعدهم على إفسادهم مرتين وعدين ولم يذكرا إنجازا فكأنه قيل: لتفسدن في الأرض مرتين ونحن نعدكم الانتقام على كل منهما فإذا جاء وعد المرة الأولى إلخ كل ذلك معونة السياق.

وقوله: ﴿بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد﴾ أي أنهضناهم وأرسلناهم إليكم ليذلوكم وينتقموا منكم، والدليل على كون البعث للانتقام والإذلال قوله: ﴿أولي بأس شديد﴾ إلخ.

ولا ضير في عد مجيئهم إلى بني إسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع والأسر والسبي والنهب والتخريب بعثا إلهيا لأنه كان على سبيل المجازاة على إفسادهم في الأرض وعلوهم وبغيهم بغير الحق، فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم وتأييدهم عليهم ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.

وبذلك يظهر أن لا دليل من الكلام يدل على قول من قال: إن المراد بقوله: ﴿بعثنا عليكم﴾ إلخ أمرنا قوما مؤمنين بقتالكم وجهادكم لاقتضاء ظاهر قوله: ﴿بعثنا﴾ وقوله ﴿عبادا﴾ ذلك وذلك لما عرفت أن عد ذلك بعثا إلهيا لا مانع فيه بعد ما كان على سبيل المجازاة، وكذا لا مانع من عد الكفار عبادا لله مع ما تعقبه من قوله: ﴿أولي بأس شديد﴾.

ونظيره قول من قال: يجوز أن يكون هؤلاء المبعوثون مؤمنين أمرهم الله بجهاد هؤلاء، ويجوز أن يكونوا كفارا فتألفهم نبي من الأنبياء لحرب هؤلاء، وسلطهم على أمثالهم من الكفار والفساق، ويرد عليه نظير ما يرد على سابقه.

وقوله: ﴿وكان وعدا مفعولا﴾ تأكيد لكون القضاء حتما لازما والمعنى فإذا جاء وقت الوعد الذي وعدناه على المرة الأولى من إفسادكم مرتين بعثنا وانهضنا عليكم من الناس عبادا لنا أولي بأس وشدة شديدة فدخلوا بالقهر والغلبة أرضكم وتوسطوا في دياركم فأذلوكم وأذهبوا استقلالكم وعلوكم وسؤددكم وكان وعدا مفعولا لا محيص عنه.

قوله تعالى: ﴿ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا﴾ قال في المجمع، الكرة معناه الرجعة والدولة، والنفير العدد من الرجال قال الزجاج: ويجوز أن يكون جمع نفر كما قيل: العبيد والضئين والمعيز والكليب، ونفر الإنسان ونفره ونفيره ونافرته رهطه الذين ينصرونه وينفرون معه انتهى.

ومعنى الآية ظاهر، وظاهرها أن بني إسرائيل ستعود الدولة لهم على أعدائهم بعد وعد المرة الأولى فيغلبونهم ويقهرونهم ويتخلصون من استعبادهم واسترقاقهم وأن هذه الدولة سترجع إليهم تدريجا في برهة معتد بها من الزمان كما هو لازم إمدادهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا.

وفي قوله في الآية التالية: ﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾ إشعار بل دلالة بمعونة السياق أن هذه الواقعة وهي رد الكرة لبني إسرائيل على أعدائهم إنما كانت لرجوعهم إلى الإحسان بعد ما ذاقوا وبال إساءتهم قبل ذلك كما أن إنجاز وعد الآخرة إنما كان لرجوعهم ثانيا إلى الإساءة بعد رجوعهم هذا إلى الإحسان.

قوله تعالى: ﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾ اللام في ﴿لأنفسكم﴾ و﴿فلها﴾ للاختصاص أي إن كلا من إحسانكم وإساءتكم يختص بأنفسكم دون أن يلحق غيركم، وهي سنة الله الجارية أن العمل يعود أثره وتبعته إلى صاحبه إن خيرا وإن شرا فهو كقوله: ﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم﴾ البقرة: 141.

فالمقام مقام بيان أن أثر العمل لصاحبه خيرا كان أو شرا، وليس مقام بيان أن الإحسان ينفع صاحبه والإساءة تضره حتى يقال: وإن أسأتم فعليها كما قيل: ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾ البقرة: 286.

فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم أن اللام في قوله: ﴿وإن أسأتم فلها﴾ بمعنى على، وقول آخرين: إنها بمعنى إلى لأن الإساءة تتعدى بها يقال: أساء إلى فلان ويسيء إليه إساءة، وقول آخرين: إنها للاستحقاق كقوله: ﴿ولهم عذاب أليم﴾ .

وربما أورد على كون اللام للاختصاص بأن الواقع على خلافه فكثيرا ما يتعدى أثر الإحسان إلى غير محسنه وأثر الإساءة إلى غير فاعلها وهو ظاهر.

والجواب عنه أن فيه غفلة عما يراه القرآن الكريم في آثار الأعمال أما آثار الأعمال الأخروية فإنها لا تتعدى صاحبها البتة قال تعالى: ﴿من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون﴾ الروم: 44، وأما الآثار الدنيوية فإن الأعمال لا تؤثر أثرا في غير فاعلها إلا أن يشاء الله من ذلك شيئا على سبيل النعمة على الغير أو النقمة أو الابتلاء والامتحان فليس في مقدرة الفاعل أن يوصل أثر فعله إلى الغير دائما إلا أحيانا يريده الله لكن الفاعل يلحقه أثر فعله الحسن أو السيىء دائما من غير تخلف.

فللمحسن نصيب من إحسانه وللمسيء نصيب من إساءته، قال تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ الزلزال: 8 فأثر الفعل لا يفارق فاعله إلى غيره، وهذا معنى ما روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: ما أحسنتم إلى أحد ولا أسأت إليه وتلا الآية.

قوله تعالى: ﴿فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا﴾ التتبير الإهلاك من التبار بمعنى الهلاك والدمار.

وقوله: ﴿ليسوؤا وجوهكم﴾ من المساءة يقال: ساء زيد فلانا إذا أحزنه وهو على ما قيل متعلق بفعل مقدر محذوف للإيجاز، واللام للغاية والتقدير بعثناهم ليسوئوا وجوهكم بظهور الحزن والكآبة فيها وبدو آثار الذلة والمسكنة وصغار الاستعباد عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع والسبي والنهب.

وقوله: ﴿وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة﴾ المراد بالمسجد هو المسجد الأقصى - بيت المقدس - ولا يعبأ بما ذكره بعضهم أن المراد به جميع الأرض المقدسة مجازا، وفي الكلام دلالة أولا أنهم في وعد المرة الأولى أيضا دخلوا المسجد عنوة وإنما لم يذكر قبلا للإيجاز، وثانيا أن دخولهم المسجد إنما كان للهتك والتخريب، وثالثا يشعر الكلام بأن هؤلاء المهاجمين المبعوثين لمجازاة بني إسرائيل والانتقام منهم هم الذين بعثوا عليهم أولا.

وقوله: ﴿وليتبروا ما علوا تتبيرا﴾ أي ليهلكوا الذي غلبوا عليه إهلاكا فيقتلوا النفوس ويحرقوا الأموال ويهدموا الأبنية ويخربوا البلاد، واحتمل أن يكون ما مصدرية بحذف مضاف وتقدير الكلام: وليتبروا مدة علوهم تتبيرا، والمعنى الأول أقرب إلى الفهم وأوفق بالسياق.

والمقايسة بين الوعدين أعني قوله: ﴿بعثنا عليكم عبادا لنا﴾ إلخ وقوله: ﴿ليسوؤا وجوهكم﴾ إلخ يعطي أن الثاني كان أشد على بني إسرائيل وأمر وقد كادوا أن يفنوا ويبيدوا فيه عن آخرهم وكفى في ذلك قوله تعالى: ﴿وليتبروا ما علوا تتبيرا﴾.

والمعنى فإذا جاء وعد المرة الآخرة وهي الثانية من الإفسادتين بعثناهم ليسوئوا وجوهكم بظهور الحزن والكآبة وبدو الذلة والمسكنة وليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة وليهلكوا الذي غلبوا عليه ويفنوا الذي مروا عليه إهلاكا وإفناء.

قوله تعالى: ﴿عسى ربكم أن يرحمكم﴾ ﴿وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا﴾ الحصير من الحصر وهو - على ما ذكروه - التضييق والحبس قال تعالى: ﴿واحصروهم﴾ التوبة: 5 أي ضيقوا عليهم.

وقوله: ﴿عسى ربكم أن يرحمكم﴾ أي بعد البعث الثاني على ما يفيده السياق وهو ترج للرحمة على تقدير أن يتوبوا ويرجعوا إلى الطاعة والإحسان بدليل قوله: ﴿وإن عدتم عدنا﴾ أي وإن تعودوا إلى الإفساد والعلو، بعد ما رجعتم عنه ورحمكم ربكم نعد إلى العقوبة والنكال، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ومكانا حابسا لا يستطيعون منه خروجا.

وفي قوله: ﴿عسى ربكم أن يرحمكم﴾ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وكأن الوجه فيه الإشارة إلى أن الأصل الذي يقتضيه ربوبيته تعالى أن يرحم عباده إن جروا على ما يقتضيه خلقتهم ويرشد إليه فطرتهم إلا أن ينحرفوا عن خط الخلقة ويخرجوا عن صراط الفطرة، والإيماء إلى هذه النكتة يوجب ذكر وصف الرب فاحتاج السياق أن يتغير عن التكلم مع الغير إلى الغيبة ثم لما استوفيت النكتة بقوله: ﴿عسى ربكم أن يرحمكم﴾ عاد الكلام إلى ما كان عليه.

بحث روائي:

في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن نوحا إنما سمي عبدا شكورا لأنه كان يقول إذا أمسى وأصبح: اللهم إني أشهدك أنه ما أمسى وأصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها علي حتى ترضى وبعد الرضا.

أقول: وروي هذا المعنى بتفاوت يسير بعدة طرق في الكافي وتفسيري القمي، والعياشي.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي فاطمة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كان نوح (عليه السلام) لا يحمل شيئا صغيرا ولا كبيرا إلا قال: بسم الله والحمد لله فسماه الله عبدا شكورا.

أقول: والروايات لا تنافي ما تقدم من تفسير الشكر بالإخلاص فمن المعلوم أن دعاءه لم يكن إلا عن تحققه بحقيقة ما دعا به ولا ينفك ذلك عن الإخلاص في العبودية.

وفي تفسير البرهان، عن ابن قولويه بإسناده عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز وجل: ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين﴾ قال: قتل أمير المؤمنين وطعن الحسن بن علي (عليهما السلام) ﴿ولتعلن علوا كبيرا﴾ قال: قتل الحسين (عليه السلام) ﴿فإذا جاء وعد أولاهما﴾ قال: إذا جاء نصر الحسين ﴿بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد - فجاسوا خلال الديار﴾ قوم يبعثهم الله قبل قيام القائم لا يدعون لآل محمد وترا إلا أخذوه ﴿وكان وعدا مفعولا﴾.

أقول: وفي معناها روايات أخرى وهي مسوقة لتطبيق ما يجري في هذه الأمة من الحوادث على ما جرى منها في بني إسرائيل تصديقا لما تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الأمة ستركب ما ركبته بنو إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله هؤلاء، وليست الروايات واردة في تفسير الآيات، ومن شواهد ذلك اختلاف ما فيها من التطبيق.

وأما أصل القصة التي تتضمنها الآيات الكريمة فقد اختلفت الروايات فيها اختلافا عجيبا يسلب عنها التعويل، ولذلك تركنا إيرادها هاهنا من أرادها فليراجع جوامع الحديث من العامة والخاصة.

وقد نزل على بني إسرائيل منذ استقلوا بالملك والسؤدد نوازل هامة كثيرة فوق اثنتين - على ما يضبطه تاريخهم - يمكن أن ينطبق ما تضمنته هذه الآيات على اثنتين منها لكن الذي هو كالمسلم عندهم أن إحدى هاتين النكايتين اللتين تشير إليهما الآيات هي ما جرى عليهم بيد بخت نصر نبوكدنصر من ملوك بابل قبل الميلاد بستة قرون تقريبا.

وكان ملكا ذا قوة وشوكة من جبابرة عهده، وكان يحمي بني إسرائيل فعصوه وتمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر بلادهم ثم فتحها عنوة فخرب البلاد وهدم المسجد الأقصى وأحرق التوراة وكتب الأنبياء وأباد النفوس بالقتل العام ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة من النساء والذراري وضعفاء الرجال فأسرهم وسيرهم معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام ولا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة بخت نصر وبعده زمانا طويلا حتى قصد الكسرى كورش أحد ملوك الفرس العظام بابل وفتحه تلطف على الأسرى من بني إسرائيل وأذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة، وأعانهم على تعمير الهيكل - المسجد الأقصى - وتجديد الأبنية وأجاز لعزراء أحد كهنتهم أن يكتب لهم التوراة وذلك في نيف وخمسين وأربعمائة سنة قبل الميلاد.

والذي يظهر من تاريخ اليهود أن المبعوث أولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر وبقي خرابا سبعين سنة، والمبعوث ثانيا هو قيصر الروم إسبيانوس سير إليهم وزيره طوطوز فخرب البيت وأذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا.

وليس من البعيد أن يكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات فإن الحوادث الأخرى لم تفن جمعهم ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة لكن نازلة بخت نصر ذهب بجميعهم وسؤددهم إلى زمن كورش ثم اجتمع شملهم بعده برهة ثم غلب عليهم الروم وأذهبت بقوتهم وشوكتهم فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الإسلام.

ولا يبعده إلا ما تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآيات أن فيها إشعارا بأن المبعوث إلى بني إسرائيل في المرة الأولى والثانية قوم بأعيانهم وأن قوله: ﴿ثم رددنا لكم الكرة عليهم﴾ مشعر بأن الكرة من بني إسرائيل على القوم المبعوثين عليهم أولا، وأن قوله: ﴿فإذا كان وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم﴾ مشعر برجوع ضمير الجمع إلى ما تقدم من قوله: ﴿عبادا لنا﴾.

لكنه إشعار من غير دلالة ظاهرة لجواز أن يكون المراد كرة من غير بني إسرائيل على أعدائهم وهم ينتفعون بها وأن يكون ضمير الجمع عائدا إلى ما يدل عليه الكلام بسياقه من غير إيجاب السياق أن يكون المبعوثون ثانيا هم المبعوثين أولا.