الآيات 9-27

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴿9﴾ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴿10﴾ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴿11﴾ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴿12﴾ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴿13﴾ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ﴿14﴾ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا ﴿15﴾ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿16﴾ قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿17﴾ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿18﴾ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿19﴾ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ﴿20﴾ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴿21﴾ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴿22﴾ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴿23﴾ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿24﴾ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴿25﴾ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴿26﴾ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴿27﴾

بيان:

قصة غزوة الخندق وما عقبها من أمر بني قريظة ووجه اتصالها بما قبلها ما فيها من ذكر حفظ العهد ونقضه.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود﴾ إلخ، تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم أيام الخندق بنصرهم وصرف جنود المشركين عنهم وقد كانوا جنودا مجندة من شعوب وقبائل شتى كغطفان وقريش والأحابيش وكنانة ويهود بني قريظة والنضير أحاطوا بهم من فوقهم ومن أسفل منهم فسلط الله عليهم الريح وأنزل ملائكة يخذلونهم.

وهو قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ﴾ ظرف للنعمة أو لثبوتها ﴿جاءتكم جنود﴾ من طوائف كل واحدة منهم جند كغطفان وقريش وغيرهما ﴿فأرسلنا﴾ بيان للنعمة وهو الإرسال المتفرع على مجيئهم ﴿عليهم ريحا﴾ وهي الصبا وكانت باردة في ليال شاتية ﴿وجنودا لم تروها﴾ وهي الملائكة لخذلان المشركين ﴿وكان الله بما تعملون بصيرا﴾.

قوله تعالى: ﴿إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم﴾ إلخ الجاءون من فوقهم وهو الجانب الشرقي للمدينة غطفان ويهود بني قريظة وبني النضير والجاءون من أسفل منهم وهو الجانب الغربي لها قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة فقوله: ﴿إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم﴾ عطف بيان لقوله: ﴿إذ جاءتكم جنود﴾.

وقوله: ﴿إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر﴿، عطف بيان آخر لقوله: ﴿إذ جاءتكم﴾ إلخ، وزيغ الأبصار ميلها والقلوب هي الأنفس والحناجر جمع حنجر وهو جوف الحلقوم.

والوصفان أعني زيغ الأبصار وبلوغ القلوب الحناجر كنايتان عن كمال غشيان الخوف لهم حتى حولهم إلى حال المحتضر الذي يزيغ بصره وتبلغ روحه الحلقوم.

وقوله: ﴿وتظنون بالله الظنونا﴾ أي يظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض الظنون فبعضهم يقول: إن الكفار سيغلبون ويستولون على المدينة، وبعضهم يقول: إن الإسلام سينمحق والدين سيضيع، وبعضهم يقول: إن الجاهلية ستعود كما كانت، وبعضهم يقول: إن الله غرهم ورسوله إلى غير ذلك من الظنون.

قوله تعالى: ﴿هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا﴾ هنالك إشارة بعيدة إلى زمان أو مكان والمراد الإشارة إلى زمان مجيء الجنود وكان شديدا عليهم لغاية بعيدة، والابتلاء الامتحان، والزلزلة والزلزال الاضطراب، والشدة القوة وتختلفان في أن الغالب على الشدة أن تكون محسوسا بخلاف القوة، قيل: ولذلك يطلق القوي عليه تعالى دون الشديد.

والمعنى في ذلك الزمان الشديد امتحن المؤمنون واضطربوا خوفا اضطرابا شديدا.

قوله تعالى: ﴿وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا﴾ الذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان من المؤمنين وهم غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وإنما سمي المنافقون الرسول لمكان إظهارهم الإسلام.

والغرور حمل الإنسان على الشر بإراءته في صورة الخير والاغترار احتماله له.

قال الراغب: يقال: غررت فلانا أصبت غرته ونلت منه ما أريد، والغرة - بكسر الغين - غفلة في اليقظة.

والوعد الذي يعدونه غرورا من الله ورسوله لهم بقرينة المقام هو وعد الفتح وظهور الإسلام على الدين كله وقد تكرر في كلامه تعالى كما ورد أن المنافقين قالوا: يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى وقيصر ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء.

قوله تعالى: ﴿وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا﴾ يثرب اسم المدينة قبل الإسلام ثم غلب عليه اسم مدينة الرسول بعد الهجرة ثم المدينة، والمقام بضم الميم الإقامة، وقولهم: لا مقام لكم فارجعوا أي لا وجه لإقامتكم هاهنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة فارجعوا ثم أتبعه بحكاية ما قاله آخرون فقال عاطفا على قوله: قالت طائفة: ﴿ويستأذن فريق منهم﴾ أي من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ﴿النبي﴾ في الرجوع ﴿يقولون﴾ استئذانا ﴿إن بيوتنا عورة﴾ أي فيها خلل لا يأمن صاحبها دخول السارق وزحف العدو ﴿وما هي بعورة إن يريدون﴾ أي ما يريدون بقولهم هذا ﴿إلا فرارا﴾.

قوله تعالى: ﴿ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا﴾ ضمائر الجمع للمنافقين والمرضى القلوب والضمير في ﴿دخلت﴾ للبيوت ومعنى دخلت عليهم دخل الجنود البيوت حال كونه دخولا عليهم، والأقطار جمع قطر وهو الجانب، والمراد بالفتنة بقرينة المقام الردة والرجعة من الدين والمراد بسؤالها طلبها منهم، والتلبث التأخر.

والمعنى: ولو دخل جنود المشركين بيوتهم من جوانبها وهم فيها ثم طلبوا منهم أن يرتدوا عن الدين لأعطوهم مسئولهم وما تأخروا بالردة إلا يسيرا من الزمان بمقدار الطلب والسؤال أي إنهم يقيمون على الدين ما دام الرخاء فإذا هجمت عليهم الشدة والبأس لم يلبثوا دون أن يرجعوا.

قوله تعالى: ﴿ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا﴾ اللام للقسم، وقوله: ﴿لا يولون الأدبار﴾ أي لا يفرون عن القتال وهو بيان للعهد ولعل المراد بعهدهم من قبل هو بيعتهم بالإيمان بالله ورسوله وما جاء به رسوله ومما جاء به: الجهاد الذي يحرم الفرار فيه ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا﴾ إذ لا بد لكل نفس من الموت لأجل مقضي محتوم لا يتأخر عنه ساعة ولا يتقدم عليه فالفرار لا يؤثر في تأخير الأجل شيئا.

وقوله: ﴿وإذا لا تمتعون إلا قليلا﴾ أي وإن نفعكم الفرار فمتعتم بتأخر الأجل فرضا لا يكون ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو في زمان قليل لكونه مقطوع الآخر لا محالة.

قوله تعالى: ﴿قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا﴾ كانت الآية السابقة تنبيها لهم على أن حياة الإنسان مقضي مؤجل لا ينفع معه فرار من الزحف وفي هذه الآية تنبيه - على أن الشر والخير تابعان لإرادة الله محضا لا يمنع عن نفوذها سبب من الأسباب ولا يعصم الإنسان منها أحد فالحزم إيكال الأمر إلى إرادته تعالى والقرار على أمره بالتوكل عليه.

ولما كانت قلوبهم مرضى أو مشغولة بكفر مستبطن عدل عن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتكليمهم إلى تكليم نفسه فقال: ﴿ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا﴾.

قوله تعالى: ﴿قد يعلم الله المعوقين منكم - إلى قوله - يسيرا التعويق التثبيط والصرف﴾، وهلم اسم فعل بمعنى أقبل، ولا يثنى ولا يجمع في لغة الحجاز، والبأس الشدة والحرب، وأشحة جمع شحيح بمعنى البخيل، والذي يغشى عليه هو الذي أخذته الغشوة فغابت حواسه وأخذت عيناه تدوران، والسلق بالفتح فالسكون الضرب والطعن.

ومعنى الآيتين: إن الله ليعلم الذين يثبطون منكم الناس ويصرفونهم عن القتال وهم المنافقون ويعلم الذين يقولون من المنافقين لإخوانهم من المنافقين أو ضعفة الإيمان تعالوا وأقبلوا ولا يحضرون الحرب إلا قليلا بخلاء عليكم بنفوسهم.

فإذا جاء الخوف بظهور مخائل القتال تراهم ينظرون إليك من الخوف نظرا لا إرادة لهم فيه ولا استقرار فيه لأعينهم تدور أعينهم كالمغشي عليه من الموت فإذا ذهب الخوف ضربوكم وطعنوكم بألسنة حداد قاطعة حال كونهم بخلاء على الخير الذي نلتموه.

أولئك لم يؤمنوا ولم يستقر الإيمان في قلوبهم وإن أظهروه في ألسنتهم فأبطل الله أعمالهم وأحبطها وكان ذلك على الله يسيرا.

قوله تعالى: ﴿يحسبون الأحزاب لم يذهبوا﴾ إلى آخر الآية، أي يظنون من شدة الخوف أن الأحزاب - وهم جنود المشركين المتحزبون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - لم يذهبوا بعد ﴿وإن يأت الأحزاب﴾ مرة ثانية بعد ذهابهم وتركهم المدينة ﴿يودوا﴾ ويحبوا ﴿أنهم بادون﴾ أي خارجون من المدينة إلى البدو ﴿في الأعراب يسألون عن أنبائكم﴾ وأخباركم ﴿ولو كانوا فيكم﴾ ولم يخرجوا منها بادين ﴿ما قاتلوا إلا قليلا﴾ أي ولا كثير فائدة في لزومهم إياكم وكونهم معكم فإنهم لن يقاتلوا إلا قليلا لا يعتد به.

قوله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ الأسوة القدوة وهي الاقتداء والاتباع، وقوله: ﴿في رسول الله﴾ أي في مورد رسول الله والأسوة التي في مورده هي تأسيهم به واتباعهم له والتعبير بقوله: ﴿لقد كان لكم﴾ الدال على الاستقرار والاستمرار في الماضي إشارة إلى كونه تكليفا ثابتا مستمرا.

والمعنى: ومن حكم رسالة الرسول وإيمانكم به أن تتأسوا به في قوله وفعله وأنتم ترون ما يقاسيه في جنب الله وحضوره في القتال وجهاده في الله حق جهاده.

وفي الكشاف، فإن قلت: فما حقيقة قوله: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ وقرىء أسوة بالضم.

قلت: فيه وجهان: أحدهما أنه في نفسه أسوة حسنة أي قدوة وهو المؤتسى أي المقتدى به كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد.

والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع وهي المواساة بنفسه انتهى وأول الوجهين قريب مما قدمناه.

وقوله: ﴿لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ بدل من ضمير الخطاب في ﴿لكم﴾ للدلالة على أن التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خصلة جميلة زاكية لا يتصف بها كل من تسمى بالإيمان، وإنما يتصف بها جمع ممن تلبس بحقيقة الإيمان فكان يرجو الله واليوم الآخر أي تعلق قلبه بالله فآمن به وتعلق قلبه باليوم الآخر فعمل صالحا ومع ذلك ذكر الله كثيرا فكان لا يغفل عن ربه فتأسى بالنبي في أفعاله وأعماله.

وقيل: قوله: ﴿لمن كان﴾ إلخ، صلة لقوله: ﴿حسنة﴾ أو صفة له للمنع عن الإبدال من ضمير الخطاب ومآل الوجوه الثلاثة بحسب المعنى واحد.

قوله تعالى: ﴿ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله﴾، وصف لحال المؤمنين لما شاهدوا الأحزاب ونزول جيوشهم حول المدينة فكان ذلك سبب رشدهم وتبصرهم في الإيمان وتصديقهم لله ولرسوله على خلاف ما ظهر من المنافقين والذين في قلوبهم مرض من الارتياب وسيىء القول، وبذلك يظهر أن المراد بالمؤمنين المخلصون لإيمانهم بالله ورسوله.

وقوله: ﴿قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله﴾ الإشارة بهذا إلى ما شاهدوه مجردا عن سائر الخصوصيات، كما في قوله: ﴿فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي﴾ الأنعام: 78.

والوعد الذي أشاروا إليه قيل: هو ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وعدهم أن الأحزاب سيتظاهرون عليهم فلما شاهدوهم تبين لهم أن ذلك هو الذي وعدهم.

وقيل: إنهم كانوا قد سمعوا قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾ البقرة: 241 فتحققوا أنهم سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدة والمحنة التي تزلزل القلوب وتدهش النفوس فلما رأوا الأحزاب أيقنوا أنه من الوعد الموعود وأن الله سينصرهم على عدوهم.

والحق هو الجمع بين الوجهين نظرا إلى جمعهم بين الله ورسوله في الوعد إذ قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله.

وقوله: ﴿وصدق الله ورسوله﴾ شهادة منهم على صدق الوعد، وقوله: ﴿وما زادهم إلا إيمانا وتسليما﴾ أي إيمانا بالله ورسوله وتسليما لأمر الله بنصرة دينه والجهاد في سبيله.

قوله تعالى: ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾، قال الراغب: النحب النذر المحكوم بوجوبه، يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره قال تعالى: ﴿فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر﴾، ويعبر بذلك عمن مات كقولهم: قضى أجله واستوفى أكله وقضى من الدنيا حاجته.

وقوله: ﴿صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ أي حققوا صدقهم فيما عاهدوه أن لا يفروا إذا لاقوا العدو، ويشهد على أن المراد بالعهد ذلك أن في الآية محاذاة لقوله السابق في المنافقين والضعفاء الإيمان: ﴿ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار﴾ كما أن في الآية السابقة محاذاة لما ذكر سابقا من ارتياب القوم وعدم تسليمهم لأمر الله.

وقوله: ﴿فمنهم من قضى نحبه﴾ إلخ، أي منهم من قضى أجله بموت أو قتل في سبيل الله ومنهم من ينتظر ذلك وما بدلوا شيئا مما كانوا عليه من قول أو عهد تبديلا.

قوله تعالى: ﴿ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما﴾ اللام للغاية وما تتضمنه الآية غاية لجميع من تقدم ذكرهم من المنافقين والمؤمنين.

فقوله: ﴿ليجزي الله الصادقين بصدقهم﴾ المراد بالصادقين المؤمنين وقد ذكر صدقهم قبل، والباء في ﴿بصدقهم﴾ للسببية أي ليجزي المؤمنين الذين صدقوا عهدهم بسبب صدقهم.

وقوله: ﴿ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم﴾ أي وليعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم وذلك فيما لو لم يتوبوا أو يتوب عليهم إن تابوا إن الله كان غفورا رحيما.

وفي الآية من حيث كونها بيان غاية نكتة لطيفة هي أن المعاصي ربما كانت مقدمة للسعادة والمغفرة لا بما أنها معاص بل لكونها سائقة للنفس من الظلمة والشقوة إلى حيث تتوحش النفس وتتنبه فتتوب إلى ربها وتنتزع عن معاصيها وذنوبها فيتوب الله عليها في الغاية.

قوله تعالى: ﴿ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا﴾ الغيظ الغم والحنق والمراد بالخير ما كان يعده الكفار خيرا وهو الظفر بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين.

والمعنى: ورد الله الذين كفروا مع غمهم وحنقهم والحال أنهم لم ينالوا ما كانوا يتمنونه وكفى الله المؤمنين القتال فلم يقاتلوا وكان الله قويا على ما يريد عزيزا لا يغلب.

قوله تعالى: ﴿وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم - إلى قوله - قديرا﴾ المظاهرة المعاونة، والصياصي جمع صيصية وهي الحصن الذي يمتنع به ولعل التعبير بالإنزال دون الإخراج لأن المتحصنين يصعدون بروج الحصون ويشرفون منها ومن أعالي الجدران على أعدائهم في خارجها ومحاصريهم.

والمعنى: ﴿وأنزل الذين ظاهروهم﴾ أي عاونوا المشركين وهم بنو قريظة ﴿من أهل الكتاب﴾ وهم اليهود ﴿من صياصيهم﴾ وحصونهم ﴿وقذف﴾ وألقى ﴿في قلوبهم الرعب﴾ والخوف ﴿فريقا تقتلون﴾ وهم الرجال ﴿و تأسرون فريقا﴾ وهم الذراري والنساء ﴿وأورثكم﴾ أي وملككم بعدهم ﴿أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها﴾ وهي أرض خيبر أو الأرض التي أفاء الله مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وأما تفسيرها بأنها كل أرض ستفتح إلى يوم القيامة أو أرض مكة أو أرض الروم وفارس فلا يلائمه سياق الآيتين ﴿وكان الله على كل شيء قديرا﴾ .

بحث روائي:

في المجمع، ذكر محمد بن كعب القرظي وغيره من أصحاب السير قالوا: كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب في جماعة من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: إنا سنكون معكم عليهم حتى نستأصلهم.

فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول فديننا خير أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه فأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله فيهم ﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت - ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا إلى قوله وكفى بجهنم سعيرا﴾ فسر قريشا ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه فأجمعوا لذلك واتعدوا له.

ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبروهم أنهم سيكونون عليه وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم.

فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة والحارث بن عوف في بني مرة ومسعر بن جبلة الأشجعي فيمن تابعه من الأشجع وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل طليحة فيمن اتبعه من بني أسد وهما حليفان أسد وغطفان وكتب قريش إلى رجال من بني سليم فأقبل أبو الأعور السلمي فيمن اتبعه من بني سليم مددا لقريش.

فلما علم بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار إليه سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يومئذ حر قال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون حتى أحكموه.

فما ظهر من دلائل النبوة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المزني قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلا قويا فقال الأنصار: سلمان منا، وقال المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سلمان منا أهل البيت.

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن وستة من الأنصار نقطع أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الثرى أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة فكسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره عن الصخرة، فأما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، فرقي سلمان حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مضروب عليه قبة فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدورة فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فهبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع سلمان في الخندق وأخذ المعول وضرب بها ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها يعني لابتي المدينة حتى لكان مصباحا في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تكبيرة فتح فكبر المسلمون ثم ضرب ضربة أخرى فلمعت برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى.

فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي أرى؟ فقال: أما الأولى فإن الله عز وجل فتح علي بها اليمن وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك وقالوا: الحمد لله موعد صادق.

قال: وطلعت الأحزاب فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، وقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يحدثكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر في يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا.

ومما ظهر فيه أيضا من آيات النبوة ما رواه أبو عبد الله الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي قال حدثني، أيمن المخزومي قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية وهي الجبل فقلنا: يا رسول الله إن كدية عرضت فيه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رشوا عليها ماء ثم قام وأتاها وبطنه معصوب الحجر من الجوع فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل فقلت: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل ففعل فقلت للمرأة هل عندك من شيء؟ فقالت: عندي صاع من شعير وعناق فطحنت الشعير فعجنته وذبحت العناق وسلختها وخليت بين المرأة وبين ذلك.

ثم أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجلست عنده ساعة ثم قلت: ائذن لي يا رسول الله ففعل فأتيت المرأة فإذا العجين واللحم قد أمكنا فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: إن عندنا طعيما لنا فقم يا رسول الله أنت ورجلان من أصحابك فقال: وكم هو؟ فقلت: صاع من شعير وعناق فقال للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر فقاموا فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله فقلت: جاء بالخلق إلى صاع شعير وعناق.

فدخلت على المرأة وقلت قد افتضحت جاءك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخلق أجمعين فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم.

فقالت: الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا فكشفت عني غما شديدا.

فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: خذي ودعيني من اللحم فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يثرد ويفرق اللحم ثم يحم هذا ويحم هذا فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلي وأهدي فلم نزل نأكل ونهدي قومنا أجمع أورده البخاري في الصحيح.

قالوا: ولما فرغ رسول الله من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة وكان قد وادع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قومه وعاهده على ذلك فلما سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه.

فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه يا كعب افتح لي فقال: ويحك يا حيي إنك رجل مشئوم، إني قد عاهدت محمدا ولست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.

قال: ويحك افتح لي حتى أكلمك.

قال: ما أنا بفاعل.

قال: إن أغلقت دوني إلا على جشيشة تكره أن آكل منها معك.

فأحفظ الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها وبغطفان على سادتها وقادتها قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه.

فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر بجهام قد أهراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شيء فدعني ومحمدا وما أنا عليه فلم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.

فلم يزل حيي بكعب يفتل منه في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك فنقض كعب عهده وبرىء مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فلما انتهى الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس أحد بني عبد الأشهل وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لنا لحنا نعرفه ولا تفتوا أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.

وخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم عنهم.

قالوا: لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه، وقال سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فإن ما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة.

ثم أقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: عضل والقارة لغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله خبيب بن عدي وأصحابه أصحاب الرجيع فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن وظهر النفاق من بعض المنافقين.

فأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم قتال إلا الرمي بالنبال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لوي وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيولهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان؟ ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا وأقبلت الفرسان نحوهم.

وكان عمرو بن عبد ود فارس قريش وكان قد قاتل يوم بدر حتى ارتث وأثبته الجراح ولم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده، وكان يعد بألف فارس وكان يسمى فارس يليل لأنه أقبل في ركب من قريش حتى إذا كانوا بيليل وهو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا فمضوا فقام في وجوه بني بكر حتى منعهم أن يصلوا إليه فعرف بذلك.

وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد وكان أول من طفره عمرو وأصحابه فقيل في ذلك.

عمرو بن عبد كان أول فارس جزع المذاد وكان فارس يليل.

وذكر ابن إسحاق أن عمرو بن عبد ود - كان ينادي: من يبارز؟ فقام علي وهو مقنع في الحديد - فقال: أنا له يا نبي الله، فقال: إنه عمرو اجلس.

ونادى عمرو: ألا رجل؟ وهو يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ وقام علي فقال: أنا له يا رسول الله.

ثم نادى الثالثة فقال: ولقد بححت عن النداء - بجمعكم هل من مبارز؟ ووقفت إذ جبن المشجع - موقف البطل المناجز إن السماحة والشجاعة في - الفتى خير الغرائز فقام علي فقال: يا رسول الله أنا له، فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عمرا فاستأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأذن له -.

قال ابن إسحاق: فمشى إليه وهو يقول: لا تعجلن فقد أتاك - مجيب صوتك غير عاجز ذو نية وبصيرة - والصدق منجي كل فائز إني لأرجو أن أقيم - عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء يبقى - ذكرها عند الهزاهز قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي.

قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك - فإني أكره أن أهريق دمك.

فقال علي: لكني والله ما أكره أن أهريق دمك.

فغضب عمرو ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار - ثم أقبل نحو علي مغضبا فاستقبله علي بدرقته فضربه عمرو بالدرقة فقدها - وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل العاتق فسقط.

وفي رواية حذيفة: وتسيف على رجليه بالسيف من أسفل - فوقع على قفاه وثارت بينهما عجاجة - فسمع علي يكبر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قتله والذي نفسي بيده - فكان أول من ابتدر العجاج عمرو بن الخطاب - وقال: يا رسول الله قتله فجز على رأسه - وأقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجهه يتهلل.

قال حذيفة: فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أبشر يا علي - فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم - وذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين - إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو.

وعن الحاكم أبي القاسم أيضا بالإسناد عن سفيان الثوري عن زبيد الثاني عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال: كان يقرأ (وكفى الله المؤمنين القتال بعلي).

وخرج أصحابه منهزمين حتى طفرت خيولهم الخندق وتبادر المسلمون فوجدوا نوفل بن عبد العزى جوف الخندق فجعلوا يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام، وذكر ابن إسحاق: أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق.

وبعث المشركون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى، وذكر علي أبياتا منها: نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب فضربته وتركته متجدلا كالجذع بين دكادك ورواب وعففت عن أثوابه لو أنني كنت المقطر بزني أثوابي قال ابن اسحاق: ورمى حنان بن قيس بن العرفة سعد بن معاذ بسهم وقال: خذها وأنا ابن العرفة فقطع أكحله فقال سعد: عرف الله وجهك في النار اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.

قال: وجاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإنما الحرب خدعة.

فانطلق نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة فقال لهم: إني لكم صديق، والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة إن البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم وإنما قريش وغطفان بلادهم غيرها وإنما جاءوا حتى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة لكم به فلا تقاتلوا حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتى يناجزوا محمدا.

فقالوا له: قد أشرت برأي.

ثم ذهب فأتى أبا سفيان وأشراف قريش فقال: يا معشر قريش إنكم قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا ودينه وإني قد جئتكم بنصيحة فاكتموا علي.

فقالوا: نفعل ما أنت عندنا بمتهم.

قال: تعلمون أن بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد فبعثوا إليه أنه لا يرضيك عنا إلا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ثم نكون معك عليهم حتى نخرجهم من بلادك.

فقال: بلى فإن بعثوا إليكم يسألونك نفرا من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحدا واحذروا.

ثم جاء غطفان وقال: يا معشر غطفان إني رجل منكم، ثم قال لهم ما قال لقريش.

فلما أصبح أبو سفيان وذلك يوم السبت في شوال سنة خمس من الهجرة بعث إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش أن أبا سفيان يقول لكم: يا معشر اليهود إن الكراع والخف قد هلكا وإنا لسنا بدار مقام فاخرجوا إلى محمد حتى نناجزه.

فبعثوا إليه أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتى نناجز محمدا فقال أبو سفيان: والله لقد حذرنا هذا نعيم فبعث إليهم أبو سفيان: أنا لا نعطيكم رجلا واحدا فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا وإن شئتم فاقعدوا، فقالت اليهود: هذا والله الذي قال لنا نعيم.

فبعثوا إليهم أنا والله لا نقاتل حتى تعطونا رهنا، وخذل الله بينهم وبعث سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتى انصرفوا راجعين.

قال محمد بن كعب قال حذيفة بن اليمان والله لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلا الله وقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي ما شاء الله من الليل ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنة.

قال حذيفة: فو الله ما قام منا أحد مما بنا من الخوف والجهد والجوع، فلما لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدا من إجابته.

قلت: لبيك قال: اذهب فجىء بخبر القوم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع.

قال: وأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل ما يستمسك لهم بناء ولا تثبت لهم نار ولا يطمئن لهم قدر فإني لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ثم قال: يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه؟ قال حذيفة: فبدأت بالذي عن يميني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.

ثم عاد أبو سفيان براحلته فقال: يا معشر قريش والله ما أنتم بدار مقام هلك الخف والحافر وأخلفتنا بنو قريظة وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء ثم عجل فركب راحلته وإنها لمعقولة ما حل عقالها إلا بعد ما ركبها.

قال: قلت في نفسي: لو رميت عدو الله وقتلته كنت قد صنعت شيئا فوترت قوسي ثم وضعت السهم في كبد القوس وأنا أريد أن أرميه فأقتله فذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تحدثن شيئا حتى ترجع.

قال فحططت القوس ثم رجعت إلى رسول الله وهو يصلي فلما سمع حسي فرج بين رجليه فدخلت تحته، وأرسل على طائفة من مرطة فركع وسجد ثم قال: ما الخبر؟ فأخبرته.

وعن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أجلى عنه الأحزاب: الآن نغزوهم ولا يغزوننا فكان كما قال فلم يغزهم قريش بعد ذلك وكان هو يغزوهم حتى فتح الله عليهم مكة: أقول: هذا ما أورده الطبرسي في مجمع البيان، من القصة أوردناه ملخصا وروى القمي في تفسيره، قريبا منه وأورده في الدر المنثور، في روايات متفرقة.

وفي المجمع، أيضا روى الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لما انصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخندق ووضع عنه اللأمة واغتسل واستحم تبدى له جبريل فقال: عذيرك من محارب أ لا أراك أن قد وضعت عنك اللأمة وما وضعناها بعد.

فوثب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر حتى يأتوا قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس واختصم الناس فقال بعضهم: إن رسول الله عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي قريظة فإنما نحن في عزمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فليس علينا إثم، وصلى طائفة من الناس احتسابا وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس فصلوها حين جاءوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدا من الفريقين.

وذكر عروة أنه بعث علي بن أبي طالب على المقدم ودفع إليه اللواء وأمره أن ينطلق حتى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل وخرج رسول الله على آثارهم فمر على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فزعموا أنه قال: مر بكم الفارس آنفا فقالوا: مر بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس ذلك بدحية ولكنه جبرائيل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب.

قالوا: وسار علي حتى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع حتى لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث قال: أظنك سمعت لي منهم أذى؟ فقال: نعم يا رسول الله فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حصونهم قال: يا إخوة القردة والخنازير! هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ فقالوا: يا أبا لقاسم ما كنت جهولا.

وحاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان فلما أيقنوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم قالوا: ما هن؟.

قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم.

قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم علي هذا فهلموا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا يهمنا وإن نظهر لنجدن النساء والأبناء.

فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير في العيش بعدهم.

قال: فإن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا فلعلنا نصيب منهم غرة.

فقالوا: نفسد سبتنا؟ ونحدث فيه ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ؟ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.

قال الزهري: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سألوه أن يحكم فيهم رجلا: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسلاحهم فجعل في قبته وأمر بهم فكتفوا وأوثقوا وجعلوا في دار أسامة، وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سعد بن معاذ فجيء به فحكم فيهم بأن يقتل مقاتلوهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم وتغنم أموالهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال للأنصار: إنكم ذو عقار وليس للمهاجرين عقار، فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل، وفي بعض الروايات: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة وأرقعة جمع رقيع اسم سماء الدنيا.

فقتل رسول الله مقاتليهم، وكانوا فيما زعموا: ستمائة مقاتل، وقيل: قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلا وسبى سبعمائة وخمسين، وروي أنهم قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إرسالا: يا كعب ما ترى يصنع بنا؟ فقال كعب: أ في كل موطن تقولون؟ أ لا ترون أن الداعي لا ينزع ومن يذهب منكم لا يرجع هو والله القتل.

وأتي بحيي بن أخطب عدو الله عليه حلة فاختية قد شقها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما بصر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما والله ما لمت نفسي على عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم قال: يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب الله وقدرة ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه.

ثم قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءهم وأبناءهم وأموالهم على المسلمين وبعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بهم خيلا وسلاحا، قالوا: فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد.

وروي عن جابر بن عبد الله قال: جاء جبرائيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا سعد بن معاذ قد قبض.

أقول: وروى القصة القمي في تفسيره، مفصلة وفيه: فأخرج كعب بن أسيد مجموعة يداه إلى عنقه فلما نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: يا كعب أ ما نفعك وصية ابن الحواس الحبر الذكي الذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر والخمير وجئت إلى البئوس والتمور لنبي يبعث مخرجه بمكة ومهاجرته في هذه البحيرة يجتزي بالكسيرات والتميرات، ويركب الحمار العري، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر فقال قد كان ذلك يا محمد ولو لا أن اليهود يعيروني أني جزعت عند القتل لآمنت بك وصدقتك ولكني على دين اليهود عليه أحيا وعليه أموت.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قدموه واضربوا عنقه فضربت.

وفيه أيضا: فقتلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البردين بالغداة والعشي في ثلاثة أيام وكان يقول: اسقوهم العذب وأطعموهم الطيب وأحسنوا أساراهم حتى قتلهم كلهم فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم﴾ - إلى قوله - وكان الله على كل شيء قديرا﴾.

وفي المجمع، روى أبو القاسم الحسكاني عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن علي (عليه السلام) قال: فينا نزلت ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ فأنا والله المنتظر ما بدلت تبديلا.