الآيات 153 - 157

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿153﴾ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴿154﴾ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿155﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴿156﴾ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴿157﴾

بيان:

خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أولها، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة، وسياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الأمر بالقتال وتشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلاء سيقبل على المؤمنين، ومصيبة ستصيبهم، ولا كل بلاء ومصيبة، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الإنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث جزئية يختل بها نظام الفرد في حياته الشخصية: من موت ومرض وخوف وجوع وغم وحرمان، سنة الله التي جرت في عباده وخلقه، فالدار دار التزاحم، والنشأة نشأة التبدل والتحول، ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا.

والبلاء الفردي وإن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك، مكروها، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التي تتراءى بها البلايا والمحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الأفراد، وأما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيأة المجتمعة، ويختل به نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات، فالبلاء العام والمحنة الشاملة أشق وأمر، وهو الذي تلوح له الآيات.

ولا كل بلاء عام كالوباء والقحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، وأجابوا دعوة الحق، وتخالفهم فيه الدنيا وخاصة قومهم، وما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله، واستيصال كلمة العدل، وإبطال دعوة الحق، ولا وسيلة تحسم مادة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة وبث الفتنة، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي والوسوسة والفتنة والدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال والاستعانة به على سد سبيل الحق، وإطفاء نور الدين اللامع المشرق.

هذا من جانب الكفر، والأمر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد، وبث دين الحق، وحكم العدل، وقطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال، فإن التجارب الممتدة من لدن كان الإنسان نازلا في هذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل، ولن يماط إلا بضرب من أعمال القدرة والقوة.

وبالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهة مكروهة، ولا صفة سوء، وهو أنه ليس بموت بل حياة، وأي حياة! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، وتخبرهم أن أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي، وصلاة ربهم ورحمته، والاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، وتحمل مشاقها، ويعلمهم ما يستعينون به عليها، وهو الصبر والصلاة، أما الصبر: فهو وحدة الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير، وأما الصلاة: فهي توجه إلى الرب، وانقطاع إلى من بيده الأمر، وأن القوة لله جميعا.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين﴾ الآية، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر والصلاة في تفسير قوله: ﴿واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين﴾ البقرة: 45 والصبر من أعظم الملكات والأحوال التي يمدحها القرآن، ويكرر الأمر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: ﴿إن ذلك من عزم الأمور﴾ لقمان: 17، وقيل: ﴿وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم﴾ فصلت: 35، وقيل: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ الزمر: 10.

والصلاة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ العنكبوت: 45، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلاة رأسها وأولها.

ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، وإنما لم يصف الصلاة، كما في قوله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة الآية، لأن المقام في هذه الآيات، مقام ملاقات الأهوال، ومقارعة الأبطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، وهذه المعية غير المعية التي يدل عليه قوله تعالى: ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ الحديد: 4، فإنها معية الإحاطة والقيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.

قوله تعالى: ﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون﴾ الآية، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر وأذعنوا بالحياة الآخرة، ولا يتصور منهم القول ببطلان الإنسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق وسمعوا شيئا كثيرا من الآيات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الآية إنما تثبت الحياة بعد الموت في جماعة مخصوصين، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، وجميع الكفار، مع أن حكم الحياة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحياة بقاء الاسم، والذكر الجميل على مر الدهور، وبذلك فسره جمع من المفسرين.

ويرده أولا: أن كون هذه حياة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حياة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، ومثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، وهو تعالى يدعو إلى، الحق ويقول: ﴿فما ذا بعد الحق إلا الضلال﴾ يونس: 32، وأما الذي سأله إبراهيم في قوله ﴿واجعل لي لسان صدق في الآخرين﴾ الشعراء:84، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، ولسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب.

نعم هذا القول الباطل، والوهم الكاذب إنما يليق بحال الماديين، وأصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحياة الآخرة ثم أحسوا باحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثرها بالسعادة والشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية والتضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيا ويعيش آخرون، ولو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للإنسان وخاصة إذا اعتقد بالموت والفوت أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، ولا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا ويأخذ بدله وأما الإعطاء من غير بدل، والترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حياة الغير، والحرمان في طريق تمتع الغير فالفطرة الإنسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الأوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال وحظيرة الوهم، قالوا إن الإنسان الحر من رق الأوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كل ما فيه شرفه، لينال الحياة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء، ويجب عليه أن يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة، ويتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حياة الشرف والعلاء.

وليت شعري إذا لم يكن إنسان، وبطل هذا التركيب المادي، وبطل بذلك جميع خواصه، ومن جملتها الحياة والشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحياة وهذا الشرف؟ ومن الذي يدركه ويلتذ به؟ فهل هذا إلا خرافة؟.

وثانيا: أن ذيل الآية - وهو قوله تعالى: ﴿ولكن لا تشعرون﴾ لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، وثناء الناس عليهم بعدهم، لأنه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس.

وثالثا: أن نظيرة هذه الآية - وهي تفسرها - وصف حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ آل عمران: 196، إلى آخر الآيات ومعلوم أن هذه الحياة حياة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.

ورابعا: أن الجهل بهذه الحياة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في أواسط عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل إنما هو البعث للقيامة، وأما ما بين الموت إلى الحشر - وهي الحياة البرزخية - فهي وإن كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وأن الإنسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة، فيمكن أن يكون المراد بيان حياة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، وإن علم به آخرون.

وبالجملة: المراد بالحياة في الآية الحياة الحقيقية دون التقديرية، وقد عد الله سبحانه حياة الكافر بعد موته هلاكا وبوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: ﴿وأحلوا قومهم دار البوار﴾ إبراهيم: 28، إلى غير ذلك من الآيات، فالحياة حياة السعادة، والإحياء بهذه الحياة المؤمنون خاصة كما قال: ﴿وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ العنكبوت: 64، وإنما لم يعلموا، لأن حواسهم مقصورة على إدراك خواص الحياة في المادة الدنيوية، وأما ما وراءها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه وبين الفناء فتوهموه فناء، وما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية، بل أحياء ولكن لا تشعرون أي: بحواسكم، كما قال في الآية الأخرى: لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، أي باليقين كما قال تعالى: ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم﴾ التكاثر: 6.

فمعنى الآية - والله أعلم - ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، ولا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء ولكن حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به، وإلقاء هذا القول على المؤمنين - مع أنهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، وعدم بطلان ذاته - إنما هو لإيقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فإنه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلا مفارقة في أيام قلائل في الدنيا وهو هين في قبال مرضاة الله سبحانه وما ناله القتيل من الحياة الطيبة، والنعمة المقيمة، ورضوان من الله أكبر، وهذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين الآية، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول الموقنين بآيات ربه، ولكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، وظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.

نشأة البرزخ:

فالآية تدل دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخية، كالآية النظيرة لها وهي قوله: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ آل عمران: 169، والآيات في ذلك كثيرة.

ومن أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، ولقد أحسن بعض المحققين: من المفسرين في تفسير قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة الآية، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الأقاويل.

وليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا؟ وعلى أي صفة يتصورون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الإنسان بعد الموت والقتل، وانحلال تركيبه وبطلانه؟ أهو على سبيل الإعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الأكرم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل إيجاد محال ضروري الاستحالة، ولا إعجاز في محال، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه؟ أم هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بأن يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل والشرب وسائر التمتعات - وهم غائبون عن الحس - وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الأعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد أخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شيء ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الإطلاق، ولو كان المخصص هو الإرادة الإلهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، والإشكال - وهو عدم الوثوق بالإدراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع واقعا والواقع ليس بواقع، وكيف يرضى عاقل أن يتفوه بمثل ذلك؟ وهل هو إلا سفسطة؟.

وقد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الأمور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة، كالملائكة وأرواح المؤمنين وسائر ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الإنسان ونحوه، يفعل جميع الأفعال الإنسانية مثلا، ولها أمثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام الطبيعة: من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله، والحياة والموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، وإذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الأشياء.

وهذا القول منهم مبني على إنكار العلية والمعلولية بين الأشياء، ولو صحت هذه الأمنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، والأحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى أجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي، وهو ظاهر.

فقد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحياة البرزخية، وهي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت والقيامة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيامة.

ومن الآيات الدالة عليه - وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ آل عمران: 171، وقد مر تقريب دلالة الآية على المطلوب، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة، والتنعم بعد الموت.

ومن الآيات قوله تعالى: ﴿حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون﴾ المؤمنون: 100، والآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية وحياتهم بعد البعث، وسيجيء تمام الكلام في الآية إن شاء الله تعالى.

ومن الآيات قوله تعالى: ﴿وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا نزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة﴾ ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر ﴿لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام وهو يوم القيامة ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا﴾الفرقان: 26، ودلالتها ظاهرة.

وسيأتي تفصيل القول فيها في محله إن شاء الله تعالى.

ومن الآيات قوله تعالى: ﴿قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل﴾ المؤمنون: 11، فهنا إلى يوم البعث - وهو يوم قولهم هذا - إماتتان وإحيائان، ولن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة وإحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيامة، ولو كان أحد الإحيائين في الدنيا والآخر في الآخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية، وقد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى: ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم﴾ البقرة: 28 فارجع.

ومن الآيات قوله تعالى: ﴿وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار. يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب﴾ المؤمنون: 46، إذ من المعلوم أن يوم القيامة لا بكرة فيه ولا عشي فهو يوم غير اليوم.

والآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، أو تومىء إليها كثيرة، كقوله تعالى: ﴿تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم﴾ النحل: 63، إلى غير ذلك.

تجرد النفس:

ويتبين بالتدبر في الآية، وسائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك، وهي تجرد النفس، بمعنى كونها أمرا وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الإدراكية، والتدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الإنسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت بموت البدن، ولا يفنى بفنائه، وانحلال تركيبه وتبدد أجزائه، وأنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنيء دائم، ونعيم مقيم، أو في شقاء لازم، وعذاب أليم، وأن سعادته في هذه العيشة، وشقاءه فيها مرتبطة بسنخ ملكاته وأعماله، لا بالجهات الجسمانية والأحكام الاجتماعية.

فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، وواضح أنها أحكام تغاير الأحكام الجسمانية، وتتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها، فالنفس الإنسانية غير البدن.

ومما يدل عليه من الآيات قوله تعالى: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى﴾ الزمر: 42، والتوفي والاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه وكماله، وما تشتمل عليه الآية: من الأخذ والإمساك والإرسال ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن.

ومن الآيات قوله تعالى: ﴿وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون﴾ السجدة: 11، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد، وهو أنا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا، وتبدد أجزاؤنا، وتتبدل صورنا فنضل في الأرض، ويفقدنا حواس المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد؟ وهذا استبعاد محض، وقد لقن تعالى على رسوله: الجواب عنه، بقوله: ﴿قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم﴾ الآية، وحاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفاكم ويأخذكم، ولا يدعكم تضلوا وأنتم في قبضته وحفاظته، وما تضل في الأرض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ كم فإنه يتوفاكم.

ومن الآيات قوله تعالى: ﴿ونفخ فيه من روحه﴾ الآية: السجدة: 9، ذكره في خلق الإنسان ثم قال تعالى: ﴿يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي﴾ الإسراء:85، فأفاد أن الروح من سنخ أمره، ثم عرف الأمر في قوله تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء﴾ يس: 83 فأفاد أن الروح من الملكوت، وأنها كلمة كن ثم عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله: ﴿وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر﴾ القمر: 50، والتعبير بقوله: كلمح بالبصر يعطي أن الأمر الذي هو كلمة كن موجود دفعي الوجود غير تدريجية، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان، ومن هنا يتبين أن الأمر - ومنه الروح شيء غير جسماني ولا مادي فإن، الموجودات المادية الجسمانية من أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود، مقيدة بالزمان والمكان، فالروح التي للإنسان ليست بمادية جسمانية، وإن كان لها تعلق بها.

وهناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: ﴿منها خلقناكم﴾ طه: 55، وقال تعالى: ﴿خلق الإنسان من صلصال كالفخار﴾ الرحمن: 14 وقال تعالى ﴿وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين﴾ السجدة: 8، ثم قال: سبحانه وتعالى ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ المؤمنون: 14، فأفاد أن الإنسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور وإرادة، يفعل أفعالا: من الشعور والإرادة والفكر والتصرف في الأكوان، والتدبير في أمور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام والجسمانيات، فلا هي جسمانية، ولا موضوعها الفاعل لها.

فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها - وهو البدن الذي تنشأ منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد، وبهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، وتبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالإنشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الآيات الشريفة المذكورة بظهورها: وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالإيماء والتلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، والله الهادي.

قوله تعالى: ﴿ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات﴾ لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة، ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، وهو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي ولا يصفو لهم الأمر في الحياة الشريفة، والدين الحنيف إلا به، وهو الحرب والقتال، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين ويتأيدوا بهاتين القوتين، وهما الصبر والظفر، ويضيفوا إلى ذلك ثالثا وهو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية القصوى من كمالهم، واشتد بأسهم وطابت نفسهم، وهو الإيمان بأن القتيل منهم غير ميت ولا فقيد، وأن سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحياة، وقد أبادوا عدوهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم - وإن قتلهم عدوهم فهم على الحياة - ولم يتحكم الجور والباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.

وعامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس فذكرها الله تعالى، وأما الثمرات فالظاهر أنها الأولاد، فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، وربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، وهي التمر والمراد بالأموال غيرها وهي الدواب من الإبل والغنم.

قوله تعالى: ﴿وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ أعاد ذكر الصابرين ليبشرهم أولا، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، ويظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر - وهو ملكه تعالى للإنسان - ثالثا، ويبين جزاءه العام - وهو الصلاة والرحمة والاهتداء - رابعا فأمر تعالى نبيه أولا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرا وجميلا، وقد ضمنها رب العزة، ثم بين أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة، وهي الواقعة التي تصيب الإنسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، وهي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، وأن مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والأسف، ويغسل رين الغفلة.

بيانه أن وجود الإنسان وجميع ما يتبع وجوده، من قواه وأفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره وموجده فهو قائم به مفتقر ومستند إليه في جميع أحواله من حدوث وبقاء غير مستقل دونه، فلربه التصرف فيه كيف شاء وليس للإنسان من الأمر شيء إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده وقواه وأفعاله حقيقة.

ثم إنه تعالى ملكه بالإذن نسبة ذاته، ومن هناك يقال: للإنسان وجود، وكذا نسبة قواه وأفعاله ومن هناك يقال: للإنسان قوى كالسمع والبصر، ويقال: للإنسان أفعال كالمشي والنطق، والأكل والشرب، ولو لا الإذن الإلهي لم يملك الإنسان ولا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا.

وقد أخبر سبحانه: أن الأشياء سيعود إلى حالها قبل الإذن ولا يبقى ملك إلا لله وحده، قال تعالى: ﴿لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾ المؤمنون: 16، وفيه رجوع الإنسان بجميع ما له ومعه إلى الله سبحانه.

فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الإنسان ولا غيره، وملك ظاهري صوري كملك الإنسان نفسه وولده وماله وغير ذلك وهو لله سبحانه حقيقة، وللإنسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا، فإذا تذكر الإنسان حقيقة ملكه تعالى، ونسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه، وتذكر أيضا أن الملك الظاهري فيما بين الإنسان ومن جملتها ملك نفسه لنفسه وماله وولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالآخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة ولا مجازا، وإذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها، فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الإنسان شيئا مما يملكه، حتى يفرح بوجدانه، ويحزن بفقدانه، وأما إذا أذعن واعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر ولم يحزن، وكيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء؟.

الأخلاق:

اعلم أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها، مثلا إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الأحشاء، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الإقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة، وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الأخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين: المسلك الأول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس كما يقال: إن العفة وقناعة الإنسان بما عنده والكف عما عند الناس توجب العزة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامة، وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر، وإن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة والوجاهة والأنس عند الخاصة، وإن العلم بصر يتقي به الإنسان كل مكروه، ويدرك كل محبوب وإن الجهل عمى، وإن العلم يحفظك وأنت تحفظ المال، وإن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون والحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الإنسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهور، وإن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، وهي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبة في القلوب.

وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الأخلاق، والمأثور من بحث الأقدمين من يونان وغيرهم فيه.

ولم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: ﴿وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة﴾ البقرة: 150 دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وعلله بقوله: لئلا يكون، وكقوله تعالى: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا﴾ الأنفال: 46، دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرأة العدو، وقوله تعالى ﴿ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور﴾ الشورى: 43، دعا إلى الصبر والعفو، وعلله بالعزم والإعظام.

المسلك الثاني: الغايات الأخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾ التوبة: 111، وقوله تعالى: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ الزمر: 10، وقوله تعالى: ﴿إن الظالمين لهم عذاب أليم﴾ إبراهيم: 22، وقوله تعالى: ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات﴾ البقرة: 257، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.

ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير﴾ فإن الآية دعت إلى ترك الأسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطأكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضي وقدر مقدر، فالأسى والفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الأمور كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾ فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الأخروية، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالمبادىء السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.

فإن قلت: التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية، وفي ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة، واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والأسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، ومقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كل كمال مطلوب، والاتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق، والدفاع عن الحق، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي في كسب كل كمال، وترك كل نقص بالاستناد التي حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك بطلان كل كمال.

قلت: قد ذكرنا في البحث عن القضاء، ما يتضح به الجواب عن هذا الإشكال، فقد ذكرنا ثم أن الأفعال الإنسانية من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: إن الشبع إما مقضي الوجود، وإما مقضي العدم، وعلى كل حال فلا تأثير للأكل غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الأكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطأ أن يفرض الإنسان معلولا من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شيء من أجزاء علله.

فغير جائز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيوية، وإليه تنتسب سعادته وشقاؤه، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال والملكات الحاصلة من أفعاله، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا، وعلة تامة إليه تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شيء آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل، والفرح والأسى، والغم ونحو ذلك.

يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله - وهو جاهل بأن بقية الأسباب الخارجة عن اختياره الناقص، وهي ألوف وألوف لو لم يمهد له الأمر لم يسد اختياره شيئا، ولا أغنى عن شيء - يقول الجاهل: لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أو لما فات عني كذا، وهو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية، أو الحياة - إلى ألوف وألوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقق الفوات أو الموت - انعدام واحد منها، وإن كان اختياره موجودا، على أن نفس اختيار الإنسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.

فإذا عرفت ما ذكرنا وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الإلهي كما مر، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض.

فما كان من الأفعال أو الأحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى: ﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾ الأعراف: 28.

وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الإنسان في التأثير، وكونه سببا تاما غير محتاج في التأثير، ومستغنيا عن غيره، فإنه يثبت استناده إلى القضاء ويهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطىء بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الإنسان بما وجده جهلا، ولا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى: ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ النور: 33، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى: ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ البقرة: 3، فإنه يندب إلى الإنفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا﴾ الكهف: 7، نهى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحزن والغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الأرض من شيء أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك.

وهذا المسلك أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق طريقة الأنبياء، ومنه شيء كثير في القرآن، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.

وهاهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شيء مما نقل إلينا من الكتب السماوية، وتعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين، وهو تربية الإنسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.

وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها، لكن الله سبحانه يقول: ﴿إن العزة لله جميعا﴾ يونس: 65، ويقول: ﴿إن القوة لله جميعا﴾ البقرة: 165، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعا لرياء، ولا سمعة، ولا خوف من غير الله ولا رجاء لغيره، ولا ركون إلى غيره، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كل ذميمة وصفا أو فعلا عن الإنسان وتحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهية من التقوى بالله، والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية.

وأيضا قد تكرر في كلامه تعالى: أن الملك لله، وأن له ملك السماوات والأرض وأن له ما في السماوات والأرض وقد مر بيانه مرارا، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشيء من الموجودات استقلالا دونه، واستغناء عنه بوجه من الوجوه فلا شيء إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته، وإيمان الإنسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتا ووصفا وفعلا عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، ولا أن يخضع لشيء، أو يخاف أو يرجو شيئا، أو يلتذ أو يبتهج بشيء، أو يركن إلى شيء أو يتوكل على شيء أو يسلم لشيء أو يفوض إلى شيء، غير وجهه تعالى، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئا إلا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شيء، ولا يعرض إعراضا ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.

وكذلك قوله تعالى: ﴿الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى﴾ طه: 8، وقوله: ﴿ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء﴾ الأنعام: 102، وقوله: ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه﴾ السجدة: 7، وقوله: ﴿وعنت الوجوه للحي القيوم﴾ طه: 111 وقوله: ﴿كل له قانتون﴾ البقرة: 116، وقوله: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾ الإسراء: 23، وقوله: ﴿أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد﴾ فصلت: 53، وقوله: ﴿ألا إنه بكل شيء محيط﴾ فصلت: 54، وقوله: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ النجم:42.

ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى: ﴿وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، ولا نوع التربية التي سنها الأنبياء في شرائعهم، فإن المسلك الأول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الإسلام على مشرعه وآله أفضل الصلاة هذا.

فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الإسلام، وحاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شئون المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الإسلامية بين الناس من متبعيها، والمزايا والخصائص التي خلفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الإسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، ويدعو إليها جميع الأنبياء هذا.

وأنت بالإحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره، وخبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، وليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال، وهذا حال هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الإنسان في حياته الآخرة، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له، وينتج العبودية المحضة، وكم بين المسالك من فرق!.

وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الإنساني جما غفيرا من العباد الصالحين، والعلماء الربانيين، والأولياء المقربين رجالا ونساء، وكفى بذلك شرفا للدين.

على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بناءه على الحب العبودي، وإيثار جانب الرب على جانب العبد ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الإنسان المحب على أمور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الأخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، وللحب أحكام، وسيجيء توضيح هذا المعنى في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ الآية.

التدبر في الآية يعطي أن الصلاة غير الرحمة بوجه، ويشهد به جمع الصلاة وإفراد الرحمة، وقد قال تعالى: ﴿هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما﴾ الأحزاب: 43، والآية تفيد كون قوله: وكان بالمؤمنين رحيما، في موقع العلة لقوله: ﴿هو الذي يصلي عليكم﴾ والمعنى أنه إنما يصلي عليكم، وكان من اللازم المترقب ذلك، لأن عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين، وأنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى يرحمكم، فنسبة الصلاة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيها وكالنسبة التي بين الالتفات والنظر، والتي بين الإلقاء في النار والإحراق مثلا، وهذا يناسب ما قيل في معنى الصلاة: إنها الانعطاف والميل، فالصلاة من الله سبحانه انعطاف إلى العبد بالرحمة ومن الملائكة انعطاف إلى الإنسان بالتوسط في إيصال الرحمة، ومن المؤمنين رجوع ودعاء بالعبودية وهذا لا ينافي كون الصلاة بنفسها رحمة ومن مصاديقها، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبر في مواردها هي العطية المطلقة الإلهية، والموهبة العامة الربانية، كما قال تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ الأعراف: 156، وقال تعالى: ﴿وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين﴾ الأنعام: 133، فالإذهاب لغناه والاستخلاف والإنشاء لرحمته، وهما جميعا يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل خلق وأمر رحمة، كما أن كل خلق وأمر عطية تحتاج إلى غنى، قال تعالى: ﴿وما كان عطاء ربك محظورا﴾ الإسراء: 20، ومن عطيته الصلاة فهي أيضا من الرحمة غير أنها رحمة خاصة، ومن هنا يمكن أن يوجه جمع الصلاة وإفراد الرحمة في الآية.

قوله تعالى: ﴿وأولئك هم المهتدون﴾ كأنه بمنزلة النتيجة لقوله: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، ولذلك جدد اهتداءهم جملة ثانية مفصولة عن الأولى، ولم يقل: صلوات من ربهم ورحمة وهداية، ولم يقل: وأولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية، فقد تبين أن الرحمة هدايتهم إليه تعالى، والصلوات كالمقدمات لهذه الهداية واهتداءهم نتيجة هذه الهداية، فكل من الصلاة والرحمة والاهتداء غير الآخر وإن كان الجميع رحمة بنظر آخر.

فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك، ويسأل عنها يريد النزول بك فتلقاه بالبشر والكرامة، فتورده مستقيم الطريق وأنت معه تسيره، ولا تدعه يضل في مسيره حتى تورده نزلة من دارك وتعاهده في الطريق بمأكله ومشربه، وركوبه وسيره، وحفظه من كل مكروه يصيبه فجميع هذه الأمور إكرام واحد لأنك إنما تريد إكرامه، وكل تعاهد تعاهد وإكرام خاص، والهداية غير الإكرام، وغير التعاهد، وهو مع ذلك إكرام فكل منها تعاهد، وكل منها هداية وكل منها إكرام خاص، والجميع إكرام.

فالإكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة، والتعاهدات في كل حين بمنزلة الصلوات، والنزول في الدار بمنزلة الاهتداء.

والإتيان بالجملة الاسمية في قوله: وأولئك هم المهتدون، والابتداء باسم الإشارة الدال على البعيد، وضمير الفصل ثانيا وتعريف الخبر بلام الموصول في قوله: المهتدون كل ذلك لتعظيم أمرهم وتفخيمه - والله أعلم -.

بحث روائي في البرزخ وحياة الروح بعد الموت:

في تفسير القمي، عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك لحريصا شحيحا، فما لي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: والله إني كنت لكم لمحبا، وإني كنت عليكم لحاميا، فما ذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها، ثم يلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهدا، وإنك كنت علي لثقيلا، فما ذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم حشرك، حتى أعرض أنا وأنت على ربك، فإن كان لله وليا أتاه أطيب الناس ريحا وأحسنهم منظرا، وأزينهم رياشا، فيقول: بشر بروح من الله وريحان وجنة نعيم، قد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح أرتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يعجله فإذا دخل قبره أتاه ملكان، وهما فتانا القبر، يحبران أشعارهما، ويحبران الأرض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، فيقولان: ثبتك الله فيما تحب وترضى، وهو قول الله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا الآية، فيفسحان له في قبره مد بصره، ويفتحان له بابا إلى الجنة ويقولان: نم قرير العين نوم الشاب الناعم، وهو قوله: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. وإذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح خلق الله رياشا، وأنتنه ريحا، فيقول له أبشر بنزل من حميم، وتصلية جحيم، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتياه ممتحنا القبر، فألقيا عنه أكفانه ثم قالا له، من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: ما دريت ولا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق الله دابة إلا وتذعر لها ما خلا الثقلان، ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال، فيبوء من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج، حتى أن دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه، ويسلط الله عليه حيات الأرض وعقاربها وهوامها تنهشه حتى يبعثه الله من قبره، وإنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر.

وفي منتخب البصائر، عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يلهى عنهم.

وفي أمالي الشيخ عن ابن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم؟ قلت: يقولون في حواصل طيور خضر، فقال: سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك! إذا كان ذلك أتاه رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام)، ومعهم ملائكة الله عز وجل المقربون، فإن أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد، وللنبي بالنبوة والولاية لأهل البيت، شهد على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام) والملائكة المقربون معهم وإن اعتقل لسانه خص الله نبيه بعلم ما في قلبه من ذلك، فشهد به، وشهد على شهادة النبي: علي وفاطمة والحسن والحسين على جماعتهم من الله أفضل السلام ومن حضر معهم من الملائكة فإذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة، في صورة كصورته، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.

وفي المحاسن، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكر الأرواح، أرواح المؤمنين فقال: يلتقون، قلت: يلتقون؟ قال: نعم يتساءلون ويتعارفون حتى إذا رأيته قلت: فلان.

وفي الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، ويستر عنه ما يكره، وإن الكافر ليزور أهله، فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحب، قال: منهم من يزور كل جمعة، ومنهم من يزور على قدر عمله.

وفي الكافي، عن الصادق (عليه السلام): أن الأرواح في صفة الأجساد في شجر من الجنة، تعارف وتساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها، فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان، وما فعل فلان فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى.

أقول: والروايات في باب البرزخ كثيرة، وإنما نقلنا ما فيه جوامع معنى البرزخ، وفي المعاني المنقولة روايات مستفيضة كثيرة، وفيها دلالة على نشأة مجردة عن المادة.

بحث فلسفي:

هل النفس مجردة عن المادة؟ ونعني بالنفس ما يحكي عنه كل واحد منا بقوله، أنا وبتجردها عدم كونها أمرا ماديا ذا انقسام وزمان ومكان.

إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، ولا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حينا من أحيان حياتنا وشعورنا، وليس هو شيئا من أعضائنا، وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة.

فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها وعن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن، ولا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه: بأنا، فهو غير البدن وغير أجزائه.

وأيضا لو كان هو البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه: أو خاصة من الخواص الموجود فيها - وهي جميعا مادية، ومن حكم المادة التغير التدريجي وقبول الانقسام والتجزي - لكان ماديا متغيرا وقابلا للانقسام وليس كذلك فإن كل أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تعدد وتغير، كما يجد بدنه، وأجزاء بدنه والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، في مادتها وشكلها، وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام والتجزي، كما يجد البدن وأجزاءه وخواصه - وكل مادة وأمر مادي كذلك - فليست النفس هي البدن، ولا جزءا من أجزائه، ولا خاصة من خواصه، سواء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنها جميعا مادية كيفما فرضت، ومن حكم المادة التغير، وقبول الانقسام، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شيء من هذه الأحكام فليست النفس بمادية بوجه.

وأيضا هذا الذي نشاهده نشاهده أمرا واحدا بسيطا ليس فيه كثرة من الأجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبق عليه حد المادة ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحادا ما له بالبدن وهو التعلق التدبيري وهو المطلوب.

وقد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، وجمع من الإلهيين من المتكلمين، والظاهريين من المحدثين، واستدلوا على ذلك، وردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل.

قال الماديون: إن الأبحاث العلمية على تقدمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها وتجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها المادية، ولم تجد أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة.

قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الأعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا وليس واحدا ثابتا بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الإدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، وجزء المركب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.

أقول: أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكما من الأحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الأمور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفيا ولا إثباتا، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمرا مجردا خارجا عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.

والذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدأ لهذه الأفاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن البتة وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر.

وأما قولهم: إن الإنية المشهودة للإنسان على صفة الوحدة هي عدة من الإدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعية - فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية وليت شعري إذا فرض أن هناك أمورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها البتة، وهذه الأمور الكثيرة التي هي الإدراكات أمور مادية ليس وراءها شيء آخر إلا نفسها، وأن الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟ ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عيانا؟ والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة وإنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة والخط الواحد مثلا، لا في نفسه، والمفروض في محل كلامنا أن الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم إن هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلا، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعا، وليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إن المدرك هاهنا الجزء الدماغي يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الإشكال بحاله، فإن المفروض أن إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الإدراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صورا حسية، فافهم ذلك.

والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجز في نفسه كالكلام في حصول وحدته.

مع أن هذا الفرض أيضا - أعني أن يكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها، وهي جميعا أمور مادية، ومن شأن المادة والمادي الكثرة، والتغير، وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلمية شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شيء؟.

وقولهم: إن الأمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحدا بسيطا ثابتا غلط واضح، فإن الغلط والاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأمور النفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الأجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين العلمية، وكثير من مشاهدات حواسنا إلا أن هذه الأغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطا البتة.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإن حواسنا وقوانا المدركة إذا وجدت الأمور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج وأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها البتة، ولا يمكن أن يقال للأمر الذي هذا شأنه: أنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة.

فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردها الماديون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود وهو مدعاهم مكان عدم الوجدان، وما صوروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق، لا الأصول المادية المسلمة بالحس والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.

وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية، من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلا كلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعا ويضعه موضوعا لبحثه، وإنما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

وقال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الأمور المربوطة بحياة الإنسان كالتشريح والفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأصول في حياة الإنسان وسائر الحيوان، وتتعلق بها، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة فالذي يسميه الإنسان روحا لنفسه ويحكي عنه بأنا مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد والاجتماع، ومن المعلوم أن هذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلولات وتفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني غاية الأمر أن الأصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحياة كان لنا أن نقول: إن العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضا فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحس والتجربة، هذا.

أقول: وأنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق ونزيدها أنها مخدوشة أولا: بأن عدم وفاء الأصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة لا ينتج عدم وفائها أبدا ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادية في نفس الأمر على جهل منا، فهل هذا إلا مغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم؟.

وثانيا: بأن استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادية - إلى المادة، وبعضها الآخر وهي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة - وهو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، ولا يرتضيه المادي ولا الإلهي، وجميع أدلة التوحيد يبطله.

وهنا إشكالات أخر أوردوها على تجرد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية والكلامية غير أن جميعها ناشئة عن عدم التأمل والإمعان فيما مر من البرهان، وعدم التثبت في تعقل الغرض منه، ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام عليها، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها، والله الهادي.

بحث أخلاقي:

علم الأخلاق وهو الفن الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والإنسانية، وتميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الإنسان التحلي والاتصاف بها سعادته العلمية، فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الإنساني يظفر ببحثه أن الأخلاق الإنسانية تنتهي إلى قوى عامة ثلاثة فيه هي الباعثة للنفس على اتخاذ العلوم العملية التي تستند وتنتهي إليها أفعال النوع وتهيئتها وتعبيتها عنده، وهي القوى الثلاث: الشهوية والغضبية والنطقية الفكرية، فإن جميع الأعمال والأفعال الصادرة عن الإنسان إما من قبيل الأفعال المنسوبة إلى جلب المنفعة كالأكل والشرب واللبس وغيرها، وإما من الأفعال المنسوبة إلى دفع المضرة كدفاع الإنسان عن نفسه وعرضه وماله ونحو ذلك، وهذه الأفعال هي الصادرة عن المبدأ الغضبي كما أن القسم السابق عليها صادر عن المبدأ الشهوي، وإما من الأعمال المنسوبة إلى التصور والتصديق الفكري، كتأليف القياس وإقامة الحجة وغير ذلك، وهذه الأفعال صادرة عن القوة النطقية الفكرية، ولما كانت ذات الإنسان كالمؤلفة المركبة من هذه القوى الثلاث التي باتحادها وحصول الوحدة التركيبية منها يصدر أفعال خاصة نوعية، ويبلغ الإنسان سعادته التي من أجلها جعل هذا التركيب، فمن الواجب لهذا النوع أن لا يدع قوة من هذه القوى الثلاث تسلك مسلك الإفراط أو التفريط، وتميل عن حاق الوسط إلى طرفي الزيادة والنقيصة، فإن في ذلك خروج جزء المركب عن المقدار المأخوذ منه في جعل أصل التركيب وفي ذلك خروج المركب عن كونه ذاك المركب ولازمه بطلان غاية التركيب التي هي سعادة النوع.

وحد الاعتدال في القوة الشهوية - وهي استعمالها على ما ينبغي كما وكيفا - يسمى عفة، والجانبان في الإفراط والتفريط الشره والخمود، وحد الاعتدال في القوة الغضبية هي الشجاعة، والجانبان التهور والجبن، وحد الاعتدال في القوة الفكرية تسمى حكمة، والجانبان الجربزة والبلادة، وتحصل في النفس من اجتماع هذه الملكات ملكة رابعة هي كالمزاج من الممتزج، وهي التي تسمى عدالة، وهي إعطاء كل ذي حق من القوى حقه، ووضعه في موضعه الذي ينبغي له، والجانبان فيها الظلم والانظلام.

فهذه أصول الأخلاق الفاضلة أعني: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة، ولكل منها فروع ناشئة منها راجعة بحسب التحليل إليها، نسبتها إلى الأصول المذكورة كنسبة النوع إلى الجنس، كالجود والسخاء، والقناعة والشكر، والصبر والشهامة والجرأة والحياء، والغيرة والنصيحة، والكرامة والتواضع، وغيرها، هي فروع الأخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الأخلاق وهاك شجرة تبين أصولها وتفرع فروعها وعلم الأخلاق يبين حد كل واحد منها ويميزها من جانبيها في الإفراط والتفريط، ثم يبين أنها حسنة جميلة ثم يشير إلى كيفية اتخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم والعمل أعني الإذعان بأنها حسنة جميلة، وتكرار العمل بها حتى تصير هيئة راسخة في النفس.

مثاله أن يقال: إن الجبن إنما يحصل من تمكن الخوف من النفس، والخوف إنما يكون من أمر ممكن الوقوع وعدم الوقوع، والمساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح والإنسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للإنسان أن يخاف.

فإذا لقن الإنسان نفسه هذا القول ثم كرر الإقدام والورود في المخاوف والمهاول زالت عنه رذيلة الخوف، وهكذا الأمر في غيره من الرذائل والفضائل.

فهذا ما يقتضيه المسلك الأول على ما تقدم في البيان وخلاصته إصلاح النفس وتعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة والثناء الجميل.

ونظيره ما يقتضيه المسلك الثاني، وهو مسلك الأنبياء وأرباب الشرائع، وإنما التفاوت من حيث الغرض والغاية، فإن غاية الاستكمال الخلقي في المسلك الأول الفضيلة المحمودة عند الناس والثناء الجميل منهم، وغايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقية للإنسان وهو استكمال الإيمان بالله وآياته، والخبر الأخروي وهي سعادة وكمال في الواقع لا عند الناس فقط، ومع ذلك فالمسلكان يشتركان في أن الغاية القصوى والغرض فيها الفضيلة الإنسانية من حيث العمل.

وأما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الأولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الإنسانية ولذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الأولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما وعلى هذا القياس، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد والإزدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية ربه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاته الجميلة المنزهة عن النقص والشين ولا تزال تزيد نفسه انجذابا، وتترقى مراقبة حتى صار يعبد الله كأنه يراه وأن ربه يراه، ويتجلى له في مجالي الجذبة والمراقبة والحب فيأخذ الحب في الاشتداد لأن الإنسان مفطور على حب الجميل، وقد قال تعالى: ﴿والذين آمنوا أشد حبا لله﴾ البقرة: 165، وصار يتبع الرسول في جميع حركاته وسكناته لأن حب الشيء يوجب حب آثاره، والرسول من آثاره وآياته كما أن العالم أيضا آثاره وآياته تعالى، ولا يزال يشتد هذا الحب ثم يشتد حتى ينقطع إليه من كل شيء، ولا يحب إلا ربه، ولا يخضع قلبه إلا لوجهه فإن هذا العبد لا يعثر بشيء، ولا يقف على شيء وعنده شيء من الجمال والحسن إلا وجد أن ما عنده أنموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد وجمال لا يتناهى وحسن لا يحد، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، وكل ما كان لغيره فهو له، لأن كل ما سواه آية له ليس له إلا ذلك، والآية لا نفسية لها، وإنما هي حكاية تحكي صاحبها وهذا العبد قد استولى سلطان الحب على قلبه، ولا يزال يستولي، ولا ينظر إلى شيء إلا لأنه آية من آيات ربه، وبالجملة فينقطع حبه عن كل شيء إلى ربه، فلا يحب شيئا إلا لله سبحانه وفي الله سبحانه.

وحينئذ يتبدل نحو إدراكه وعمله فلا يرى شيئا إلا ويرى الله سبحانه قبله ومعه، وتسقط الأشياء عنده من حيز الاستقلال فما عنده من صور العلم والإدراك غير ما عند الناس لأنهم إنما ينظرون إلى كل شيء من وراء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة العلم، وكذلك الأمر من جهة العمل فإنه إذا كان لا يحب إلا لله فلا يريد شيئا إلا لله وابتغاء وجهه الكريم، ولا يطلب ولا يقصد ولا يرجو ولا يخاف، ولا يختار، ولا يترك، ولا ييأس، ولا يستوحش، ولا يرضى، ولا يسخط إلا لله وفي الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الأغراض وتتبدل غاية أفعاله فإنه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل ويقصد الكمال لأنه فضيلة إنسانية، ويحذر الفعل أو الخلق لأنه رذيلة إنسانية.

وأما الآن فإنما يريد وجه ربه، ولا هم له في فضيلة ولا رذيلة، ولا شغل له بثناء جميل، وذكر محمود، ولا التفات له إلى دنيا أو آخرة أو جنة أو نار، وإنما همه ربه، وزاده ذل عبوديته، ودليله حبه.

روت لي أحاديث الغرام صبابة.

بإسنادها عن جيرة العلم الفرد.

وحدثني مر النسيم عن الصبا.

عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد.

عن الدمع عن عيني القريح عن الجوى.

عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد.

بأن غرامي والهوى قد تحالفا.

على تلفي حتى أوسد في لحدي.

وهذا البيان الذي أوردناه وإن آثرنا فيه الإجمال والاختصار لكنك إن أجدت فيه التأمل وجدته كافيا في المطلوب وتبين أن هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة والرذيلة، ويتبدل فيه الغاية والغرض أعني الفضيلة الإنسانية إلى غرض واحد، وهو وجه الله، وربما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه وبالعكس.

بقي هنا شيء وهو أن هاهنا نظرية أخرى في الأخلاق تغاير ما تقدم، وربما عد مسلكا آخر، وهي أن الأخلاق تختلف أصولا وفروعا باختلاف الاجتماعات المدنية لاختلاف الحسن والقبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق، وقد ادعي أنها نتيجة النظرية المعروفة بنظرية التحول والتكامل في المادة.

قالوا: إن الاجتماع الإنساني مولود جميع الاحتياجات الوجودية التي يريد الإنسان أن يرفعها بالاجتماع، ويتوسل بذلك، إلى بقاء وجود الاجتماع الذي يراه بقاء وجود شخصه، وحيث إن الطبيعة محكومة لقانون التحول والتكامل كان الاجتماع أيضا متغيرا في نفسه، ومتوجها في كل حين إلى ما هو أكمل وأرقى، والحسن والقبح وهما موافقة العمل لغاية الاجتماع أعني الكمال وعدم موافقته له - لا معنى لبقائهما على حال واحد، وجمودهما على نهج فارد، فلا حسن مطلقا، ولا قبح مطلقا، بل هما دائما نسبيان مختلفان باختلاف الاجتماعات بحسب الأمكنة والأزمنة، وإذا كان الحسن والقبح نسبيين متحولين وجب التغير في الأخلاق، والتبدل في الفضائل والرذائل ومن هنا يستنتج أن الأخلاق تابعة للمرام القومي الذي هو وسيلة إلى نيل الكمال المدني والغاية الاجتماعية، لتبعية الحسن والقبح لذلك فما كان به التقدم والوصول إلى الغاية والغرض كان هو الفضيلة وفيه الحسن، وما كان يدعو إلى الوقوف والارتجاع كان هو الرذيلة، وعلى هذا فربما كان الكذب والافتراء والفحشاء والشقاوة والقساوة والسرقة والوقاحة حسنة وفضيلة إذا وقعت في طريق المرام الاجتماعي، والصدق والعفة والرحمة رذيلة قبيحة إذا أوجب الحرمان عن المطلوب، هذه خلاصة هذه النظرية العجيبة التي ذهبت إليها الاشتراكيون من الماديين، والنظرية غير حديثة، على ما زعموا، فقد كان الكلبيون من قدماء - اليونان - على ما ينقل على هذه المسلك، وكذا المزدكيون وهم أتباع مزدك الذي ظهر بإيران على عهد كسرى ودعا إلى الاشتراك كان عملهم على ذلك، ويعهد من بعض القبائل الوحشية بإفريقية وغيرهم.

وكيف كان فهو مسلك فاسد والحجة التي أقيمت على هذه النظرية فاسدة من حيث البناء والمبنى معا.

توضيح ذلك: أنا نجد كل موجود من هذه الموجودات العينية الخارجية يصحب شخصية تلازمه، ويلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر ويفارقه في الوجود، كما أن وجود زيد يصحب شخصية ونوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو، فزيد شخص واحد، وعمرو شخص آخر، وهما شخصان اثنان، لا شخص واحد، فهذه حقيقة لا شك فيها وهذا غير ما نقول: إن عالم المادة موجود ذو حقيقة واحدة شخصية فلا ينبغي أن يشتبه الأمر.

وينتج ذلك: أن الوجود الخارجي عين الشخصية، لكن المفاهيم الذهنية يخالف الموجود الخارجي في هذا الحكم فإن المعنى كيف ما كان يجوز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الإنسان ومفهوم الإنسان الطويل، ومفهوم هذا الإنسان القائم أمامنا، وأما تقسيم المنطقيين المفهوم إلى الكلي والجزئي، وكذا تقسيمهم الجزئي إلى الإضافي والحقيقي فإنما هو تقسيم بالإضافة والنسبة، إما نسبة أحد المفهومين إلى الآخر وإما نسبته إلى الخارج، وهذا الوصف الذي في المفاهيم - وهو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربما نسميه بالإطلاق كما نسمي مقابله بالشخصية أو الوحدة.

ثم الموجود الخارجي ونعني به الموجود المادي خاصة لما كان واقعا تحت قانون التغير والحركة العمومية كان لا محالة ذا امتداد منقسما إلى حدود وقطعات، كل قطعة منها تغاير القطعة الأخرى مما تقدم عليها أو تأخر عنها، ومع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغير والتبدل لأن أحد شيئين إذا عدم من أصله، والآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدل هذا من ذاك، بل التبدل الذي يلازم كل حركة إنما يتحقق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعا.

ومن هنا يظهر أن الحركة أمر واحد بشخصه يتكثر بحسب الإضافة إلى الحدود، فيتعين بكل نسبة قطعة تغاير القطعة الأخرى، وأما نفس الحركة فسيلان وجريان واحد شخصي، ونحن ربما سمينا هذا الوصف في الحركة إطلاقا في مقابل النسب التي لها إلى كل حد حد، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود.

ومن هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعي موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الأول فإن الإطلاق بهذا المعنى وصف ذهني لموجود ذهني، هذا.

ثم إنا لا نشك أن الإنسان موجود طبيعي ذو أفراد وأحكام وخواص وأن الذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الإنسان دون مجموع الأفراد أعني الاجتماع الإنساني إلا أن الخلقة لما أحست بنقص وجوده، واحتياجه إلى استكمالات لا تتم له وحدة، جهزه بأدوات وقوى تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع وضمن الأفراد المجتمعين، فطبيعة الإنسان الفرد مقصود للخلقة أولا وبالذات والاجتماع مقصود لها ثانيا وبالتبع.

وأما حقيقة أمر الإنساني مع هذا الاجتماع الذي تقتضيه وتتحرك إليه الطبيعة الإنسانية إن صح إطلاق الاقتضاء والعلية والتحرك في مورد الاجتماع حقيقة فإن الفرد من الإنسان موجود شخصي واحد بالمعنى الذي تقدم من شخصيته ووحدته، وهو مع ذلك واقع في الحركة، متبدل متحول إلى الكمال، ومن هنا كان كل قطعة من قطعات وجوده المتبدل مغايرة لغيرها من القطعات، وهو مع ذلك ذو طبيعة سيالة مطلقة محفوظة في مراحل التغيرات واحدة شخصية، وهذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد والتناسل واشتقاق الفرد من الفرد - وهي التي نعبر عنها بالطبيعة النوعية - فإنها محفوظة بالأفراد وإن تبدلت وعرض لها الفساد والكون، بمثل البيان الذي مر في خصوص الطبيعة الفردية، فالطبيعة الشخصية موجودة متوجهة إلى الكمال الفردي، والطبيعة النوعية موجودة مطلقة متوجهة إلى الكمال.

وهذا الاستكمال النوعي لا شك في وجوده وتحققه في نظام الطبيعة، وهو الذي نعتمد عليه في قولنا: إن النوع الإنساني مثلا متوجه إلى الكمال، وإن الإنسان اليوم أكمل وجودا من الإنسان الأولى، وكذا ما تحكم به فرضية تحول الأنواع، فلولا أن هناك طبيعة نوعية خارجية محفوظة في الأفراد أو الأنواع مثلا لم يكن هذا الكلام إلا كلاما شعريا.

والكلام في الاجتماع الشخصي القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، ونوع الاجتماع القائم بنوع الإنسان المستمر باستمراره والمتحول بتحوله لو صح أن الاجتماع كالإنسان المجتمع حال خارجي لطبيعة خارجية! نظير القول في طبيعة الإنسان الشخصية والنوعية في التقييد والإطلاق.

فالاجتماع متحرك متبدل بحركة الإنسان وتبدله وله وحدة من بادىء الحركة إلى أين توجه بوجود مطلق - وهذا الواحد المتغير بواسطة نسبته وإضافته إلى كل حد حد تصير قطعة قطعة، وكل قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، وأشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الإنسان، كما أن مطلق الاجتماع بالمعنى الذي تقدم مستند إلى مطلق الطبيعة الإنسانية، فإن حكم الشخص شخص الحكم وفرده، وحكم المطلق مطلق الحكم لا كلي الحكم، فلسنا نعني الإطلاق المفهومي فلا تغفل ونحن لا نشك أن الفرد من الإنسان وهو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلا أنه متبدل بتبدلات جزئية بتبع التبدلات الطارئة على موضوعه الذي هو الإنسان فمن أحكام الإنسان الطبيعي أنه يتغذى ويفعل بالإرادة ويحس ويتفكر - وهو موجود مع الإنسان وباق - ببقائه وإن تبدل طبق تبدله في نفسه، وكذلك الكلام في أحكام مطلق الإنسان الموجود بوجود أفراده.

ولما كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الإنسانية وخواصها فمطلق الاجتماع نعني به الاجتماع المستمر الذي أوجدته الطبيعة الإنسانية المستمرة من حين وجد الإنسان الفرد إلى يومنا هذا من خواص النوع الإنساني المطلق، موجود معه باق ببقائه، وأحكام الاجتماع التي أوجدها واقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، وإن تبدلت بتبدلات جزئية مع انحفاظ الأصل مثل نوعها، وحينئذ صح لنا أن نقول: إن هناك أحكاما اجتماعية باقية غير متغيرة، كوجود مطلق الحسن والقبح، كما أن نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أن الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد وإن تبدل اجتماع خاص إلى آخر خاص، والحسن المطلق والخاص كالاجتماع المطلق والخاص بعينه.

ثم إنا نرى أن الفرد من الإنسان يحتاج في وجوده وبقائه إلى كمالات ومنافع يجب له أن يجتلبها ويضمها إلى نفسه، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذي وجهاز التناسل مثلا، فعلى الإنسان أن يقدم عليه، وليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالإفراط، مثل أن يأكل حتى يموت، أو يمرض، أو يتعطل عن سائر قواه الفعالة، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة، وهذا التوسط هي العفة، وطرفاه الشره والخمود، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسطا بين نواقص وأضداد ومضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسط، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج والتجهيز المربوطين، وهذا التوسط هي الشجاعة، وطرفاها التهور والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام.

فهذه أربع ملكات وفضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة بأدواتها: العفة والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهي كلها حسنة - لأن معنى الحسن الملاءمة لغاية الشيء وكماله وسعادته، وهي جميعا ملاءمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره، ومقابلاتها رذائل قبيحة، وإذا كان الفرد من الإنسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع - وهو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجودية؟ وهل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة، وليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الأفراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية أمنيتها؟.

وإذا كان الفرد من الإنسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الإنسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك، فنوع الإنسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعدالة الاجتماعية - وهي إعطاء كل ذي حق حقه، وبلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم والانظلام - وكل هذه الخصال الأربع فضائل بحكم الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الإنساني بحسنها المطلق ويعد مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها.

فقد تبين بهذا البيان: أن في الاجتماع المستمر الإنساني حسنا وقبحا لا يخلو عنهما قط وأن أصول الأخلاق الأربعة فضائل حسنة دائما، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائما، والطبيعة الإنسانية الاجتماعية تقضي بذلك، وإذا كان الأمر في الأصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، وإن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الأخلاق وهاك بيانه.

أما قولهم: إن الحسن والقبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبي من الحسن والقبح وهو متغير مختلف باختلاف المناطق والأزمنة والاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الإطلاق المفهومي بمعنى الكلية والإطلاق الوجودي بمعنى استمرار الوجود، فالحسن والقبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية والإطلاق، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، وأما الحسن والقبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع، ولا يمكن موافقة جميع الأفعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما، فرض فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائما فهناك حسن وقبح دائما.

وعلى هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض ولا يعتقد أهله أن من الواجب أن يعطى كل ذي حق حقه أو أن جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أن الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أن العلم الذي يتميز به منافع الإنسان من غيرها فضيلة حسنة؟ وهذه هي العدالة والعفة، والشجاعة، والحكمة التي ذكرنا أن الاجتماع الإنساني كيف ما فرض لا يحكم إلا بحسنها وكونها فضائل إنسانية، وكذا كيف يتيسر لاجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض والانفعال عن التظاهر بالقبيح الشنيع، وهو الحياء من شعب العفة أو لا يحكم بوجوب السخط وتغير النفس في هتك المقدسات وهضم الحقوق، وهو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للإنسان من الحقوق الاجتماعية، وهو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعي من غير دحض الناس وتحقيرهم بالاستكبار والبغي بغير الحق، وهو التواضع؟ وهكذا الأمر في كل واحد واحد من فروع الفضائل.

وأما ما يزعمونه من اختلاف الأنظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل وصيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئية فليس من جهة اختلاف النظر في الحكم الاجتماعي بأن يعتقد قوم بوجوب اتباع الفضيلة الحسنة وآخرون بعدم وجوبه بل من جهة الاختلاف في انطباق الحكم على المصداق وعدم انطباقه مثل أن الاجتماعات التي كانت تديرها الحكومات المستبدة كانت ترى لعرش الملك الاختيار التام في أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وليس ذلك لسوء ظنهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنه من حقوق السلطنة والملك فلم يكن ذلك ظلما من مقام السلطنة بل إيفاء بحقوقه الحقة بزعمهم.

ومثل أن العلم كان يعير به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملة فرنسا في القرون الوسطى، ولم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أن العلم بالسياسة وفنون إدارة الحكومة يضاد المشاغل السلطانية.

ومثل أن عفة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزوج، وكذا الحياء من النساء وكذا الغيرة من رجالهن، وكذا عدة من الفضائل كالقناعة والتواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكن ذلك منهم لأن اجتماعهم الخاص لا يعدها مصاديق للعفة والحياء والغيرة والقناعة والتواضع، لا لأن هذه الفضائل ليست فضائل عندهم.

والدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفة الحاكم في حكمه والقاضي في قضائه، ويمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، ويمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال والحضارة وعن جميع مقدساتهم، ويمدحون القناعة بما عينه القانون من الحقوق لهم، ويمدحون التواضع لأئمتهم وهداتهم في الاجتماع.

وأما قولهم: بدوران الأخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعي واستنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإن المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين التي قررتها الطبيعة بين الأفراد المجتمعين ولا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لو لا الإخلال بانتظامها وجريها، ولا محالة لها أحكام: من الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة، والمراد بالمرام مجموع الفرضيات التي وضعت لإيجاد اجتماع على هيئة جديدة بتحميلها على الأفراد المجتمعين، أعني أن الاجتماع والمرام الاجتماعي متغايران بالفعلية والقوة، والتحقق وفرض التحقق، فكيف يصير حكم أحدهما عين حكم الآخر، وكيف يكون الحسن والقبح، والفضيلة والرذيلة التي عينها الاجتماع العام باقتضاء من الطبيعة الإنسانية متبدلة إلى ما حكم به المرام الذي ليس إلا فرضا من فارض؟.

ولو قيل: أن لا حكم للاجتماع العام الطبيعي من نفسه بل الحكم للمرام، وخاصة إذا كانت فرضية متلائمة لسعادة الأفراد عاد الكلام السابق في الحسن والقبح، والفضيلة والرذيلة، وأنها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمر من الطبيعة.

على أن هاهنا محذورا آخر وهو أن الحسن والقبح وسائر الأحكام الاجتماعية - وهي التي تعتمد عليها الحجة الاجتماعية وتتألف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، ومن الممكن بل الواقع تحقق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدى ذلك إلى ارتفاع الحجة المشتركة المقبولة عند عامة الاجتماعات، ولم يكن التقدم والنجاح حينئذ إلا للقدرة والتحكم، وكيف يمكن أن يقال: إن الطبيعة الإنسانية ساقت أفرادها إلى حياة اجتماعية لا تفاهم بين أجزائها ولا حكم يجمعها إلا حكم مبطل لنفس الاجتماع؟ وهل هذا إلا تناقض شنيع في حكم الطبيعة واقتضائها الوجودي؟.

بحث روائي آخر في متفرقات متعلقة بما تقدم:

عن الباقر (عليه السلام) قال: أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا وإن مت فقد وقع أجرك على الله الحديث.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): وإن مت إلخ إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله﴾ النساء: 100، وفيه دلالة على أن الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله ورسوله.

وفي الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في إسماعيل النبي الذي سماه الله سبحانه صادق الوعد، قال (عليه السلام) إنما سمي صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز وجل صادق الوعد، ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك الوقت فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك الحديث.

أقول: وهذا أمر ربما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن جادة الاعتدال مع أن الله سبحانه جعله منقبة له (عليه السلام) حتى عظم قدره ورفع ذكره بقوله: ﴿واذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلوة والزكوة وكان عند ربه مرضيا﴾ مريم: 55، فليس ذلك إلا أن الميزان الذي وزن به هذا العمل غير الميزان الذي بيد العقل العادي، فللعقل العادي تربية بتدبيره ولله سبحانه تربية لأوليائه بتأييده، وكلمة الله هي العليا، ونظائر هذه القضية كثيرة مروية منقولة عن النبي والأئمة والأولياء.

فإن قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.

قلت: أما حكم العقل في ما له إليه سبيل ففي محله، لكنه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، وقد عرفت في ما تقدم أن أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الذي ذكرناه لا تبقي للعقل موضوعا يحكم فيه وعليه، وهذا سبيل المعارف الإلهية والظاهر أن إسماعيل النبي (عليه السلام) كان أطلق القول بوعده بأن قال: أنتظرك هاهنا حتى تعود إلي ثم التزم على إطلاق قوله صونا لنفسه عن نقض العهد والكذب في الوعد وحفظا لما ألقى الله في روعه وأجراه على لسانه، وقد روي نظيره عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه ووعده النبي بانتظاره حتى يرجع فذهب في شأنه ولم يرجع، فانتظره النبي ثلاثة أيام في مكانه الذي وعده حتى مر به الرجل بعد الثلاثة، وهو جالس ينتظر والرجل قد نسي الوعد، الحديث.

وفي الخصائص، للسيد الرضي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: وقد سمع رجلا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون يا هذا إن قولنا: إنا لله إقرار منا بالملك، وإنا إليه راجعون إقرار منا بالهلاك. أقول: وقد اتضح معناه بما تقدم ورواه في الكافي، مفصلا.

وفي الكافي، عن إسحاق بن عمار وعبد الله بن سنان، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز وجل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف، ومن لم يقرضني قرضا وأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها عني، ثم قال أبو عبد الله: قول الله: الذين إذا أصابتهم مصيبة - قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم، فهذه واحدة من ثلاث خصال، ورحمة اثنتان، وأولئك هم المهتدون ثلاث، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا.

أقول: والرواية مروية لطرق أخرى متقاربة وفي المعاني، عن الصادق (عليه السلام): الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة التزكية، ومن الناس دعاء.

أقول: وفي معناه عدة روايات أخر، وبين هذه الرواية وما تقدمها تناف ظاهرا حيث إن الرواية السابقة تعد الصلاة غير الرحمة، ويساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وهذه الرواية تعدها رحمة ويرتفع التنافي بالرجوع إلى ما تقدم من البيان.