الآيات 130 ? 134

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿130﴾ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿131﴾ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿132﴾ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿133﴾ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿134﴾

بيان:

قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، الرغبة إذا عديت بعن أفادت معنى الإعراض والنفرة، وإذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق والميل، وسفه يأتي متعديا ولازما، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله: نفسه مفعول لقوله: سفه، وذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، والمعنى على أي حال: أن الإعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث: أن العقل ما عبد به الرحمن.

قوله تعالى: ولقد اصطفيناه في الدنيا، الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وتمييزه عن غيره إذا اختلطا، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شئونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه، وهو التحقق بالدين في جميع الشئون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في أمور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع أموره كما قال الله تعالى: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ آل عمران: 19، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى: ﴿إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين﴾ الآية فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أن اصطفاءه إنما كان حين قال له ربه: أسلم، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين، بمنزلة التفسير لقوله: اصطفيناه.

وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: إذ قال له ربه أسلم، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: قال أسلمت لرب العالمين، ولم يقل: قال أسلمت لك أما الأول، فالنكتة فيه الإشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب، فأفاد أن القصة من مسامرات الأنس وخصائص الخلوة.

وأما الثاني فلأن قوله تعالى: إذ قال له ربه، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضي من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحدا من العبيد الأذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لرب العالمين.

والإسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلم واستسلم له، قال تعالى ﴿بلى من أسلم وجهه لله﴾: البقرة: 112، وقال تعالى: ﴿وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما﴾ الأنعام: 79، ووجه الشيء ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشيء، فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر وقضاء، أو تشريعي من أمر أو نهي أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.

الأولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر والنواهي بتلقي الشهادتين لسانا، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: ﴿قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم﴾ الحجرات: 14، ويتعقب الإسلام بهذا المعنى أول مراتب الإيمان وهو الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا ويلزمه العمل في غالب الفروع.

الثانية: ما يلي الإيمان بالمرتبة الأولى، وهو التسليم والانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الأعمال الصالحة وإن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: ﴿الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين﴾ الزخرف: 69، وقال أيضا: ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة﴾ البقرة: 208، فمن الإسلام ما يتأخر عن الإيمان محققا فهو غير المرتبة الأولى من الإسلام، ويتعقب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان وهو الاعتقاد التفصيلي بالحقائق الدينية، قال تعالى: ﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أولئك هم الصادقون﴾ الحجرات: 15، وقال أيضا: ﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم﴾ الصف: 11، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.

الثالثة: ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالإيمان المذكور وتخلقت بأخلاقه تمكنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيمية والسبعية، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الإنسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، ولم يجد في باطنه وسره ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ النساء: 65، ويتعقب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ إلى أن قال: ﴿والذين هم عن اللغو معرضون﴾ المؤمنونك 3، ومنه قوله تعالى: ﴿إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين﴾ إلى غير ذلك، وربما عدت المرتبتان الثانية والثالثة مرتبة واحدة.

والأخلاق الفاضلة من الرضاء والتسليم، والحسبة والصبر في الله، وتمام الزهد والورع، والحب والبغض في الله، من لوازم هذه المرتبة.

الرابعة: ما يلي، المرتبة الثالثة من الإيمان فإن حال الإنسان وهو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه ويرتضيه، والأمر في ملك رب العالمين لخلقه أعظم من ذلك وأعظم وإنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء لا ذاتا ولا صفة، ولا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبرياؤه.

فالإنسان - وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، وهذا معنى وهبي، وإفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، ولعل قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، الآية، إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام فإن قوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال، أسلمت لرب العالمين الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه وامتثالا لأمره، وقد كان هذا من الأوامر المتوجهة إليه (عليه السلام) في مبادىء حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام وإراءة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام ويتعقب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال والأفعال، قال تعالى: ﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ يونس: 62، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشيء دون الله، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذورا محتملا، وإلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شيء، ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.

قوله تعالى: وإنه في الآخرة لمن الصالحين، الصلاح، وهو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان وربما نسب إلى نفسه وذاته، قال تعالى: ﴿فليعمل عملا صالحا﴾ الكهف: 110، وقال تعالى: ﴿وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم﴾ النور: 32. وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير أنه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه.

فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: ﴿صبروا ابتغاء وجه ربهم﴾ الرعد: 22، وقال تعالى: ﴿وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله﴾ البقرة: 272.

ومنها: أنه صالح لأن يثاب عليه، قال تعالى: ﴿ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا﴾ القصص: 80.

ومنها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: ﴿إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ فاطر: 10، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إليه أن صلاح العمل معنى تهيؤه ولياقته لأن يلبس لباس الكرامة ويكون عونا وممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: ﴿ولكن يناله التقوى منكم﴾ الحج: 37، وقال تعالى: ﴿وكلا نمد هؤلاء، وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا﴾ الإسراء: 20، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، وصلاح العمل بمنزلة المادة.

وأما صلاح النفس والذات فقد قال تعالى: ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا﴾ النساء: 69، وقال تعالى: ﴿وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين﴾ الأنبياء: 86، وقال تعالى حكاية عن سليمان: ﴿وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين﴾ النمل: 19، وقال تعالى: ﴿ولوطا آتيناه حكما وعلما إلى قوله وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين﴾ الأنبياء: 75، وليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الإلهية الواسعة لكل شيء ولا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون﴾ الأعراف: 156، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، ومن الرحمة ما يختص ببعض دون، بعض قال تعالى ﴿يختص برحمته من يشاء﴾ البقرة: 105 وليس المراد أيضا مطلق كرامة، الولاية وهو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين وإن شرفوا بذلك، وكانوا من الأولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ فاتحة الكتاب: 6 وسيجيء في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيين، والصديقين، والشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم.

نعم الأثر الخاص بالصلاح هو الإدخال في الرحمة، وهو الأمن العام من العذاب كما ورد المعنيان معا في الجنة، قال تعالى: ﴿فيدخلهم ربهم في رحمته﴾ الجاثية: 30، أي في الجنة، وقال تعالى: ﴿يدعون فيها بكل فاكهة آمنين﴾ الدخان: 55 أي في الجنة.

وأنت إذا تدبرت قوله تعالى: ﴿وأدخلناه في رحمتنا﴾ الأنبياء: 75 وقوله: ﴿وكلا جعلنا صالحين﴾ الأنبياء: 72 حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى العبد - ثم تأملت أنه تعالى قصر الأجر والشكر على ما بحذاء العمل والسعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل والإرادة وربما تبين به معنى قوله تعالى: ﴿لهم ما يشاءون فيها﴾ - وهو ما بالعمل - وقوله: ﴿ولدينا مزيد﴾ - وهو أمر غير ما بالعمل على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: ﴿لهم ما يشاءون فيها﴾ ق: 35.

ثم إنك إذا تأملت حال إبراهيم ومكانته في أنه كان نبيا مرسلا وأحد أولي العزم من الأنبياء، وأنه إمام، وأنه مقتدى عدة ممن بعده من الأنبياء والمرسلين وأنه من الصالحين بنص قوله تعالى: ﴿وكلا جعلنا صالحين﴾ الأنبياء: 72، الظاهر في الصلاح المعجل على أن من هو دونه في الفضل من الأنبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل وهو (عليه السلام) مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه وهو يسأل اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، وأجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى: ﴿ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ البقرة: 130، وقال تعالى: ﴿وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ العنكبوت: 27، وقال تعالى: ﴿وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ النحل: 122، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض ولم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم (عليه السلام) سأل اللحوق بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الطاهرين (عليهم السلام) فأجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه (عليه السلام) يسأل اللحوق بالصالحين، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعيه لنفسه.

قال تعالى: ﴿قل إن وليي الله الذي نزل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين﴾ الأعراف: 196 فإن ظاهر الآية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه وإبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو.

قوله تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه، أي وصى بالملة.

قوله تعالى: فلا تموتن، النهي عن الموت وهو أمر غير اختياري للإنسان، والتكليف إنما يتعلق بأمر اختياري إنما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار، والتقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا والزموا الإسلام لئلا يقع موتكم إلا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أن الدين هو الإسلام كما قال تعالى: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ آل عمران: 19.

قوله تعالى: وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق، في الكلام إطلاق لفظ الأب على الجد والعم والوالد من غير مصحح للتغليب، وحجة فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالأب.

قوله تعالى: إلها واحدا، في هذا الإيجاز بعد الإطناب بقوله: إلهك وإله آبائك إلخ دفع لإمكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة.

قوله تعالى: ونحن له مسلمون، بيان للعبادة وأنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الإسلام وفي الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الإسلام والموروث منه في بني إبراهيم كإسحق ويعقوب وإسمعيل، وفي بني إسرائيل، وفي بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الإسلام لا غير، وهو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لأحد في تركه والدعوة إلى غيره.

بحث روائي:

في الكافي، عن سماعة عن الصادق (عليه السلام): الإيمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم.

وفيه، عن سماعة أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام.

أقول: وفي هذا المضمون روايات أخر وهي تدل على ما مر بيانه من المرتبة الأولى من الإسلام والإيمان.

وفيه، عن البرقي عن علي (عليه السلام): قال الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين، وفيه، عن كاهل عن الصادق: لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله إلا صنع بخلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين الحديث.

أقول: والحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الإسلام والإيمان.

وفي البحار، عن إرشاد الديلمي، وذكر سندين لهذا الحديث، وهو من أحاديث المعراج وفيه: قال الله سبحانه: يا أحمد هل تدري أي عيش أهنى وأي حياة أبقى؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهنيء فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي، ولا يجهل حقي، يطلب رضائي في ليله ونهاره، وأما الحياة الباقية، فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا، وتصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي، ويعظم حق نعمتي، ويذكر عملي به، ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيئة أو معصية، وينقي قلبه عن كل ما أكره، ويبغض الشيطان ووساوسه، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا وسبيلا، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه وفراغه واشتغاله وهمه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه، حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي، وأضيق عليه الدنيا، وأبغض إليه ما فيها من اللذات، وأحذره من الدنيا وما فيها كما يحذر الراعي على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد ولأزيننه بالهيبة والعظمة فهذا هو العيش الهنيء والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل، وذكرا لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفي عليه خاصة خلقي وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين، ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي وأعرفه السر الذي سترته عن خلقي، وألبسه الحياء، حتى يستحيي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفورا له، وأجعل قلبه واعيا وبصيرا ولا أخفي عليه شيئا من جنة ولا نار، وأعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأنومه في قبره، وأنزل عليه منكرا ونكيرا حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت، وظلمة القبر واللحد، وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه، وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا، ثم لا أجعل بيني وبينه وترجمانا فهذه صفات المحبين يا أحمد اجعل همك هما واحدا واجعل لسانك لسانا واحدا واجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا من يغفل عني لم أبال في أي واد هلك.

وفي البحار، عن الكافي، والمعاني، ونوادر الراوندي، بأسانيد مختلفة عن الصادق والكاظم (عليهما السلام) واللفظ المنقول هاهنا للكافي قال: استقبل رسول الله: حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال له رسول الله: لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت هواجري، وكأني أنظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد نور الله قلبه أبصرت فأثبت.

أقول: والروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الإسلام والإيمان المذكورتين وفي خصوصيات معناهما روايات كثيرة متفرقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إن شاء الله تعالى والآيات تؤيدها على ما سيجيء بيانها، واعلم أن لكل مرتبة من مراتب الإسلام والإيمان معنى من الكفر والشرك يقابله، ومن المعلوم أيضا أن الإسلام والإيمان كلما دق معناهما ولطف مسلكهما، صعب التخلص مما يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك، ومن المعلوم أيضا أن كل مرتبة من مراتب الإسلام والإيمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، وظهور آثارهما فيها، وهذان أصلان.

ويتفرع عليهما: أن للآيات القرآنية بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله.

وفي تفسير القمي،: في قوله تعالى: ولدينا مزيد، قال (عليه السلام) النظر إلى رحمة الله.

وفي المجمع، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

أقول: والروايتان قد اتضح معناهما عند بيان معنى الصلاح، والله الهادي.

وفي تفسير العياشي،: في قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الآية عن الباقر (عليه السلام) أنها جرت في القائم.

أقول قال: في الصافي:، لعل مراده أنها في قائم آل محمد فكل قائم منهم يقول: ذلك حين موته لبنيه، ويجيبونه بما أجابوا به.