الآيات 102 - 103‏

وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴿102﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴿103﴾

بيان:

قوله تعالى: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك﴾ إلخ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية اختلافا عجيبا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: اتبعوا، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الجميع؟ واختلفوا في قوله: تتلوا، هل هو بمعنى تتبع الشياطين وتعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب؟ واختلفوا في قوله: الشياطين، فقيل هم شياطين الجن وقيل شياطين الإنس وقيل هما معا، واختلفوا في قوله: على ملك سليمان، فقيل معناه في ملك سليمان، وقيل معناه في عهد ملك سليمان وقيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، وقيل معناه على عهد ملك سليمان، واختلفوا في قوله: ولكن الشياطين كفروا، فقيل إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، وقيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر، واختلفوا في قوله: يعلمون الناس السحر، فقيل إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه، وقيل إنهم دلوا الناس على استخراج السحر وكان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلموه، واختلفوا في قوله: وما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة والعطف على قوله: ما تتلوا، وقيل ما موصولة والعطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، وقيل ما نافية والواو استينافية أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود، واختلفوا في معنى الإنزال فقيل إنزال من السماء وقيل بل من نجود الأرض وأعاليها، واختلفوا في قوله: الملكين، فقيل كانا من ملائكة السماء، وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرىء كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح، إن قرأناه على ما قرأ به المشهور واختلفوا في قوله: ببابل، فقيل هي بابل العراق وقيل بابل دماوند، وقيل، من نصيبين إلى رأس العين، واختلفوا في قوله: وما يعلمان، فقيل علم بمعناه الظاهر، وقيل علم بمعنى أعلم، واختلفوا في قوله: ﴿فلا تكفر﴾ فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، وقيل لا تكفر بتعلمه، وقيل بهما معا، واختلفوا في قوله: ﴿فيتعلمون منهما﴾، فقيل أي من هاروت وماروت، وقيل أي من السحر والكفر، وقيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله، واختلفوا في قوله: ما يفرقون به بين المرء وزوجه، فقيل أي يوجدون به حبا وبغضا بينهما، وقيل إنهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرق بينهما اختلاف الملة والنحلة وقيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيئول إلى الفرقة، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجمله، وهناك اختلافات أخر في الخارج من القصة في ذيل الآية وفي نفس القصة، وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟ أو غير ذلك؟ وإذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستين ألف احتمال!.

وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب واحتمالات تدهش العقول وتحير الألباب، والكلام بعد متك على أريكة حسنة متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته وفصاحته وسيمر بك نظيرة هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة﴾ هود: 17.

والذي ينبغي أن يقال: أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود وهو تداول السحر بينهم، وأنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي والملكين ببابل هاروت وماروت، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية، وكيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان (عليه السلام) إنما ملك الملك وسخر الجن والإنس والوحش والطير، وأتى بغرائب الأمور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان (عليه السلام) لم يكن يعمل بالسحر، كيف والسحر كفر بالله وتصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحية وحواسها؟ ولم يكفر سليمان (عليه السلام) وهو نبي معصوم، وهو قوله تعالى: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ وقوله تعالى: ﴿ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق﴾ فسليمان (عليه السلام) أعلى كعبا وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام والأنبياء والنمل وسورة ص وفيها أنه كان عبدا صالحا ونبيا مرسلا آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية والأساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرءوها على أوليائهم من الإنس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر.

ورد عليهم القرآن في الملكين ببال هاروت وماروت بأنه وإن أنزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لأنه فتنة وامتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر والفساد فتنة وامتحانا وهو من القدر، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا ويقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة، فيفرقون به بين المرء وزوجه ابتغاء للشر والفساد ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، فقوله تعالى: واتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع وتكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان والدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذبين بعذابه، وبذلك كان (عليه السلام) يحبسهم عن الإفساد، قال تعالى: ﴿ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين﴾ الأنبياء: 82، وقال تعالى: ﴿فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين﴾ سبأ: 14.

قوله تعالى: ﴿وما كفر سليمان﴾ أي والحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر ولكن الشياطين كفروا، والحال أنهم يضلون الناس ويعلمونهم السحر.

قوله تعالى: ﴿وما أنزل﴾ أي واتبعت اليهود ما أنزل بالإخطار والإلهام على الملكين ببابل هاروت وماروت، والحال أنهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به ويقولا إنما نحن فتنة لكم وامتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله.

قوله تعالى: ﴿فيتعلمون منهما﴾ أي من الملكين وهما هاروت وماروت، ما يفرقون به أي سحرا يفرقون بعمله وتأثيره بين المرء وزوجه.

قوله تعالى: ﴿وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله﴾ دفع لما يسبق إلى الوهم أنهم بذلك يفسدون أمر الصنع والتكوين ويسبقون تقدير الله ويبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين، وإنما قدم هذه الجملة على قوله: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، لأن هذه الجملة أعني: ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وحدها مشتملة على ذكر التأثير، فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله.

قوله تعالى: ﴿ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق﴾ علموا ذلك بعقولهم لأن العقل لا يرتاب في أن السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنساني وعلموا ذلك أيضا من قول موسى فإنه القائل: ﴿ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ طه: 69.

قوله تعالى: ﴿ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون﴾ أي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا وجهلا لا علما، قال تعالى: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾ الجاثية: 23.

فهؤلاء مع علمهم بالأمر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم والهداية.

قوله تعالى: ﴿ولو أنهم آمنوا واتقوا﴾ إلخ أي اتبعوا الإيمان والتقوى، بدل اتباع أساطير الشياطين، والكفر بالسحر، وفيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكاة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، ولو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى: ولو أنهم آمنوا لمثوبة، إلخ، واقتصر على الإيمان ولم يذكر التقوى فاليهود آمنوا ولكن لما لم يتقوا ولم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.

قوله تعالى:﴿لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون﴾ أي من المثوبات والمنافع التي يرومونها بالسحر ويقتنونها بالكفر هذا.

بحث روائي:

في تفسير العياشي، والقمي، في قوله تعالى: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ عن الباقر (عليه السلام) في حديث: فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبد الله ونبيه، فقال الله جل ذكره: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.

أقول: إسناد الوضع والكتابة والقراءة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن والإنس لانتهاء الشر كله إليه وانتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الأخبار.

وظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القراءة وهذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: أن تتلو بمعنى يكذب لأن إفادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، وتقدير قوله: تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرءونه كاذبين على ملك سليمان والأصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى يلي ولاية وهو أن يملك الشيء من حيث الترتيب ووقوع جزء منه عقيب جزء آخر، وسيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: ﴿إنما وليكم الله ورسوله﴾ المائدة: 58.

وفي العيون، في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون، وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا كيدهم وما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله. وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادة وهي امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه ولبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن والإنس فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلي به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرءوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرىء الناس من سليمان وأكفروه حتى بعث الله محمدا وأنزل عليه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا.

أقول: والقصة مروية في روايات أخرى وهي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الأنبياء مذكورة في جملتها.

وفي الدر المنثور، أيضا وأخرج سعيد بن جرير والخطيب في تاريخه عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل، قال يا نافع: انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت لا، مرتين أو ثلاثا ثم قلت: قد طلعت.قال: لا مرحبا بها ولا أهلا.قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع.قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال: إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني أبليتهم وعافيتهم.قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت فنزلا، فألقى الله عليهما الشبق.قلت: وما الشبق؟ قال: الشهوة فجاءت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال: نعم، فطالباها لأنفسهما فقالت لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان فأبيا ثم سألاها أيضا فأبت.ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا وقطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، وإن شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال أحدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله إليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والأرض معذبان إلى يوم القيامة.

أقول: وقد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر (عليه السلام) وروى السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيفا وعشرين حديثا، صرحوا بصحة طريق بعضها.

وفي منتهى إسنادها عدة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وعلي وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر.

وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية، وهو: عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت - وأنها أضحوكة - وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: ﴿الجوار الكنس﴾ التكوير: 16 على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها.

فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت وماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم.

ومن هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاءوا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم آخرون.

لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم أتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ الحجر: 9، وقال ﴿وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾ فصلت: 42 وقال: ﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا﴾ الإسراء: 82 فأطلق القول ولم يقيد، فما من خلط أو دس إلا ويدفعه القرآن ويظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله وإقراء صفحة تاريخه، وقال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه.

فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه ويمات عن القلوب الحية كما أميت عن الأعيان.

قال تعالى: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه﴾ الأنبياء: 18، وقال تعالى: ﴿ويريد الله أن يحق الحق بكلماته﴾ الأنفال: 7، وقال تعالى: ﴿ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون﴾ الأنفال: 8، ولا معنى لإحقاق الحق ولا لإبطال الباطل إلا إظهار صفتهما.

وبعض الناس وخاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الأبحاث المادية والمرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء وأخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله واشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الأخباريين وأصحاب الحديث والحرورية وغيرهم مسلك الإفراط والأخذ بكل رواية منقولة كيف كانت.

وكما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك الطرح الكلي تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل جل ثناؤه: ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ الحشر: 7 وقوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ النساء: 64، إذ لو لم يكن لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجية أو لما ينقل من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، والركون على النقل والحديث مما يعتوره البشر ويقبله في حياته الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانية لا غنى له عن ذلك، وأما وقوع الدس والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الأخبار الدائرة اليومية العامة والخاصة، ووجوده الكذب والدس والخلط فيها أزيد وأيدي السياسات الكلية والجزئية بها ألعب؟ ونحن على فطرتنا الإنسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه وصدقه قبلناه وإن خالفه وكذبه طرحناه وإن لم يتبين شيء من أمره ولم يتميز حقه من باطله وصدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول ولا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور والمضار.

هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، وأما ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته والأخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا.

فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الإنساني، والميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل وكذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، وهو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شيء أخذ به وإن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته.

هذا كله في غير المسائل الفقهية وأما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.

بحث فلسفي:

من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة والنقل، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الأفعال أو لم ينقل إليه شيء من ذلك - قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الأسباب الطبيعية العادية، فكثير من هذه الأفعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد والتمرين كأكل السموم وحمل الأثقال والمشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، وكثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار ولا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه ولا يقرؤه إلا صاحبه، وإنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك.

وكثير منها يحصل بحركات سريعة تخفى على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية علي حسنا أو غير مقدورة لنا لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الأسباب الطبيعية الجارية على العادة كالإخبار عن بعض المغيبات وخاصة ما يقع منها في المستقبل وكأعمال الحب والبغض والعقد والحل والتنويم والتمريض وعقد النوم والإحضار والتحريكات بالإرادة مما يقع من أرباب الرياضات وهي أمور غير قابلة للإنكار، شاهدنا بعضا منها ونقل إلينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه، وهو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند وإيران والغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق والتأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق والتجارب العملي في أعمالهم وإرادتهم يوجب القول بأنها مستندة إلى قوة الإرادة والإيمان بالتاثير على تشتت أنواعها، فالإرادة تابعة للعلم والإذعان السابق عليه، فربما توجد على إطلاقها وربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابة شيء خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب والبغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الإرادة الفاعلة، فالعلم إذا تم علما قاطعا أعطى للحواس مشاهدة ما قطع به، ويمكنك أن تختبر صحة ذلك بأن تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه ولا تلتفت إلى عدمه ولا إلى شيء غيره فإنك تجده أمامك على ما تريد، وربما توجد في الآثار معالجة بعض الأطباء الأمراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض.

وإذا كان الأمر على هذا فلو قويت الإرادة أمكنها أن تؤثر في غير الإنسان المريد نظير ما توجده في نفس الإنسان المريد إما من غير شرط وقيد أو مع شيء من الشرائط.

ويتبين بما مر أمور: أحدها: أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة وأما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الأرواح المتعلقة بالأجرام الفلكية، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة والشياطين الذين يستخرج أصحاب الدعوات والعزائم أسماءهم ويدعون بها على طرق خاصة عندهم، وكذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الأرواح من حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج وإلا لرآه كل من حضر عندهم وللكل حس طبيعي، وبه تنحل شبهة أخرى في إحضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به والواحد من الإنسان ليس له إلا روح واحدة، وبه تنحل أيضا شبهة أخرى وهي أن الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان ومكان دون زمان ومكان، وبه تنحل أيضا شبهة ثالثة، وهي: أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر.

وبه تنحل أيضا شبهة رابعة، وهي: أن الأرواح ربما تكذب عند الإحضار في أخبارها وربما يكذب بعضها بعضا.

فالجواب عن الجميع: أن الروح إنما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالأشياء المادية الطبيعية.

ثانيها: أن صاحب هذه الإرادة المؤثرة ربما يعتمد في إرادته على قوة نفسه وثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في إرادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الأثر عند المريد وفي الخارج، وربما يعتمد فيه على ربه كالأنبياء والأولياء من أصحاب العبودية لله وأرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا إلا لربهم وبربهم، وهذه إرادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الإرادة منها بوجه ولم تتلون بشيء من ألوان الميول النفسانية ولا اتكاء لها إلا على الحق فهي إرادة ربانية غير محدودة ولا مقيدة.

والقسم الثاني: إن أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الأنبياء سميت آية معجزة وإن تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة إن كانت مع دعاء، والقسم الأول إن كان بالاستخبار والاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة وإن كان بدعوة أو عزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا.

ثالثها: أن الأمر حيث كان دائرا مدار الإرادة في قوتها وهي على مراتب من القوة والضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر والمعجزة أو أن لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة وهو مشهود في أعمال التنويم والإحضار، هذا وسيأتي شطر من الكلام في ذلك.

بحث علمي:

العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة والقول الكلي في تقسيمها وضبطها عسيرة جدا، وأعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره: منها: السيمياء، وهو العلم الباحث عن تمزيج القوى الإرادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الأمور الطبيعية، ومنه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون وهذا الفن من أصدق مصاديق السحر، ومنها: الليمياء وهو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الإرادية باتصالها بالأرواح القوية العالية كالأرواح الموكلة بالكواكب والحوادث وغير ذلك بتسخيرها أو باتصالها واستمدادها من الجن بتسخيرهم، وهو فن التسخيرات، ومنها: الهيمياء.

وهو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير وهو الطلسمات، فإن للكواكب العلوية والأوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما أن العناصر والمركبات وكيفياتها الطبيعية كذلك، فلو ركبت الأشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، وحياة فلان، وبقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد وهذا معنى الطلسم، ومنها: الريمياء، وهو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقة بنحو من الأنحاء وهو الشعبذة، وهذه الفنون الأربعة مع فن خامس يتلوها وهو الكيميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية، قال شيخنا البهائي: أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات اسمه كلهسر وقد ركب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم، الكيميا، والليميا، والهيميا، والسيميا، والريميا انتهى ملخص كلامه.

ومن الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس ورسائل الخسروشاهي والذخيرة الإسكندرية والسر المكتوم للرازي والتسخيرات للسكاكي وأعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.

ومن العلوم الملحقة بما مر علم الأعداد والأوفاق وهو الباحث عن ارتباطات الأعداد والحروف للمطالب ووضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص، ومنها: الخافية وهو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الأسماء واستخراج أسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب والدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب ومن الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني والسيد حسين الأخلاطي وغيرهما.

ومن الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي وإحضار الأرواح وهما كما مر من تأثير الإرادة والتصرف في الخيال وقد ألف فيها كتب ورسائل كثيرة، واشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها هاهنا، والغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة.