الآيات 83 - 88

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ ﴿83﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿84﴾ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿85﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿86﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴿87﴾ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿88﴾

بيان:

قوله تعالى: ﴿وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل﴾ الآية في بديع نظمها تبتدىء أولا بالغيبة وتنتهي إلى الخطاب حيث تقول: ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون، ثم إنها تذكر أولا الميثاق وهو أخذ للعهد، ولا يكون إلا بالقول، ثم تحكي ما أخذ عليه الميثاق فتبتدىء، فيه بالخبر، حيث تقول: لا تعبدون إلا الله، وتختتم بالإنشاء حيث تقول وقولوا للناس حسنا إلخ.

ولعل الوجه في ذلك كله أن الآيات المتعرضة لحال بني إسرائيل لما بدئت بالخطاب لمكان اشتمالها على التقريع والتوبيخ وجرت عليه كان سياق الكلام فيها الخطاب ثم لما تبدل الخطاب بالغيبة بعد قصة البقرة لنكتة داعية إليها كما مر حتى انتهت إلى هذه الآية، فبدئت أيضا بالغيبة لكن الميثاق حيث كان بالقول وبني على حكايته حكي بالخطاب فقيل: لا تعبدون إلا الله إلخ، وهو نهي في صورة الخبر.

وإنما فعل ذلك دلالة على شدة الاهتمام به، كان الناهي لا يشك في عدم تحقق ما نهى عنه في الخارج، ولا يرتاب في أن المكلف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعا وكذا قوله: وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين، كل ذلك أمر في صورة الخبر.

ثم إن الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، وهو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله: ﴿وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة ثم توليتم﴾ إلخ وانتظم بذلك السياق.

قوله تعالى: ﴿وبالوالدين إحسانا﴾ أمر أو خبر بمعنى الأمر والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وذي القربى واليتامى والمساكين، أو التقدير: وتحسنون بالوالدين إحسانا، إلخ، وقد رتب موارد الإحسان أخذا من الأهم والأقرب إلى المهم والأبعد فقرابة الإنسان أقرب إليه من غيرهم، والوالدان وهما الأصل الذي تتكي عليه وتقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الأرحام، وفي غير القرابة أيضا اليتامى أحق بالإحسان لصغرهم وفقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين.

هذا وقوله: ﴿واليتامى﴾ اليتيم من مات أبوه، ولا يقال لمن ماتت أمه يتيم.

وقيل اليتيم في الإنسان إنما تكون من جهة الأب وفي غير الإنسان من سائر الحيوان من جهة الأم وقوله تعالى: ﴿والمساكين﴾ جمع مسكين وهو الفقير العادم الذليل.

وقوله تعالى: ﴿حسنا﴾ مصدر بمعنى الصفة جيء به للمبالغة.

وفي بعض القراءات حسنا، بفتح الحاء والسين صفة مشبهة.

والمعنى قولوا للناس قولا حسنا، وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، ومؤمنهم ولا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له لأن مورد القتال غير مورد المعاشرة فلا ينافي الأمر بحسن المعاشرة كما أن القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة.

قوله تعالى: ﴿لا تسفكون دماءكم﴾ خبر في معنى الإنشاء نظير ما مر في قوله: لا تعبدون إلا الله، والسفك الصب.

قوله تعالى: ﴿تظاهرون عليهم﴾ التظاهر هو التعارف، والظهير العون مأخوذ من الظهر لأن العون يلي ظهر الإنسان.

قوله تعالى: ﴿وهو محرم عليكم إخراجهم﴾ الضمير للشأن والقصة كقوله تعالى: قل هو الله أحد.

قوله تعالى: ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب﴾ أي ما هو الفرق بين الإخراج والفدية حيث أخذتم بحكم الفدية وتركتم حكم الإخراج وهما جميعا في الكتاب، أ فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.

قوله تعالى: ﴿وقفينا التقفية﴾ الاتباع وإتيان الواحد قفا الواحد.

قوله تعالى: ﴿وآتينا عيسى بن مريم البينات﴾ سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران.

قوله تعالى: وقالوا قلوبنا غلف جمع أغلف من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف وأستار وحجب، فهو نظير قوله تعالى: ﴿وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه﴾ حم سجدة: 5، وهو كناية عن عدم إمكان استماع ما يدعون إليه.

بحث روائي:

في الكافي، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وقولوا للناس حسنا﴾ الآية.قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم.

وفي الكافي، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قولوا للناس ولا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو.

وفي المعاني، عن الباقر (عليه السلام) قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز وجل يبغض السباب اللعان الطعان على المؤمنين الفاحش المفحش السائل ويحب الحيي الحليم العفيف المتعفف.

أقول: وروى مثل الحديث في الكافي، بطريق آخر عن الصادق (عليه السلام) وكذا العياشي عنه (عليه السلام) ومثل الحديث الثاني في الكافي، عنه.

ومثل الحديث الثالث العياشي عن الباقر (عليه السلام) وكان هذه المعاني استفيدت من إطلاق الحسن عند القائل وإطلاقه من حيث المورد.

وفي تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمة.قال الله: وقولوا للناس حسنا، نزلت في أهل الذمة ثم نسختها أخرى قوله: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون﴾ الحديث.

أقول: وهو منه (عليه السلام) أخذ بإطلاق آخر للقول وهو شموله للكلام ولمطلق التعرض.

يقال لا تقل له إلا حسنا وخيرا أي لا تتعرض له إلا بالخير والحسن، ولا تمسسه إلا بالخير والحسن.

هذا إن كان النسخ في قوله (عليه السلام) هو النسخ بالمعنى الأخص وهو المصطلح ويمكن أن يكون المراد هو النسخ بالمعنى الأعم، على ما سيجيء في قوله تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها﴾ البقرة: 106، وهو الكثير في كلامهم (عليهم السلام) لتكون هذه الآية وآية القتال غير متحدتين موردا.