الآيات 47- 48‏‎

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿47﴾ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿48﴾

بيان:

قوله تعالى: ﴿واتقوا يوما لا تجزي﴾.

الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شئونه، وقواه المقننة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحياة، وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم والجناية عندهم يستتبع العقاب، وربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كأن يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا وبدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذلك المجرم، أو يستنصر قومه فينصروه فيتخلص بذلك عن تبعة العقاب ونحو ذلك.

تلك سنة جارية وعادة دائرة بينهم، وكانت الملل القديمة من الوثنيين وغيرهم تعتقد أن الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطرد فيها قانون الأسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي الطبيعي، فيقدمون إلى آلهتهم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الإمداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشيء عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى إنهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، ومن الأبطال من يستنصر به الميت، وتوجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، ويوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الإسلامية على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربما تلونت لونا بعد لون، جيلا بعد جيل، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية، والأقاويل الكاذبة، فقد قال عز من قائل: ﴿والأمر يومئذ لله﴾ الانفطار: 19، وقال: ﴿ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب﴾ البقرة: 166، وقال ﴿ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون﴾ الأنعام: 94، وقال: ﴿هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ يونس: 30، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها: أن الموطن خال عن الأسباب الدنيوية، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية، وهذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل والأوهام على طريق الإجمال، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال: ﴿واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون﴾ البقرة: 48، وقال: ﴿يوم لا بيع فيه، ولا خلة، ولا شفاعة﴾ البقرة:254، وقال: ﴿يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا﴾ الدخان: 41، وقال: ﴿يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم﴾ المؤمنون: 33، وقال: ﴿ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون﴾ الصافات: 26، وقال: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعائنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ يونس - 18، وقال: ﴿ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع﴾ المؤمن - 18، وقال: ﴿فما لنا من شافعين ولا صديق حميم﴾ الشعراء: 101، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة هذا.

ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الإثبات، قال تعالى: ﴿الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون﴾ السجدة: 3، وقال تعالى: ﴿ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع﴾ الأنعام: 51، وقال تعالى: ﴿قل لله الشفاعة جميعا﴾ الزمر: 44، وقال تعالى: ﴿له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ البقرة:255، وقال تعالى: ﴿إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه﴾ يونس: 3، وقال تعالى: ﴿وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون﴾ الأنبياء: 28، وقال: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرف: 86، وقال: ﴿ولا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا﴾ مريم - 87، وقال تعالى: ﴿يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما﴾ طه: 110، وقال تعالى: ﴿ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾ سبأ: 23، وقال تعالى: ﴿وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى﴾ النجم: 26، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الأولى وبين ما يعممها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير أن بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه، وقد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، وإثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه، قال تعالى: ﴿قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب﴾ النمل: 65، وقال تعالى: ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو﴾ الأنعام: 59 ، وقال تعالى: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول﴾ الجن: 27، وكذلك الآيات الناطقة في التوفي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فإنها شائعة في أسلوب القرآن، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى، ثم يثبته لنفسه، ثم يثبته لغيره بإذنه ومشيته، فتفيد أن الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها، وإنما تملكها بتمليك الله لها إياها، حتى أن القرآن تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء، حتم كقوله تعالى: ﴿فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك، إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ﴾ هود: 108، فقد علق الخلود بالمشية وخاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ، إشعارا بأن قضاءه تعالى بالخلود لا يخرج الأمر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله: ﴿إن ربك فعال لما يريد﴾ هود: 107، وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الأمر من يده ويوجب له الفقر، ولا منع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى.

ومن هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة، ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلقها؟ وفيمن تجري؟ وممن تصح؟ ومتى تتحقق؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى؟ ونحو ذلك في أمور.

-1ما هي الشفاعة؟

الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون وهي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها من الأمور التي نستعلمها لإنجاح المقاصد، ونستعين بها على حوائج الحياة، وجل الموارد التي نستعملها فيها إما مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير، وإما مورد يطلب فيها دفع المضرة والشر، لكن لا كل نفع وضرر، فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الأسباب الطبيعية والحوادث الكونية من الخير والشر، والنفع والضر، كالجوع، والعطش، والحر، والبرد، والصحة، والمرض، بل نتسبب فيها بالأسباب الطبيعية، ونتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالأكل، والشرب، واللبس والاكتنان والمداواة، وإنما نستشفع في الخيرات والشرور والمنافع والمضار التي تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين والأحكام التي وضعتها واعتبرتها وقررتها وأجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم، ففي دائرة المولوية والعبودية، وعند كل حاكم ومحكوم، وأحكام من الأمر والنهي إذا عمل بها وامتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع، من جاه أو مال، وإذا خالفها وتمرد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي، أو معنوي، فإذا أمر المولى أو نهى عبده، أو كل من هو تحت سيادته وحكومته بأمر أو نهي مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم، وإن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع والاعتبار، وضع الحكم ووضع تبعة الحكم، يتعين به تبعة الموافقة والمخالفة.

وعلى هذا الأصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل والخاصة بين كل إنسان ومن دونه.

فإذا أراد الإنسان أن ينال كمالا وخيرا ماديا أو معنويا وليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع، ويعرف به لياقته، أو أراد أن يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة وليس عنده ما يدفعه، أعني الامتثال والخروج عن عهدة التكليف، وبعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجه إليه فذلك مورد الشفاعة، وعنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة إلى التلبس بكمال، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا، كالعامي الأمي الذي يريد تقلد مقام علمي، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير.

ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم، ويوجب نيل الثواب، أو التخلص من العقاب، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه وعبودية عبده فلا يعاقبه، ولا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه وتكليفه المجعول، أو ينسخه عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه، ولا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا، أو في خصوص الواقعة، فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في مولوية وعبودية، ولا في حكم ولا في جزاء حكم، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك: إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح كسؤدده، وكرمه، وسخائه، وشرافة محتده، وإما بصفات في العبد تستدعي الرأفة والحنان وتثير عوامل المغفرة كمذلته ومسكنته وحقارته وسوء حاله، وإما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده فيقول: ما أسألك إبطال مولويتك وعبوديته، ولا أن تبطل حكمك ولا أن تبطل الجزاء، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا ورأفة وكرما لا تنتفع بعقابه ولا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه ولا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة والكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه والعفو عنه.

ومن هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته، ونعني بالحكومة أن يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشمله الحكم الأول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الأسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة والغلبة في التأثير، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة.

ومن هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأول البعيد ومسببه، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا.

ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين: إحداهما: أنه يبتدي منه التأثير، وينتهي إليه السببية، فهو المالك للخلق والإيجاد على الإطلاق، وجميع العلل والأسباب أمور متخللة متوسطة بينه وبين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه.

والثانية: أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين ووضع فيه أحكاما من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين فبلغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجة وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته.

أما من الجهة الأولى: وهي النظر إليه من جهة التكوين فانطباق معنى الشفاعة على شأن الأسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، وكلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك كقوله تعالى: ﴿له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾ البقرة: 255، وقوله ﴿إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه﴾ يونس: 3، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل والأسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينية.

وأما من الجهة الثانية وهي النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال: أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى: ﴿يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا﴾ طه: 109، وقوله: ﴿لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾ سبأ: 23، وقوله ﴿لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى﴾ النجم: 26، وقوله: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ الأنبياء: 28، وقوله: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرف: 86، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء، فهو تمليك ولله الملك وله الأمر فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية، وشملته بلية العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل، والجرم العامل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد وهو القائل عز من قائل: ﴿أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾ الفرقان: 70، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوما، قال تعالى: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ الفرقان: 23، وقال تعالى: ﴿فأحبط أعمالهم﴾ محمد: 10، وقال تعالى: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾ النساء: 31، وقال تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ النساء: 48، والآية في غير مورد الإيمان والتوبة قطعا فإن الإيمان والتوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب وله تكثير القليل من العمل، قال تعالى: ﴿أولئك يؤتون أجرهم مرتين﴾ القصص: 65، وقال: ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها﴾ الأنعام: 160، وله سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجودا، قال تعالى: ﴿الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين﴾ الطور: 21، وهذا هو اللحوق والإلحاق وبالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية، وعلة متوسطة ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقربين من عباده من غير جزاف ولا ظلم.

ومن هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه وبين خلقه في إفاضة الجود وبذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الإطلاق.

قال تعالى: ﴿قل لله الشفاعة جميعا﴾ الزمر: 44، وقال تعالى: ﴿ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع﴾ السجدة: 4، وقال تعالى: ﴿ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع﴾ الأنعام: 51.

وغيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه وتمليكه.

فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى.

-2إشكالات الشفاعة

قد عرفت: أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة، وستعرف أن الكتاب وكذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك، فإن الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية والتأثير، ولا معنى للإطلاق في السببية والتأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط ولا مسبب واحد يكون مسببا لكل سبب على الإطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببية وهو باطل بالضرورة.

ومن هنا اشتبه الأمر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بأمور وبنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى وهاك شطرا منها: الإشكال الأول: أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما.

فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى وتقدس، وإن كان ظلما كان شفاعة الأنبياء مثلا سؤالا للظلم منه وهو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم.

والجواب عنه أولا: بالنقض فإنه منقوض بالأوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا وإثباته أولا كلاهما من العدل، والحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثم يوضع الأحكام وما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم، وأما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم ويبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم ولو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كأحوال البرزخ وأهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم وعقابه أولا عدلا ورفع عقابه ثانيا عدلا.

وثانيا: بالحل، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الأول فيما ذكر من العدل والظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الأول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة وقد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة من صفات أخرى له تعالى من رحمة وعفو ومغفرة، ومنها إفضاله للشافع بالإكرام والإعظام.

الإشكال الثاني: أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف والاختلاف، فما قضى وحكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء، وعلى هذا جرت سنة الأسباب، قال تعالى: ﴿هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين﴾ الحجر: 43، وقال تعالى: ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكمر﴾ الأنعام: 153، وقال تعالى: ﴿فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾ الفاطر: 42، وتحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فإن رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال، ولعب ينافي الحكمة قطعا، ورفعه عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم وذنوبهم اختلاف في فعله تعالى وتغير وتبدل في سنته الجارية وطريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم ولا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب وخروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح والإغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال، وإنما تجري الشفاعة وما يشبهها في سنة هذه الحياة من ابتناء الأعمال والأفعال على الأهواء والأوهام التي ربما تقضي في الحق والباطل على السواء، وتجري عن الحكمة وعن الجهالة على نسق واحد.

والجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم وسنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع والحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده ولا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوط علت صفاته.

توضيح ذلك: أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حياة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك.

وهي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء ولا لرابطة واحدة كيف كانت، فإن فيه بطلان الارتباط والسببية، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب ومصلحة مقتضية ولا يشفيه لأنه الله المميت المنتقم شديد البطش بل لأنه الله الرءوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا ولا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب، لأنه رءوف رحيم به، بل لأنه الله المنتقم الشديد البطش القهار مثلا وهكذا.

والقرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلاؤم والايتلاف الواقع بينها والاقتضاء المستنتج من ذلك، وإن شئت قلت: كل أمر من الأمور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمنه من المصالح والخيرات.

إذا عرفت هذا علمت: أن استقامة صراطه وعدم تبدل سنته وعدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضى صفة قاصرة وإن شئت قلت: بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل والانفعال والكسر والانكسار الواقع بين الحكم والمصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة.

فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير ولم يختلف في بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر.

لكن الأسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.

فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب - وذلك إثر عدة من الأسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كل ذي حق حقه والفصل في القضاء - لا يوجب اختلافا في السنة الجارية وضلالا في الصراط المستقيم.

الإشكال الثالث: أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة ونسخها لأجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة، وكل من النوعين محال على الله تعالى لأن إرادته على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير.

والجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الإرادة والعلم في شيء وإنما التغير في المراد والمعلوم، فهو سبحانه يعلم أن الإنسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصة فيريد فيه بإرادة، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الأول لاقتران أسباب وشرائط أخر فيريد فيه بإرادة أخرى وكل يوم هو في شأن، وقد قال تعالى: ﴿يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ الرعد: 39، وقال: ﴿بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾ المائدة: 67، مثال ذلك: أنا نعلم أن الهواء ستغشاه الظلمة فلا يعمل أبصارنا والحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بإنارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضاءة بالسراج وعند انقضائه بإطفائه والعلم والإرادة غير متغيرتين وإنما تغير المعلوم والمراد، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم والإرادة، وليس كل علم ينطبق على كل معلوم، ولا كل إرادة تتعلق بكل مراد، نعم تغير العلم والإرادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان انطباق العلم على المعلوم والإرادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما وهو الخطأ والفسخ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين أنه فرس فيتبدل العلم، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك، وهذان غير جائزين في مورده تعالى، والشفاعة ورفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.

الإشكال الرابع: أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الأنبياء (عليهم السلام) مستلزم لتجري الناس على المعصية وإغراء لهم على هتك محارم الله تعالى وهو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية والطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب والسنة بما لا يزاحم هذا الأصل البديهي.

والجواب عنه، أولا: بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة كقوله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ النساء: 51، والآية - كما - مر في غير مورد التوبة بدليل استثنائه الشرك المغفور بالتوبة.

وثانيا: بالحل: فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية وإغراءهم على التمرد والمخالفة بشرطين: أحدهما: تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز من غير تعليق بشرط جائز.

وثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا.

فلو قيل: إن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول ولعبا بالأحكام والتكاليف المتوجهة إلى المكلفين، وأما إذا أبهم الأمر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب وفي حق أي المذنبين أو أن العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الأوقات والأحوال، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها وآثامها قنوطا من رحمة الله، ويأسا من روح الله، مضافا إلى قوله تعالى: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾ النساء: 31، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات والمعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن اتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الإيمان والمعاصي تضعف الإيمان وتقسي القلب وتجلب الشرك، وقد قال تعالى: ﴿فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون﴾ الأعراف: 98، وقال: ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون﴾ المطففين: 14، وقال: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله﴾ الروم: 10، وربما أوجب ذلك انقلاعه عن المعاصي، وركوبه على صراط التقوى، وصيرورته من المحسنين، واستغناءه عن الشفاعة بهذا المعنى، وهذا من أعظم الفوائد، وكذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا.

والقرآن لم ينطق في خصوص المجرمين وفي خصوص الذنب بالتعيين ولم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجيء فلا إشكال أصلا.

الإشكال الخامس: أن العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع، وأما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله، ﴿لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة﴾ البقرة: 254، وأخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى: ﴿فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾ المدثر: 48 وأخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى: ﴿إلا بإذنه﴾ البقرة:255 وقوله: ﴿إلا من بعد إذنه﴾ يونس: 3، وقوله تعالى: ﴿إلا لمن ارتضى﴾ الأنبياء: 28، ومثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالإذن والمشية معهود في أسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للإشعار بأن ذلك بإذنه ومشيته سبحانه كقوله تعالى: ﴿سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله﴾ الأعلى: 6، وقوله تعالى: ﴿خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك﴾ هود: 107، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة وأما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه، وأما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.

والجواب: أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير إذن الله وارتضائه، وأما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فإنها تثبت الشفاعة ولا تنفيه فإن الآيات واقعة في سورة المدثر وإنما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم، ومع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الإضافة، ففرق بين أن يقول القائل: فلا تنفعهم الشفاعة وبين أن يقول: فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الإضافة، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز فقوله: شفاعة الشافعين يدل على أن شفاعة ما ستقع غير أن هؤلاء لا ينتفعون بها على أن الإتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله: ﴿كانت من الغابرين﴾ وقوله: ﴿وكان من الكافرين﴾ وقوله: ﴿فكان من الغاوين﴾ وقوله: ﴿لا ينال عهدي الظالمين﴾ وأمثال ذلك، ولو لا ذلك لكان الإتيان بصيغة الجمع وله مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية.

وأما عن الآيات المشتملة على استثناء الإذن والارتضاء فدلالة قوله: ﴿إلا بإذنه﴾ وقوله: ﴿إلا من بعد إذنه﴾ على الوقوع وهو مصدر مضاف مما لا ينبغي أن ينكره عارف بأساليب الكلام وكذا القول: بكون قوله: ﴿إلا بإذنه﴾ وقوله: ﴿إلا لمن ارتضى﴾ بمعنى واحد وهو المشية مما لا ينبغي الإصغاء إليه، على أن الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله: ﴿إلا بإذنه وإلا من بعد إذنه﴾ وقوله ﴿إلا لمن ارتضى﴾، وقوله: ﴿إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ إلى غير ذلك، فهب: أن الإذن والارتضاء واحد وهو المشية فهل يمكن التفوه بذلك في قوله: ﴿إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾.

فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشية أيضا؟ هذا وأمثاله من المساهلة في البيان مما لا يصح نسبته إلى كلام سوقي فكيف بالكلام البليغ! وكيف بأبلغ الكلام! وأما السنة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب.

الإشكال السادس: أن الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم ولزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الأنبياء بمعنى توسطهم بما هم أنبياء بين الناس وبين ربهم بأخذ الأحكام بالوحي وتبليغها الناس وهدايتهم وهذا المقدار كالبذر ينمو وينشأ منه ما يستقبله من الأقدار والأوصاف والأحوال فهم (عليهم السلام) شفعاء المؤمنين في الدنيا وشفعاؤهم في الآخرة.

والجواب: أنه لا كلام في أن ذلك من مصاديق الشفاعة إلا أن الشفاعة غير مقصورة فيه كما مر بيانه، ومن الدليل عليه قوله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ النساء: 48، وقد مر بيان أن الآية في غير مورد الإيمان والتوبة، والشفاعة التي قررها المستشكل في الأنبياء إنما هي بطريق الدعوة إلى الإيمان والتوبة.

الإشكال السابع: أن طريق العقل لا يوصل إلى تحقق الشفاعة، وما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة وتثبتها أخرى، وربما قيدتها وربما أطلقتها، والأدب الديني الإيمان بها، وإرجاع علمها إلى الله تعالى.

والجواب عنه: أن المتشابهة من الآيات تصير بإرجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها، وهو أمر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر، كما سيجيء بيانه عند قوله تعالى: ﴿منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات﴾ آل عمران: 7.

-3فيمن تجري الشفاعة؟

قد عرفت أن تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملاءمة إلا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب إبهام وعلى ذلك جرى بيان القرآن، قال تعالى: ﴿كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾ المدثر - 48، بين سبحانه فيها أن كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب، مأخوذة بما أسلفت من الخطايا إلا أصحاب اليمين فقد فكوا من الرهن وأطلقوا واستقروا في الجنان، ثم ذكر أنهم غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، وهم يجيبون بالإشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.

ومقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متصفين بهذه الصفات التي يدل الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، وإذا كانوا غير متصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة وقد فك الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب والآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفك والإخراج إنما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة، وفي الآيات تعريف أصحاب اليمين بانتفاء الأوصاف المذكورة عنهم، بيان ذلك: أن الآيات واقعة في سورة المدثر وهي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، ولم يشرع يومئذ الصلاة والزكاة بالكيفية الموجودة اليوم، فالمراد بالصلاة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي، وبإطعام المسكين مطلق الإنفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلاة والزكاة المعهودتين في الشريعة الإسلامية والخوض هو الغور في ملاهي الحياة وزخارف الدنيا الصارفة للإنسان عن الإقبال على الآخرة وذكر الحساب يوم الدين، أو التعمق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة، وبالتلبس بهذه الصفات الأربعة، وهي ترك الصلاة لله وترك الإنفاق في سبيل الله والخوض وتكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فإن الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض والإقبال إلى يوم لقاء الله، وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدين ولازم هذين عملا التوجه إلى الله بالعبودية، والسعي في رفع حوائج جامعة الحياة وهذان هما الصلاة والإنفاق في سبيل الله، فالدين يتقوم بحسب جهتي العلم والعمل بهذه الخصال الأربع، وتستلزم بقية الأركان كالتوحيد والنبوة استلزاما هذا، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، وهم المرضيون دينا واعتقادا سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، وهم المعنيون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من أصحاب اليمين، وقد قال تعالى: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾ النساء: 31، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفرا عنه، فقد بان أن الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، الحديث.

ومن جهة أخرى إنما سمي هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال وربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشأمة، وهو من الألفاظ التي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الإنسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله، قال تعالى: ﴿يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا﴾ الإسراء: 72، وسنبين في الآية إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين اتباع الإمام الحق، ومن إيتائه بالشمال اتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون: ﴿يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار﴾ هود: 98، وبالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضا إلى ارتضاء الدين كما أن إليه مرجع التوصيف بالصفات الأربعة المذكورة هذا.

ثم إنه تعالى قال في موضع آخر من كلامه: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ الأنبياء: 28، فأثبت الشفاعة على من ارتضى، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه، كما فعله في قوله: ﴿إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا﴾ طه: 109، ففهمنا أن المراد به ارتضاء أنفسهم أي ارتضاء دينهم لا ارتضاء عملهم، فهذه الآية أيضا ترجع من حيث الإفادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثم إنه تعالى قال ﴿يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا﴾ فهو يملك الشفاعة أي المصدر المبني للمفعول وليس كل مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى: ﴿إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى﴾ طه - 75، فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحا، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنه لم يعمل صالحا وهو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم﴾ يس: 61 فقوله تعالى: ﴿وأن اعبدوني﴾ عهد بمعنى الأمر وقوله تعالى: هذا صراط مستقيم، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة، فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثم ينجون منها بالشفاعة، وإلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى ﴿قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا﴾ البقرة: 80، فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة، والجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر، وهم الذين ارتضى الله دينهم.

-4من تقع منه الشفاعة؟

قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية، ومنها تشريعية، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الأسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الأشياء.

وأما الشفاعة التشريعية، وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازات، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا وزلفى، فهو شفيع متوسط بينه وبين عبده.

ومنه التوبة كما قال تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم﴾ الزم: 54، ويعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك.

ومنه الإيمان قال تعالى: ﴿آمنوا برسوله، إلى قوله: ويغفر لكم﴾ الحديد: 28.

ومنه كل عمل صالح.

قال تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم﴾ المائدة:9، وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة﴾ المائدة: 35 والآيات فيه كثيرة، ومنه القرآن لقوله تعالى: ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾ المائدة: 16.

ومنه كل ما له ارتباط بعمل صالح، والمساجد والأمكنة المتبركة والأيام الشريفة، ومنه الأنبياء والرسل باستغفارهم لأممهم.

قال تعالى: ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما﴾ النساء: 64.

ومنه الملائكة في استغفارهم للمؤمنين، قال تعالى: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا﴾ المؤمنون: 7، وقال تعالى: ﴿والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم﴾ الشورى: 5، ومنه المؤمنون باستغفارهم لأنفسهم ولإخوانهم المؤمنين.

قال تعالى حكاية عنهم ﴿واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولينا﴾ البقرة: 276.

ومنها الشفيع يوم القيمة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الأنبياء.

قال تعالى: ﴿وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون﴾ إلى أن قال: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ الأنبياء: 29، فإن منهم عيسى بن مريم وهو نبي، وقال تعالى: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرف: 86، والآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضا لأنهم قالوا إنهم بنات الله سبحانه.

ومنهم الملائكة.

قال تعالى: ﴿وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى﴾ النجم: 26، وقال تعالى: ﴿يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ طه: 110، ومنهم الشهداء لدلالة قوله تعالى: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرفك 86، على تملكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق، فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير أن هذه الشهادة كما مر في سورة الفاتحة وسيأتي في قوله تعالى ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس﴾ البقرة: 143 شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال، ومن هنا يظهر أن المؤمنين أيضا من الشفعاء فإن الله عز وجل أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة، قال تعالى: ﴿والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم﴾ الحديد: 19، كما سيجيء بيانه.

-5بماذا تتعلق الشفاعة؟

قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية تتعلق بكل سبب تكويني في عالم الأسباب ومنها شفاعة تشريعية متعلقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلق بعقاب كل ذنب، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والإيمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلق بتبعات بعض الذنوب كبعض الأعمال الصالحة، وأما الشفاعة المتنازع فيها وهي شفاعة الأنبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن استحقه بالحساب، فقد عرفت في الأمر الثالث أن متعلقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحق وقد ارتضى الله دينه.

-6متى تنفع الشفاعة؟

ونعني بها أيضا الشفاعة الرافعة للعقاب، والذي يدل عليه قوله سبحانه: ﴿كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر﴾ المدثر: 42، فالآيات كما مر دالة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها غير أنها تدل على أن الشفاعة إنما تنفع في الفك عن هذه الرهانة والإقامة والخلود في سجن النار، وأما ما يتقدم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدل الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.

واعلم أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وتعلق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار، وذلك لمكان قوله: في جنات، الدال على الاستقرار وقوله: ما سلككم فإن السلوك هو الإدخال لكن لا كل إدخال بل إدخال على سبيل النضد والجمع والنظم ففيه معنى الاستقرار وكذا قوله: فما تنفعهم، فإن ما لنفي الحال، فافهم ذلك.

وأما نشأة البرزخ وما يدل على حضور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) عند الموت وعند مساءلة القبر وإعانتهم إياه على الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به﴾ النساء: 158، فليس من الشفاعة عند الله في شيء وإنما هو من سبيل التصرفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون- إلى أن قال- ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون﴾ الأعراف: 46، 48، 49، ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى: ﴿يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه﴾ الإسراء: 71، فوساطة الإمام في الدعوة، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فافهم.

فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة باستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها، باتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.

بحث روائي:

في أمالي الصدوق، عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام) يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز وجل: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ قال (عليه السلام) لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه.

أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما شفاعتي، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد مر استفادة معناه من الآيات.

وفي تفسير العياشي، عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم (عليه السلام): في قول الله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما ويؤمر الشمس، فيركب على رءوس العباد، ويلجمهم العرق، ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح، ويدلهم نوح على إبراهيم، ويدلهم إبراهيم على موسى، ويدلهم موسى على عيسى، ويدلهم عيسى فيقول: عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ والله أعلم فيقول: محمد، فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له: تكلم وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه ويستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى إنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قول الله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.

أقول: وهذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار والتفصيل بطرق متعددة من العامة والخاصة، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، ولا ينافي ذلك كون غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأنبياء، وغيرهم جائز الشفاعة لإمكان كون شفاعتهم فرعا لشفاعته فافتتاحها بيده (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي تفسير العياشي، أيضا: عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: هي الشفاعة.

وفي تفسير العياشي، أيضا: عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ؟ قال: نعم إن للمؤمنين خطايا وذنوبا وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ.

قال: وسأله رجل عن قول رسول الله: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.قال نعم.قال: يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع واطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع ويطلب فيعطى.

وفي تفسير الفرات، عن محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن بشر بن شريح البصري قال: قلت لمحمد بن علي (عليهما السلام)، أية آية في كتاب الله أرجى؟ قال: فما يقول فيها قومك؟ قلت: يقولون: ﴿يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾.

قال: لكنا أهل بيت لا نقول ذلك.قال: قلت: فأي شيء تقولون فيها؟ قال: نقول: ولسوف يعطيك ربك فترضى الشفاعة والله الشفاعة والله الشفاعة.

أقول: أما كون قوله تعالى: ﴿عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا﴾ الآية مقام الشفاعة فربما ساعد عليه لفظ الآية أيضا مضافا إلى ما استفاض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه مقام الشفاعة فإن قوله تعالى: أن يبعثك، يدل على أنه مقام سيناله يوم القيامة.

وقوله محمودا مطلق فهو حمد غير مقيد يدل على وقوعه من جميع الناس من الأولين والآخرين، والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ففيه دلالة على وقوع فعل منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتفع به ويستفيد منه الكل فيحمده عليه، ولذلك قال (عليه السلام) في رواية عبيد بن زرارة السابقة: وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ الحديث.

وسيجيء بيان هذا المعنى بوجه آخر وجيه.

وأما كون قوله تعالى: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ أرجى آية في كتاب الله دون قوله تعالى: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا الآية، فإن النهي عن القنوط وإن تكرر ذكره في القرآن الشريف إلا أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): قال: ﴿ومن يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون﴾ الحجر: 56، وقوله تعالى حكاية عن يعقوب (عليه السلام): ﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾ يوسف: 87، ناظرتان إلى اليأس والقنوط من الرحمة التكوينية بشهادة المورد.

وأما قوله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم﴾ الزمر: 54، إلى آخر الآيات فهو وإن كان نهيا عن القنوط من الرحمة التشريعية بقرينة قوله تعالى أسرفوا على أنفسهم الظاهر في كون القنوط في الآية قنوطا من جهة المعصية، وقد عمم سبحانه المغفرة للذنوب جميعا من غير استثناء، ولكنه تعالى ذيله بالأمر بالتوبة والإسلام والعمل بالإتباع فدلت الآية على أن العبد المسرف على نفسه لا ينبغي له أن يقنط من روح الله ما دام يمكنه اختبار التوبة والإسلام والعمل الصالح.

وبالجملة فهذه رحمة مقيدة أمر الله تعالى عباده بالتعلق بها، وليس رجاء الرحمة المقيدة كرجاء الرحمة العامة والإعطاء، والإرضاء المطلقين الذين وعدهما الله لرسوله الذي جعله رحمة للعالمين.

ذلك الوعد يطيب نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ الآية.

توضيح ذلك: أن الآية في مقام الامتنان وفيها وعد يختص به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعد الله سبحانه بمثله أحدا من خلقه قط، ولم يقيد الإعطاء بشيء فهو إعطاء مطلق وقد وعد الله ما يشابه ذلك فريقا من عباده في الجنة فقال تعالى: ﴿لهم فيها ما يشاءون عند ربهم﴾ الشورى: 22، وقال تعالى: ﴿لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد﴾ ق: 35، فأفاد أن لهم هناك ما هو فوق مشيتهم، والمشية تتعلق بكل ما يخطر ببال الإنسان من السعادة والخير، فهناك ما لا يخطر على قلب بشر كما قال تعالى: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ السجدة: 17، فإذا كان هذا قدر ما أعطاه الله على عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو أمر فوق القدر كما عرفت ذلك فما يعطيه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام الامتنان أوسع من ذلك وأعظم فافهم.

فهذا شأن إعطائه تعالى، وأما شأن رضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن المعلوم أن هذا الرضا ليس هو الرضا بما قسم الله، الذي هو زميل لأمر الله.

فإن الله هو المالك الغني على الإطلاق وليس للعبد إلا الفقر والحاجة فينبغي أن يرضى بقليل ما يعطيه ربه وكثيره وينبغي أن يرضى بما قضاه الله في حقه، سره ذلك أو ساءه، فإذا كان هذا هكذا فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلم وأعمل، لا يريد إلا ما يريده الله في حقه، لكن هذا الرضا حيث وضع في مقابل الإعطاء يفيد معنى آخر نظير إغناء الفقير بما يشكو فقده، وإرضاء الجائع بإشباعه فهو الإرضاء بالإعطاء من غير تحديد، وهذا أيضا مما وعد الله ما يشابهه لفريق من عباده.

قال عز من قائل: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه﴾ البينة: 8، وهذا أيضا لموقع الامتنان والاختصاص يجب أن يكون أمرا فوق ما للمؤمنين وأوسع من ذلك، وقد قال تعالى: في حق رسوله: ﴿بالمؤ﴾ التوبة: 128، فصدق رأفته وكيف يرضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويطيب نفسه أن يتنعم بنعيم الجنة ويرتاض في رياضه وفريق من المؤمنين متغلغلون في دركات السعير، مسجونون تحت أطباق النار وهم معترفون لله بالربوبية، ولرسوله بالرسالة، ولما جاء به بالصدق، وإنما غلبت عليهم الجهالة، ولعب بهم الشيطان، فاقترفوا معاصي من غير عناد واستكبار.

والواحد منا إذا راجع ما أسلفه من عمره ونظر إلى ما قصر به في الاستكمال والارتقاء يلوم نفسه بالتفريط في سعيه وطلبه ثم يلتفت إلى جهالة الشباب ونقص التجارب فربما خمدت نار غضبه وانكسرت سورة ملامته لرحمة ناقصة أودعها الله فطرته، فما ظنك برحمة رب العالمين في موقف ليس فيه إلا جهالة إنسان ضعيف وكرامة النبي الرءوف الرحيم ورحمة أرحم الراحمين.