الآيات 35 - 39‏‎

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴿35﴾ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴿36﴾ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿37﴾ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿39﴾

بيان:

قوله تعالى: ﴿قلنا يا آدم اسكن﴾ على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم.

لم يقع قصة الجنة إلا في ثلاث مواضع: أحدها: هاهنا من سورة البقرة.

الثاني: في سورة الأعراف.

قال الله تعالى: ﴿ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.قال: فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون﴾ الآيات: 19، 25.

والثالث: في سورة طه.

قال الله تعالى: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان فقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾.

وسياق الآيات وخاصة قوله تعالى في صدر القصة: إني جاعل في الأرض خليفة يعطي أن آدم (عليه السلام) إنما خلق ليحيا في الأرض ويموت فيها وإنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الأرض، وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه: فقلنا يا آدم، وفي سورة الأعراف: ويا آدم اسكن حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة، وبالجملة فهو (عليه السلام) كان مخلوقا ليسكن الأرض، وكان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذا الطريق، وهو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة.

والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض، فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، وانتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة، وهي العورة بقرينة قوله تعالى: وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني ويستلزم التغذي والنمو أيضا فما كان لإبليس هم إلا إبداء سوآتهما، وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، ولم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، وأنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما ولما ينفصلا ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى: ليبدي لهما ما ووري عنهما ولم يقل ما كان ووري عنهما، وهو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة وإنما تمشت دفعة ما واستعقب ذلك إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحياة الأرضية ومع أكل الشجرة، ولذلك قال تعالى: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، وقال تعالى: وأخرجهما مما كانا فيه وأيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتما مقضيا، والرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة وهبوطهما هو الأكل من الشجرة وظهور السوآة، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما﴾.

ثم ساق تعالى القصة.

فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين؟ أو أنه قوله تعالى: إن هذا عدو لك ولزوجك أو أنه العهد بمعنى الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الإنسان، ومن الأنبياء خاصة بوجه آكد وأغلظ.

والاحتمال الأول غير صحيح لقوله تعالى: ﴿فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين﴾ الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي، وقد قال تعالى: ﴿فنسي ولم نجد له عزما﴾ فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع إبليس فهو وإن لم يكن بالبعيد، كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم (عليه السلام) كما هو ظاهر الآية.

مع أن التحذير عن إبليس كان لهما معا، وأيضا ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس، قال تعالى: ﴿فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى الآيات﴾ فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا على نسيان العهد وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية والعبودية أنسب منه مع التحذير من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر واتباع إبليس، وأما الميثاق على الربوبية فهو له أنسب، فإن الميثاق على الربوبية هو أن لا ينسى الإنسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الإنسان أبدا ولا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، أي لا ذاتا ولا وصفا ولا فعلا.

والخطيئة التي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربه والغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية هذا.

لكنك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها وتشتت أطرافها وأنحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات وأنواع الآلام وضروب المكاره من موت وحياة، وصحة وسقم، وسعة وإقتار، وراحة وتعب، ووجدان وفقدان.

على أن الجميع أعم مما في نفس الإنسان أو في غيره مملوكة لربه، لا استقلال لشيء منها وفيها، بل الكل ممن ليس عنده إلا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزته وجلاله، ولا يترشح من لدنه إلا الجميل والخير، فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفا يخافه، ولا مهيبا يهابه، ولا محذورا يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا إلا ما يأمره ربه أن يكرهه ويبغضه، وهو مع ذلك يكرهه لأمره، ويحب ما يحب ويلتذ ويبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب ولا حظ لشيء غيره في شيء منها، فما له ولمالك الأمر وما يتصرف به في ملكه؟ من إحياء وإماتة، ونفع وضر وغيرها، فهذه هي الحياة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة وهي نور لا ظلمة معه، وسرور لا غم معه، ووجدان لا فقد معه، وغنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه، وفي مقابل هذه الحياة حياة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره إلا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حياته بين الخوف عما يخاف فوته، والحذر عما يحذر وقوعه، والحزن لما يفوته، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان وسائر ما يحبه ويتكل ويعتمد عليه ويؤثره.

كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه والسكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، وحشى ذائب محترق، وصدر ضيق حرج، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.

إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحياة الدنيا واحد، وأن الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.

وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى: ﴿فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾.

وبدل ذلك في هذه السورة من قوله: ﴿فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾.

ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا وشقاؤها، وهو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه، وأن آدم (عليه السلام) كأنه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحياة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.

قوله تعالى: ﴿وكلا منها رغدا﴾ الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، وقوم رغد، ونساء رغد، أي ذوو عيش رغيد.

وقوله تعالى: ﴿ولا تقربا هذه الشجرة﴾ وكأن النهي إنما كان عن أكل الثمرة وإنما تعلق بالقرب من الشجرة إيذانا بشدة النهي ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى ﴿فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما﴾ الأعراف: 22.

وقوله تعالى: ﴿فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما﴾ طه: 121، فكانت المخالفة بالأكل فهو المنهي عنه بقوله: ولا تقربا.

قوله تعالى: ﴿فتكونا من الظالمين﴾ من الظلم لا من الظلمة على ما احتمله بعضهم وقد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا﴾.

إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: فتكونا من الظالمين من قوله فتشقى والشقاء هو التعب ثم فسر التعب وفصله، فقال: ﴿إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى الآيات﴾.

ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من جوع وعطش وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه.

ومن هنا يظهر أيضا أن هذا النهي أعني قوله: ولا تقربا، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.

فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل في موردهما، فإنهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة ولو لا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي إن شاء الله.

قوله سبحانه: ﴿فأزلهما الشيطان﴾ الظاهر من هذه الجملة كنظائرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا بني آدم على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.

لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: ﴿فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك﴾ يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إياه بالشخص والعين دون الوصف وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: ﴿يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد﴾ الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، ويدل ذلك على متكلم مشعور به.

وكذا قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين﴾ والقسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.

وكذا قوله تعالى: ﴿وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين﴾ كل ذلك يدل على أنه كان يتراءى لهما وكانا يشاهدانه.

ولو كان حالهما (عليهما السلام) مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: ربنا إننا لم نشعر وخلنا أن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، ولا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.

وبالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه، والأنبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وأيوب وإسماعيل ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا.

وكذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: ﴿ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة﴾ حيث ينبىء عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة، وصاحبهما وغرهما بوسوسته، ولا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان، والدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنة.

وأما قوله تعالى خطابا لإبليس: ﴿فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج منها﴾ الأعراف: 13، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب وتشريف.

قوله تعالى: ﴿وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو﴾ الآية ظاهر السياق أنه خطاب لآدم وزوجته وإبليس وقد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال: ﴿فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها﴾ الآية فقوله تعالى: اهبطوا كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله وبين آدم وزوجته وذريتهما، وكذلك قضى به حياتهم في الأرض وموتهم فيها وبعثهم منها.

وذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله: ﴿فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون﴾ الآية وكما سيأتي في قوله تعالى: ﴿ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم﴾ الآية من سورة الأعراف.

إن إسجاد الملائكة لآدم (عليه السلام) إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان المسجود له آدم وحكم السجدة لجميع البشر، فكان أقامه آدم (عليه السلام) مقام المسجود له معنونا بعنوان الأنموذج والنائب.

وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته الجنة، ثم إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونه حظيرة القدس، ومنزل الرفعة والقرب، ودار نعمة وسرور، وأنس ونور، ورفقاء طاهرين، وأخلاء روحانيين، وجوار رب العالمين.

ثم إنه يختار مكانه كل تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حياة فانية، وجيفة منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لأعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع إليه وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فقد بدل نعمة الله كفرا وأحل بنفسه دار البوار، جهنم يصلاها وبئس القرار.

قوله تعالى: ﴿فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه﴾ التلقي هو التلقن، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (عليه السلام) توبته.

ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.

وتوبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ثم تاب عليهم ليتوبوا﴾ التوبة: 119.

وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة، وإن كانت القراءة الأخرى وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات لا تنافيه أيضا.

وأما أن هذه الكلمات ما هي؟ فربما يحتمل أنها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله: ﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ الأعراف: 23، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: ﴿قالا ربنا ظلمنا﴾ الآية قبل قوله: ﴿قلنا اهبطوا﴾ في سورة الأعراف ووقوع قوله ﴿فتلقى آدم﴾ الآية بعد قوله: قلنا اهبطوا، في هذه السورة لا يساعد عليه.

لكن هاهنا شيء: وهو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ قالت الملائكة: ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك﴾ الآية وهو تعالى لم يرد عليهم دعواهم على الخليفة الأرضي بما رموه به ولم يجب عنه بشيء إلا أنه علم آدم الأسماء كلها.

ولو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسد باب اعتراضهم ذلك لم ينقطع كلامهم ولا تمت الحجة عليهم قطعا.

ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشيء من تلك الأسماء فافهم ذلك.

واعلم أن آدم (عليه السلام) وإن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطه فقد هلك، ولو رجع إلى سعادته الأولى فقد أتعب نفسه وظلمها، فهو (عليه السلام) ظالم لنفسه على كل تقدير، إلا أنه (عليه السلام) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.

فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلة والمسكنة والحاجة والقصور وله في كل ما يصيبه من التعب والعناء والكد روح وراحة في حظيرة القدس وجوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون، وله في أيام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلا المتعرضون.

فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين وتقويم الملة.

ويدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الإيمان.

قال تعالى: ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك﴾ هود: 112، وقال: ﴿وإني لغفار لمن تاب وآمن﴾ طه: 82، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى﴾.

وهذا أول ما شرع من الدين لآدم (عليه السلام) وذريته، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شيء إلى يوم القيامة.

وأنت إذا تدبرت هذه القصة قصة الجنة وخاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضاءين منه تعالى في آدم وذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضاءه بالهبوط والاستقرار في الأرض والحياة فيها تلك الحياة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن اقتراب الشجرة هذا.

وأن التوبة ثانيا: تعقب قضاء وحكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم وذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحياة الأرضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحياة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحياة من حياة أرضية، وحياة سماوية.

وهذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: ﴿وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ الآية وقال تعالى: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى﴾ الآية.

وتوسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت ولما ينفصلا من الجنة وإن لم يكونا أيضا فيها كاستقرارهما فيها قبل ذلك.

يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة﴾ الآية، بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم.

واعلم أن ظاهر قوله تعالى: ﴿وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ الآية وقوله تعالى: ﴿قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون﴾ الآية أن نحوة هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، وأن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكون الإنسان في الأرض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.

فالحياة الأرضية تغاير حياة الجنة فحياتها حياة سماوية غير أرضية.

ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، وإن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.

نعم: يبقى الكلام في معنى السماء ولعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إن شاء الله تعالى.

بقي هنا شيء وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر وإن كان تحقق المعصية والخطيئة منه (عليه السلام) كما قال تعالى: فتكونا من الظالمين، وقال تعالى: وعصى آدم ربه فغوى الآية، وكما اعترف به فيما حكاه الله عنهما: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ الآية.

لكن التدبر في آيات القصة والدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا وإنما هو نهي إرشادي يراد به الإرشاد والهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح والخير لا البعث والإرادة المولوية.

ويدل على ذلك أولا: أنه تعالى فرع على النهي في هذه السورة وفي سورة الأعراف أنه ظلم حيث قال: ﴿لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين﴾ ثم بدله في سورة طه من قوله: فتشقى مفرعا إياه على ترك الجنة.

ومعنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: ﴿إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى﴾ الآيات.

فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحياة الأرضية من جوع وعطش وعراء وغير ذلك.

فالتوقي من هذه الأمور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة أخرى مولوية فالنهي إرشادي، ومخالفة النهي الإرشادي لا توجب معصية مولوية، وتعديا عن طور العبودية وعلى هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على أنفسهما في إلقائها في التعب والتهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية والعبودية وهو ظاهر.

وثانيا: أن التوبة، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، والمعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، وفي مورد فعله معاملة الامتثال والانقياد.

ولو كان النهي عن أكل الشجرة مولويا وكانت التوبة توبة عن ذنب عبودي ورجوعا عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع أنهما لم يرجعا.

ومن هنا يعلم أن استتباع الأكل المنهي للخروج من الجنة كان استتباعا ضروريا تكوينيا، نظير استتباع السم للقتل والنار للإحراق، كما في موارد التكاليف الإرشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول النار لتارك الصلاة، واستحقاق الذم واستيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية.

وثالثا: أن قوله تعالى: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾.

وهو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته وكتبه ورسله، يحكي عن أول تشريع شرع للإنسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم وذريته، وقد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الأمر الثاني بالهبوط ومن الواضح أن الأمر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة واقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي واقتراب الشجرة لا دين مشروع ولا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي، ولا معصية مولوية.

ولا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة ولإبليس وهو قبل خطاب لا تقربا، خطابا مولويا لأن المكلف غير المكلف.

فإن قلت: إذا كان النهي نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما ظلما وعصيانا وغواية؟.

قلت: أما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى، وأما العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فانكسر وكسرته فعصى، والعصيان وهو عدم الانفعال عن الأمر أو النهي كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الإرشادية.

وأما تعين معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صل، أم صم، أو حج، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن ونحو ذلك فهو تعين بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة والعرف العام هذا.

وأما الغواية فهو عدم اقتدار الإنسان مثلا على حفظ المقصد وتدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد ويلائمه.

وواضح أنه يختلف باختلاف الموارد من إرشاد ومولوية.

فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ وقولهما: ﴿وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾.

قلت: التوبة كما مر هي الرجوع والرجوع، يختلف بحسب اختلاف موارده.

فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده وإرادته أن يتوب إليه، فيرد إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل شيء معين من الفواكه والمأكولات، وإنما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته وعافيته فلم ينته المريض عن نهيه فاقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك.

يجوز أن يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله وعافيته، فيذكر له أن ذلك محتاج إلى تحمل التعب والمشقة والعناء والرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الأولية بل إلى أشرف منها وأحسن، هذا.

وأما المغفرة والرحمة والخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائرها في اختلافها بحسب اختلاف مواردها، هذا.

بحث روائي:

في تفسير القمي، عن أبيه رفعه قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن جنة آدم أ من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال (عليه السلام): كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا، قال (عليه السلام): فلما أسكنه الله الجنة وأباحها له إلا الشجرة، لأنه خلق خلقة لا يبقى إلا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق، فجاءه إبليس فقال له إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، وبقيتما في الجنة أبدا، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، وحلف لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز وجل حكاية عنه: ﴿ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة - إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين - وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة﴾ فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوآتهما، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة ﴿وأقبلا يستتران من ورق الجنة﴾ وناديهما ربهما: أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة - وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، فقالا كما حكى الله عنهما ربنا ظلمنا أنفسنا - وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فقال الله لهما: اهبطوا بعضكم لبعض عدو - ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، وإنما سميت الصفا لأن صفي الله أنزل عليها، ونزلت حواء على المروة وإنما سميت المروة لأن المرأة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أ ليس خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته؟ قال: بلى، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته؟ قال آدم: إن إبليس حلف لي بالله كاذبا.

أقول: وفي كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت وإن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.

والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله: فهبط آدم على الصفا، وكقوله: ونزلت حواء على المروة، وكقوله: إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثا في الأرض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في الأرض كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون﴾ المؤمنون: 114، وقوله تعالى: ﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، قال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون﴾ الروم: 56، على أن عدة من الروايات المنقولة عن أهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء، وأنهما نزلا من السماء، على أن المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء والهبوط منها إلى الأرض مع كونهما خلقا في الأرض وعاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء ووقوع سؤال القبر فيه وكونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وغير ذلك وأرجو أن يرتفع هذا الإشكال وما يشاكله من الإشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء إن شاء الله العزيز.

وأما كيفية مجيء إبليس إليهما، وما اتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح والمعتبرة من الروايات خالية عن بيانها.

وفي بعض الأخبار ذكر الحية والطاووس عونين لإبليس في إغوائه إياهما لكنها غير معتبرة، أضربنا عن ذكرها وكأنها من الأخبار الدخيلة، والقصة مأخوذة من التوراة وهاك لفظ التوراة في القصة بعينه: قال في الفصل الثاني من السفر الأول وهو سفر الخليقة: وإن الله خلق آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه الحياة، فصار آدم نفسا ناطقا، وغرس الله جنانا في عدن شرقيا، وصير هناك آدم الذي خلقه، وأنبت الله من الأرض كل شجرة، حسن منظرها وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وجعل نهرا يخرج من عدن ليسقي الجنان، ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، اسم أحدها النيل، وهو المحيط بجميع بلد ذويلة الذي فيه الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ وحجارة البلور، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة، واسم النهر الثالث دجلة، وهو يسير في شرقي الموصل، واسم النهر الرابع هو الفرات، فأخذ الله آدم وأنزله في جنان عدن ليفلحه وليحفظه وأمر الله آدم قائلا: من جميع شجر الجنان جائز لك أن تأكل، ومن شجرة معرفة الخير والشر لا تأكل، فإنك في يوم أكلك منها تستحق أن تموت، وقال الله لا خير في بقاء آدم وحده، اصنع له عونا حذاه، فحشر الله من الأرض جميع وحش الصحراء وطير السماء وأتى بها إلى آدم ليريه ما يسميها، فكل ما سمى آدم من نفس حية باسم هو اسمه إلى الآن.

فأسمى آدم أسماء لجميع البهائم وطير السماء وجميع وحش الصحراء ولم يجد آدم عونا حذاه، فأوقع سباتا على آدم لئلا يحس فنام، فاستل إحدى أضلاعه وسد مكانها اللحم، وبنى الله الضلع التي أخذ امرأة، فأتى بها إلى آدم، وقال آدم هذه المرة شاهدت عظما من عظامي، ولحما من لحمي، وينبغي أن تسمى امرأة لأنها من أمري أخذت، ولذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم زوجته، فيصيران كجسد واحد.وكانا جميعا عريانين آدم وزوجته ولا يحتشمان من ذلك.الفصل الثالث: والثعبان صار حكيما من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أيقينا قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه، ولا تدنوا به كيلا تموتا، قال لهما لستما تموتان، إن الله عالم أنكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما وتصيران كالملائكة عارفي الخير والشر بزيادة، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل شهية المنظر، مني للعقل، أخذت من ثمرها فأكلت، وأعطت بعلها فأكل معها، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مآزر، فسمعا صوت الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار، فاستخبأ آدم وزوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان، فنادى الله آدم، وقال له مقررا: أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنان فاتقيت إذ أنا عريان فاستخبأت، قال: من أخبرك أنك عريان؟ أمن الشجرة التي نهيتك عن الأكل منها أكلت؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت، قال الله للمرأة: ماذا صنعت؟ قالت: الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان: إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم وجميع وحش الصحراء وعلى صدرك تسلك وترابا تأكل طول أيام حياتك، وأجعل عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، وهو يشدخ منك الرأس وأنت تلذعه في العقب، وقال للمرأة: لأكثرن مشقتك وحملك، وبمشقة تلدين الأولاد، وإلى بعلك يكون قيادك، وهو يتسلط عليك.وقال لآدم: إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك، وشوكا ودردرا تنبت لك، وتأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلى التراب ترجع، وسمى آدم زوجته حواء لأنها كانت أم كل حي ناطق، وصنع الله لآدم وزوجته ثياب بدن وألبسهما، ثم قال الله، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير والشر، والآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الأرض التي أخذ منها، ولما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة، ولمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحياة.انتهى الفصل من التوراة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية، وأنت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن والتوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة والخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا أضربنا عن الغور في بيانها والبحث عنها لأن الكتاب غير موضوع لذلك.

وأما دخول إبليس الجنة وإغواؤه فيها وهي أولا مقام القرب والنزاهة والطهارة وقد قال تعالى: ﴿لا لغو فيها ولا تأثيم﴾ الطور: 23، وهي ثانيا في السماء وقد قال تعالى خطابا لإبليس حين إبائه عن السجدة لآدم: ﴿فاخرج منها فإنك رجيم﴾ الحجر: 34، وقال تعالى: ﴿فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها﴾ الأعراف: 12.

فالجواب عن الأول كما ربما يقال إن القرآن إنما نفى ما نفى من وقوع اللغو والتأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة وجنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت والارتحال عن دار التكليف، وأما الجنة التي أدخل فيها آدم وزوجته وذلك قبل استقرار الإنسان في دار التكليف وتوجه الأمر والنهي فالقرآن لم ينطق فيه بشيء من ذلك، بل الأمر بالعكس وناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو والتأثيم من الأمور النسبية التي لا تتحقق إلا بعد حلول الإنسان الدنيا وتوجه الأمر والنهي إليه وتلبسه بالتكليف.

والجواب عن الثاني أولا: أن رجوع الضمير في قوله: فاخرج منها، وقوله: فاهبط منها إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا وعدم العهد بها، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة والهبوط منها ببعض العنايات، أو الخروج والهبوط من المنزلة والكرامة.

وثانيا: أنه يجوز أن يكون الأمر بالهبوط والخروج كناية عن النهي عن المقام هناك بين الملائكة، لا عن أصل الكون فيها بالعروج والمرور من غير مقام واستقرار كالملائكة، ويلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من استراق السمع، وقد روي: أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها، ثم لما ولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منعوا من جميع السماوات وخطفوا بالخطفة.

وثالثا: أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال، وإنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات وهي آحاد غير متواترة مع احتمال النقل بالمعنى من الراوي.

وأقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن إبليس ﴿وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين﴾ الأعراف: 19، حيث أتي بلفظة هذه وهي للإشارة من قريب، لكنها لو دلت هاهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى: ﴿ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين﴾ الأعراف: 18، على مثله فيه تعالى.

وفي العيون، عن عبد السلام الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال كل ذلك حق، قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعا، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا، وإن آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشرا أفضل مني؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم وانظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز وجل يا آدم هؤلاء ذريتك.وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولو لا هم ما خلقتك ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، وتسلط على حواء فنظرت إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنته وأهبطهما من جواره إلى الأرض.

أقول: وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب وبعضها أجمل وأوجز.

وهذه الرواية كما ترى سلم ع فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة وشجرة الحسد وأنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها وحسدا وتمنيا منزلة محمد وآله، (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومقتضى المعنى الأول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل إليها ويشتهيها أهل الجنة، ومقتضى الثاني أنها كانت أرفع شأنا من أن ينالها آدم وزوجته كما في رواية أخرى أنها كانت شجرة علم محمد وآله.

وبالجملة لهما معنيان مختلفان، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد وأن آدم (عليه السلام) أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة وهو مقام القرب من الله وفيها الميثاق أن لا يتوجه إلى غيره تعالى وبين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الأرض ونسي الميثاق فلم يجتمع له الأمران وهو منزلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم هداه الله بالاجتباء ونزعه بالتوبة من الدنيا، وألحقه بما كان نسيه من الميثاق فافهم.

وقوله (عليه السلام): فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمني منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الأخلاق الرذيلة.

وبالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إن الله عز وجل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها وذلك قول الله عز وجل: ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما، الحديث.

وبين ما رواه العياشي، في تفسيره عن أحدهما: وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكر ويقول له إبليس: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث.

والوجه فيه واضح.

وفي أمالي الصدوق، عن أبي الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام): أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى ألزم حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى، قال: فما تعمل بقول الله عز وجل: ﴿وعصى آدم ربه فغوى﴾ إلى أن قال: فقال مولانا الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأول كتاب الله عز وجل برأيك فإن الله عز وجل يقول: ﴿وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم﴾.

أما قوله عز وجل في آدم: ﴿وعصى آدم ربه فغوى﴾ فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحا - وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين﴾ الحديث.

أقول: قوله: وكانت المعصية في الجنة إلخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الديني المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد، وإنما موطنه الحياة الأرضية المقدرة لآدم (عليه السلام) بعد الهبوط إلى الأرض، فالمعصية إنما كانت معصية لأمر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التأويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.

وفي العيون، عن علي بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ فقال بلى، قال فما معنى قول الله تعالى: فعصى آدم ربه فغوى؟ قال: إن الله تعالى قال لآدم: اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما - ولا تقربا هذه الشجرة وأشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما وقال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك وقد رأى ما رأى من وبال أمره من لدن نشبت عليه أظفار المنية إلى آخر مواقف يوم القيامة.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له الآية، عن أبي العباس المكبر قال: دخل مولى لامرأة علي بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرون الناس وتقولون: شفاعة محمد، شفاعة محمد فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه، ثم قال: ويحك يا أبا أيمن أغرك أن عف بطنك وفرجك؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمد، ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؟ قال: ما من أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة، ثم قال أبو جعفر: إن لرسول الله الشفاعة في أمته، ولنا شفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثم قال: وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، وإن المؤمن ليشفع لخادمه ويقول: يا رب حق خدمتي كان يقيني الحر والبرد.

أقول: قوله (عليه السلام): ما من أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرة أن هذه الشفاعة العامة غير التي ذكرها بقوله: ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار وقد مر نظير هذا المعنى في رواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن الصادق (عليه السلام).

وفي هذا المعنى روايات أخر روتها العامة والخاصة، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرف: 86، حيث يفيد أن الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، وسيأتي إن شاء الله في قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾ البقرة: 143، أن الأنبياء شهداء وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد عليهم، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء ولو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس.

وفي تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: ﴿ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾.

قال (عليه السلام): لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله فإن الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، والشفاعة له وللأئمة من ولده ثم من بعد ذلك للأنبياء.

وفي الخصال، عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء.

أقول: الظاهر أن المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.

وفي الخصال، في حديث الأربعمائة: وقال (عليه السلام): لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة.

أقول: وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) وشفاعة ذريتها غير الأئمة وشفاعة المؤمنين حتى السقط منهم.

ففي الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط يقوم محبنطئا على باب الجنة فيقال له: ادخل فيقول: لا حتى يدخل أبواي الحديث.

وفي الخصال، عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو وأقول: رب سلم شيعتي ومحبي وأنصاري ومن تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد أجيبت دعوتك، وشفعت في شيعتك، ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت.

وفي الكافي، عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رسالته إلى أصحابه قال (عليه السلام): واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه.

وفي تفسير الفرات، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: قال جابر لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله حدثني بحديث في جدتك فاطمة وساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): فوالله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفر (عليه السلام): هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.

أقول: تمسكه (عليه السلام) بقوله تعالى: فما لنا من شافعين يدل على استشعار دلالة الآيات على وقوع الشفاعة وقد تمسك بها النافون للشفاعة على نفيها وقد اتضح مما قدمناه في قوله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرد النفي لكان حق الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع ولا صديق حميم، فالإتيان في حيز النفي بصيغة الجمع يدل على وقوع شفاعة من جماعة وعدم نفعها في حقهم، مضافا إلى أن قوله تعالى: فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين بعد قوله: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم المسوق للتحسر تمن واقع في حيز التحسر ومن المعلوم أن التمني في حيز التحسر إنما يكون بما يتضمن ما فقده ويشتمل على ما تحسر عليه فيكون معنى قولهم: فلو أن لنا كرة معناه يا ليتنا نرد فنكون من المؤمنين حتى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالة على وقوع الشفاعة.

وفي التوحيد، عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر، والله تعالى يقول: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال (عليه السلام): ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك وندم عليه، وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كفى بالندم توبة، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) من سرته حسنة وساءته سيئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما والله تعالى ذكره يقول: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، فقيل له: يا بن رسول الله وكيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرا والمصر لا يغفر له، لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وأما قول الله عز وجل: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.

أقول: قوله (عليه السلام) وكان ظالما، فيه تعريف الظالم يوم القيامة وإشارة إلى ما عرفه به القرآن حيث يقول: ﴿فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون﴾ الأعراف: 44،45 وهو الذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسف على فوت أوامر الله تعالى ولا يسوؤه اقتحام محارمه إما بجحد جميع المعارف الحقة والتعاليم.

من يحلف بالله كاذبا فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما اجتباه الله وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عز وجل: ﴿وعصى آدم ربه فغوى - ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى﴾ وقال عز وجل: ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحا - وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين﴾ الحديث.

أقول: قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله: والحديث عجيب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت (عليهم السلام).

وما أعجبه منه إلا ما شاهده من اشتماله على تنزيه الأنبياء من غير أن يمعن النظر في الأصول المأخوذة فيه، فما نقله من جوابه (عليه السلام) في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها.

على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى: ﴿ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا﴾، إلى مثل قولنا: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نهاكما عن غيرها وما نهاكما عن غيرها إلا أن تكونا إلخ.

على أن قوله تعالى ﴿ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين﴾، وقوله تعالى ﴿قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى﴾ الآية، يدل على أن إبليس إنما كان يحرضهما على الأكل من شخص الشجرة المنهية تطميعا في الخلود والملك الذي حجب عنه بالنهي، على أن الرجل أعني علي بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق، فالرواية لا تخلو عن شيء وإن كان بعض هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا.

وروى الصدوق، عن الباقر (عليه السلام) عن آبائه عن علي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: إنما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما.

وفي تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر: كم لبث آدم وزوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك، فوالله ما استقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك، حتى عصى الله تعالى، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس وصيرا بفناء الجنة حتى أصبحا فبدت لهما سوآتهما وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة فاستحيا آدم فخضع وقال: ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال الله لهما اهبطا من سماواتي إلى الأرض، فإنه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سماواتي.

أقول: ويمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما وأنه كان أولا من الجنة إلى فنائها ومن فنائها إلى الأرض من تكرر الأمر بالهبوط في الآية مع كونه أمرا تكوينيا غير قابل التخلف، وكذا من تغيير السياق في قوله تعالى: ﴿وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة- إلى أن قال- ولا تقربا هذه الشجرة﴾ الآية، وقوله تعالى: وناديهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة الآية، حيث عبر في الأول بالقول وبالإشارة القريبة وفي الثاني بالنداء والإشارة البعيدة، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل أضلاع آدم كما اشتملت عليه التوراة، والروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجيء في البحث عن خلقة آدم، وإن أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة آدم مما يلي أضلاعه هذا، وأما ساعات مكثه في الجنة، وأنها ستة أو سبعة فالأمر فيها هين فإنما هو تقريب.

وفي الكافي، عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات، قال: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.

أقول: وروى هذا المعنى الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم، وعن طرق أهل السنة والجماعة أيضا ما يقرب من ذلك، وربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة.

وقال الكليني في الكافي، وفي رواية أخرى: في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

أقول: وروى هذا المعنى أيضا الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم، وروي ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة والجماعة أيضا كما رواه في الدر المنثور، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فأوحى الله إليه، ومن محمد؟ قال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك.

أقول: وهذا المعنى وإن كان بعيدا عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن إشباع النظر والتدبر فيها ربما قرب ذلك تقريبا، إذ قوله: فتلقى آدم، يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربه، ففيه علم سابق على التوبة، وقد كان (عليه السلام) تعلم من ربه الأسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم ومعصية لا محالة ودواء كل داء وإلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: يفسد فيها ويسفك الدماء شيئا ولم يقابلهم بشيء دون أن علم آدم الأسماء كلها ففيه إصلاح كل فاسد، وقد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء، وأنها موجودات عالية مغيبة في غيب السماوات والأرض، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتم كمال لمستكمل إلا ببركاتها وقد ورد في بعض الأخبار أنه رأى أشباح أهل البيت وأنوارهم حين علم الأسماء، وورد أنه رآها حين أخرج الله ذريته من ظهره، وورد أيضا أنه رآها وهو في الجنة فراجع والله الهادي.

وقد أبهم الله أمر هذه الكلمات في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات الآية حيث نكرها، وورد في القرآن: إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحا في قوله: ﴿بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم﴾ آل عمران: 40.

وأما ما ذكره بعض المفسرين: أن الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الأعراف بقوله: ﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ الآية، ففيه: أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الأرض، قال تعالى: ﴿وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو﴾ إلى أن قال: ﴿فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه﴾ الآيات وهذه الكلمات تكلم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنة كما في سورة الأعراف، قال تعالى: ﴿وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة﴾ إلى أن قال: ﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا﴾ إلى أن قال: ﴿قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو﴾ الآيات، بل الظاهر أن قولهما: ربنا ظلمنا أنفسنا، تذلل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأن الأمر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأن له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران.

وفي تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن موسى سأل ربه أن يجمع بينه وبين آدم، فجمع فقال له موسى: يا أبت أ لم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك الملائكة وأمرك أن لا تأكل من الشجرة؟ فلم عصيته؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية؟ قال: بثلاثين ألف سنة قال: فقال: هو ذاك، قال الصادق (عليه السلام) فحجج آدم موسى.

أقول: وروى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي العلل، عن الباقر (عليه السلام): والله لقد خلق الله آدم للدنيا، وأسكنه الجنة ليعصيه فيرده إلى ما خلقه له.

أقول: وقد مر رواية العياشي عن الصادق (عليه السلام): في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى.

وفي الاحتجاج، في احتجاج علي مع الشامي حين سأله: عن أكرم واد على وجه الأرض، فقال (عليه السلام): واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء.

أقول: وتقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة وقد مر بعضها ويمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولا بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة وليس بنزولين عرضيين هذا.

وفي الدر المنثور، عن الطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت آدم أنبيا كان؟ قال: نعم كان نبيا رسولا، كلمه الله قبلا، قال له: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.

أقول: وروى أهل السنة والجماعة قريبا من هذا المعنى بعدة طرق.