الآية 34

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿34﴾

بيان:

قد عرفت أن قوله تعالى: وما كنتم تكتمون، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله: أبى واستكبر وكان من الكافرين حيث لم يعبر أبى واستكبر وكفر، وعرفت أيضا أن قصة السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى: إني أعلم ما لا تعلمون، وقوله: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فقوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الإنسان وموقعه وكيفية نزوله إلى الدنيا وما يئول إليه أمره من سعادة وشقاء، فلا يهم من قصة السجدة هاهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة وهبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى الإيجاز، ولعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا، بعد قوله: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل.

وعلى ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميز منهم، ويمكن أن يكون له وجه آخر، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده أيضا أمرهم ثانيا بالسجود، ويوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة، حيث إنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن أن يسود على كل شيء حتى عليهم، ويدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.

وقوله تعالى: ﴿اسجدوا لآدم﴾ يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية وتكرمة للغير وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، ونظيره قوله تعالى في قصة يوسف (عليه السلام) ﴿ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا قال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا﴾ يوسف: 100، وملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو، عبدية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد، والمشي خلفه حينما يمشي وغير ذلك، وكلما زادت الصلاحية المزبورة ازدادت العبادة تعينا للعبودية، وأوضح الأفعال في الدلالة على عز المولوية وذل العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، ووضع الجبهة عليها، وأما ما ربما ظنه بعض: من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشيء، فإن الذاتي لا يختلف.

ولا يتخلف وهذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم والعبادة كالسخرية والاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه وهو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، وإذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي والممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى، وأما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية، بل لمجرد التعارف والتحية فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكن الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، والمنع عن استعماله في غير مورده تعالى، وإن لم يقصد به إلا التحية والتكرمة فقط، وأما المنع عن كل ما فيه إظهار الإخلاص لله، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا، وسنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.

بحث روائي:

في تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه.فقال الله: أ لم أقل لكم إني أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر بني الجان وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش.

وفي التفسير، أيضا عن علي بن الحسين (عليهما السلام): ما في معناه وفيه: فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، وأنها كانت عصابة من الملائكة وهم الذين كانوا حول العرش، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.

أقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك إلى قوله: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

وسيجيء أن العرش هو العلم، وبذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فافهم ذلك، وعلى هذا كان المراد من قوله تعالى: وكان من الكافرين، قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الإنسان.

قال تعالى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم﴾ الحجر: 27، وعلى هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقته، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، ولا منافاة بين هذه الرواية وما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الإباء عن الخضوع لآدم، والاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.

وفي قصص الأنبياء، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سجدت الملائكة ووضعوا أجباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى.

وفي تحف العقول، قال: إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم.

وفي الاحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه: أن يهوديا سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابلة معجزات الأنبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي: لقد كان ذلك، ولكن أسجد الله لآدم ملائكته، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل وعلا صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنون بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهودي.

وفي تفسير القمي، خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر ما خلقت؟ فقال: العالم ﴿فقال إبليس لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته﴾ إلى أن قال: ثم قال الله تعالى للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.

وفي البحار، عن قصص الأنبياء، عن الصادق (عليه السلام) قال: أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال الله جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد وقال: إن إبليس رن أربع رنات: أولهن يوم لعن، ويوم أهبط إلى الأرض، ويوم بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين أهبط من الجنة، وقال في قوله تعالى: ﴿فبدت لهما سوآتهما﴾ وكانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، وقال الشجرة التي نهي عنها آدم هي السنبلة.

أقول: وفي الروايات - وهي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة.