الآيات 1 - 4

﴿قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدٌ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)﴾

التّفسير:

أحدٌ - صَمدٌ:

جواباً عن الأسئلة المكررة التي طرحت من قبل الأفراد والجماعات بشأن أوصاف الله سبحانه تقول الآية:

(قل هو الله أحد). (1)

الضمير (هو) في الآية للمفرد الغائب ويحكي عن مفهوم مبهم، وهو في الواقع يرمز إلى أن ذاتة المقدّسة في نهاية الخفاء، ولا تنالها أفكار الإنسان المحدودة وإن كانت آثاره أظهر من أي شيء آخر،كما ورد في قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحق). (2)

ثمّ بعد الضمير تكشف الآية عن هذه الحقيقة الغامضة وتقول: (الله أحد).

و (قل) في الآية تعني أَنْ أَظهر هذه الحقيقة وبيّنها.

عن الإمام محمّد بن علي الباقر (ع) قال بعد بيان معنى "قل" في الآية (وهو الذي ذكرناه) : " إن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك.

فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار.

فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه وندركه ولا نأله فيه.

فانزل الله تبارك وتعالى: (قل هو الله أحد)، فالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواس". (3)

وعن أمير المؤمنين علي (ع) قال: "رأيت الخضر (ع) في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئاً أُنصر به على الأعداء.

فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلاّ هو.

فلمّا أصبحت قصصتها على رسول الله (ص) فقال لي: يا علي عُلمت الاسم الأعظم". (4)

وكان علي (ع) يذكر الله تعالى بهذا الذكر يوم صفين.

فقال له عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: "اسم الله الأعظم وعماد التوحيد...". (5)

"الله" اسم علم للباري سبحانه وتعالى.

ومفهوم كلام الإمام علي (ع) أن جميع صفات الجلال والجمال الإِلهية أُشير إليها بهذه الكلمة.

ومن هنا سميت باسم الله الأعظم.

هذا الاسم لا يطلق على غير الله، بينما أسماء الله الأُخرى تشير عادة إلى واحدة من صفات جماله وجلاله مثل: العالم والخالق والرازق، وتطلق غالباً على غيره أيضاً مثل: (رحيم، وكريم، وعالم، وقادر...).

ولفظ الجلالة مشتق من معنى وصفي.

قيل من "وله" أي تحيّر، لأنّ العقول تحير في ذاته المقدّسة.

وفي ذلك ورد عن أميرالمؤمنين علي (ع) قال: "الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق، ويؤله إليه، والله هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات". (6)

وقيل: إن لفظ الجلالة مشتق من "آله" بمعنى عبد، والإِله: هو المعبود.

حذفت همزته وادخل عليه الألف واللام فُخص بالباري تعالى.

ومهما يكن الأصل المشتق منه لفظ الجلالة، فهو اسم يختص به سبحانه ويعني الذات الجامعة لكل الأوصاف الكمالية، والخالية من كل عيب ونقص.

هذا الاسم المقدّس تكرر ما يقارب من "ألف مرّة" في القرآن الكريم، ولم يبلغه أي اسم من الأسماء المقدّسة في مقدار تكراره.

وهو اسم ينير القلب، ويبعث في الإِنسان الطاقة والطمأنينة، ويغمر وجوده صفاء ونور.

"أحد": من الواحدة، ولذلك قال بعضهم: أحد وواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الذي لا نظير له في العلم والقدرة والرحمانية والرحيمية، وفي كل الجهات.

وقيل: إنّ بين "أحد" و"واحد" فرق هو إن "أحد" تطلق على الذات التي لا تقبل الكثرة لا في الخارج ولا في الذهن.

ولذلك لا تقبل العدّ ولا تدخل في زمرة الأعداد، خلافاً للواحد الذي له ثان وثالث، في الخارج أو في الذهن.

ولذلك نقول: لم يأت أحد.

للدلالة على عدم مجيء أي إنسان.

وإذا قلنا: لم يأت واحد فمن الممكن أن يكون قد جاء اثنان أو أكثر. (7)

ولكن هذا الإِختلاف لا ينسجم كثيراً مع ما جاء في القرآن الكريم والرّوايات.

وقيل: في "أحد" إشارة إلى بساطة ذات الله مقابل الأجزاء التركيبية

الخارجية أو العقلية (الجنس، الفصل، والماهية، والوجود).

بينما الواحد إشارة إلى وحدة ذاته مقابل أنواع الكثرة الخارجية.

وفي رواية عن الإِمام الباقر (ع) قال: "الأحد المتفرد، والأحد والواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الذي لا نظير له، والتوحيد الإِقرار بالوحدة وهو الإِنفراد".

وفي ذيل الرّواية هذه جاء "إن بناء العدد من الواحد، وليس الواحد من العدد.

لأن العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين.

فمعنى قوله: الله أحد.

أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه والإِحاطة بكيفيته، فرد بإلهيته، متعال عن صفات خلقه". (8)

وفي القرآن الكريم "واحد" و"أحد" تطلقان معاً على ذات الله سبحانه.

ومن الرائع في هذا المجال ما جاء في كتاب التوحيد للصدوق: أنّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول: إن الله واحد؟ فحمل النّاس عليه وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب (أي تشتت الخاطر) ؟ فقال: أمير المؤمنين (ع) : "دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم.

ثمّ قال: يا أعرابي، إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام.

فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّوجلّ، ووجهان يثبتان فيه.

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد.

أمّا ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة؟ وقول القائل: هو واحد من النّاس يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز (قوله على اللّه) لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا.

وقول القائل: إنّه عزّوجلّ أحديّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّوجلّ" (9).

وباختصار: اللّه أحد وواحد لا بمعنى الواحد العددي أو النوعي أو الجنسي بل بمعنى الوحدة الذاتية.

بعبارة أوضح: وحدانيته تعني عدم وجود المثل والشبيه والنظير.

الدليل على ذلك واضح: فهو ذات غير متناهية من كلّ جهة، ومن المسلم أنّه لا يمكن تصور ذاتين غير متناهيتين من كلّ جهة.

إذ لو كان ثمّة ذاتان، لكانت كلتاهما محدودتين، ولما كان لكل واحدة منهما كمالات الأخرى.

(تأمل بدقّة).

(اللّهُ الصّمد) وهو وصف اخر لذاته المقدّسة.

وذكر المفسّرون واللغويون معاني كثيرة لكلمة "صمد".

الراغب في المفردات يقول: الصمد، هو السيد الذي يُصمد إليه في الأمر، أي يقصد إليه.

وقيل: الصمد الذي ليس بأجوف.

وفي معجم مقاييس اللغة، الصمد له أصلان: أحدهما القصد، والآخر: الصلابة في الشيء... واللّه جلّ ثناؤه الصمد; لأنّه يَصمِدُ إليه عباده بالدعاء والطلب (10).

وقد يكون هذان الأصلان اللغويان هما أساس ما ذكر من معاني لصمد مثل: الكبير الذي هو في منتهى العظمة، ومن يقصد إليه النّاس بحوائجهم، ومن لا يوجد أسمى منه، ومن هو باق بعد فناء الخلق.

وعن الإمام الحسين بن علي (ع) أنّه ذكر لكلمة "صمد" خمسة معان هي:

الصمد: الذي لا جوف له.

الصمد: الذي قد انتهى سؤدده (أي في غاية السؤدد)

الصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب.

الصمد: الذي لا ينام.

الصمد: الذي لم يزل ولا يزال.

وعن محمّد بن الحنفية (رض) قال: الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره.

وقال غيره: الصمد، المتعالي عن الكون والفساد (11).

وعن الإمام علي بن الحسين (ع) قال: "الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤوده حفظ شيء، ولا يعزب عنه شيء.

(أي لا يثقل عليه حفظ شيء ولا يخفى عنه شيء) " (12).

وذهب بعضهم إلى أنّ "الصمد" هو الذي يقول للشيء كن فيكون.

وفي الرّواية أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (ع) يسألونه عن الصمد.

فكتب إليهم: "بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير علم.

فقد سمعت جدي رسول اللّه (ص) يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النّار; وأنّه سبحانه قد فسّر الصمد فقال: اللّه أحد، اللّه الصمد، ثمّ فسّره فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد..." (13).

وعن ابن الحنفية قال: قال علي (ع) تأويل الصمد: "لا اسم ولا جسم، ولا مثل ولا شبه، ولا صورة ولا تمثال، ولا حدّ ولا حدود، ولا موضع ولا مكان، ولا كيف ولا أين، ولا هنا ولا ثمّة، ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قعود، ولا سكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني، ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع، ولا على لون، ولا على خطر قلب، ولا على شمّ رائحة، منفي عنه هذه الأشياء". (14)

هذه الرّواية توضح أنّ "الصمد" له مغهوم واسع ينفي كلّ صفات المخلوقين عن ساحته المقدّسة، لأنّ الأسماء المشخصة والمحدودة وكذلك الجسمية واللون والرائحة والمكان والسكون والحركة والكيفية والحد والحدود وأمثالها كلها من صفات الممكنات والمخلوقات، بل من أوصاف عالم المادة، واللّه سبحانه منزّه منها جميعاً.

في العلوم الحديثة اتضح أنّ كلّ مادة في العالم تتكون من ذرات.

وكلّ ذرة تتكون من نواة تدور حولها الإلكترونات.

وبين النواة والإلكترونات مسافة كبيرة نسبياً.

ولو اُزيلت هذه الفواصل لصغر حجم الأجسام إلى حدّ كبير مدهش.

ولو اُزيلت الفواصل الذرية في مواد جسم الإنسان مثلاً، وكثفت هذه المواد، لصَغَر جسم الإنسان إلى درجة عدم إمكان رؤيته بالعين المجرّدة، مع احتفاظه بالوزن الأصلي!!.

وبعضهم استفاد من هذه الحقائق العلمية ليستنتج أنّ الآية تنفي عن اللّه كلّ ألوان الجسمانية، لأنّ واحداً من معاني "الصمد" هو الذي لا جوف له، ولما كانت كل الأجسام تتكون من ذرات، والذرات جوفاء، فالصمد نفي الجسمية عن ربّ العالمين.

وبذلك تكون الآية من المعاجز العلمية في القرآن.

ولكن، يجب أن لا ننسى المعنى الأصلي لكلمة "صمد" وهو السيد الذي يقصده النّاس بحوائجهم، وهو كامل ومملوء من كلّ الجهات، وبقية المعاني والتفاسير الاُخرى المذكورة للكلمة قد تعدو إلى نفس هذا المعنى.

الآية التالية تردّ على معتقدات اليهود والنصارى ومشركي العرب وتقول: (لم يلد ولم يولد).

إنّها ترد على المؤمنين بالتثليث (الربّ الأب، والربّ الابن، وروح القدس).

النصارى تعتقد أنّ المسيح ابن اللّه، واليهود ذهبت إلى أنّ العزير ابن اللّه: (وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون) (15).

ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات اللّه: (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) (16).

ويستفاد من بعض الرّوايات أن الولادة في قوله: (لم يلد ولم يولد) لها معنى واسع يشمل كلّ أنواع خروج الأشياء المادية واللطيفة منه، أو خروج ذاته المقدّسة من أشياء مادية أو لطيفة.

وفي نفس الرسالة التي كتبها الإمام الحسين بن علي (ع) إلى أهل البصرة يجيبهم عن تساؤلهم بشأن معنى الصمد قال في تفسير: (لم يلد ولم يولد) : " (لم يلد) لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البداوات (الحالات المختلفة) كالسنة والنوم، والخطرة والهم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف، (ولم يولد) لم يتولد من شيء، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الاُذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، وكالنّار من الحجر..." (17).

بناء على هذه الرّواية، للتولد معنى واسع يشمل خروج وتفرع كلّ شيء من شيء، وهذا في الحقيقة المعنى الثّاني للآية.

ومعناها الأوّل هو المعنى الظاهر الذي ينفي أن يكون الباري سبحانه من أب أو أن يكون له ابن أضف إلى ذلك، المعنى الثّاني قابل للفهم عند تحليل المعنى الأوّل.

لأنّ اللّه سبحانه إنّما لم يكن له ولد لأنّه منزّه عن عوارض المادة، وهذا المعنى يصدق بشأن سائر عوارض المادة الاُخرى.

ثمّ تبلغ الآية الأخيرة غاية الكمال في أوصاف اللّه تعالى. (ولم يكن له كفواً أحد) (18) أي ليس له شبيه ومثل اطلاقاً.

"الكفو": هوالكفء في المقام والمنزلة والقدر.

ثمّ اطلقت الكلمة على كلّ شبيه ومثيل.

استناداً إلى هذه الآية، اللّه سبحانه منزّه عن عوارض المخلوقين وصفات الموجودات وكلّ نقص ومحدودية.

وهذا هو التوحيد الذاتي والصفاتي، مقابل التوحيد العددي والنوعي الذي جاء في بداية تفسير هذه السّورة.

من هنا فهو تبارك وتعالى لا شبيه له في ذاته، ولانظير له في صفاته، ولا مثيل له في أفعاله، وهو متفرد لا نظير له من كلّ الجهات.

أمير المؤمنين علي (ع) يقول في إحدى خطب نهج البلاغة: "لم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً... ولا كفء له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه" (19).

هذا التّفسير الرائع يكشف عن أسمى معاني التوحيد وأدقّها.

سلا اللّه عليك يا أمير المؤمنين.


1- قيل "هو" في الآية ضمير الشأن، والله مبتدأ. والأفضل أن نعتبر "هو" إشارة إلى ذاته المقدّسة، وقد كانت مجهولة لدى السائل، وتكون بذلك "هو" مبتدأ و"الله" خبراً و"أحد" خبر بعد الخبر.

2- فصلت، الآية 53.

3- بحار الأنوار، ج3، ص221، الحديث 12. بتلخيص.

4- المصدر السابق.

5- المصدر السابق.

6- المصدر السابق.

7- الميزان، ج20، ص543.

8- بحار الأنوار، ج3، ص222.

9- بحار الأنوار، ج3، ص206، الحديث 1.

10- معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج3، ص 39.

11- بحار الأنوار، ج3، ص223.

12- المصدر السابق.

13- مجمع البيان، ج10، ص565.

14- بحار الأنوار، ج3، ص230.، الحديث21.

15- التوبة، الآية 30.

16- الأنعام، الآية 100.

17- بحار الأنوار، ج3، ص224.

18- "أحد" اسم كان و"كفواً" خبرها.

19- نهج البلاغة، الخطبة 186.