الآيات 1 - 3
﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـكَ الكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)﴾
التّفسير:
اعطيناك الخير العميم، الحديث في كلّ هذه السّورة موجّه إلى النّبي الأكرم (ص) (مثل سورة والضحى، وسورة ألم نشرح)، وأحد أهداف هذه السور تسلية قلب النّبي إزاء ركام الأحداث المؤلمة وطعون الأعداء.
تقول له أوّلاً: (إنّا أعطيناك الكوثر).
و"الكوثر": من الكثرة، وبمعنى الخير الكثير، ويسمى الفرد السخي كوثراً.
وفي معنى "الكوثر" ورد أنّه لما نزلت سورة الكوثر صعد رسول للّه (ص) المنبر فقرأها على النّاس.
فلما نزل قالوا: يارسول اللّه ما هذا الذي أعطاك اللّه؟ قال: "نهر في الجنّة أشدّ بياضاً من اللبن، وأشدّ استقامة من القدح، حافتاه قباب الدر والياقوت...". (1)
وعن الإمام الصادق (ع) في معنى الكوثر قال: "نهر في الجنّة اعطاه اللّه نبيّه عوضاً من ابنه" (2).
وقيل: هو حوض النّبي الذي يكثر النّاس عليه يوم القيامة.
وقيل: هو النّبوة والكتاب، وقيل: هو القرآن.
وقيل: كثرة الأصحاب والأشياع.
وقيل: هو كثرة النسل والذرية وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة (ع) حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم، وروي عن الصادق (ع) أنّه الشفاعة (3)
الفخر الرازي نقل خمسة عشر رأياً في تفسير الكوثر، ولكن هذه التفاسير تبيّن غالباً المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو "الخير الكثير".
نعلم أنّ اللّه سبحانه أعطى رسوله الأكرم (ص) نعماً كثيرة، منها ما ذكره المفسّرون في معنى الكوثر وغيرها كثير، وكلّها يمكن أن تكون تفسيراً مصداقياً للآية.
على أي حال، كلّ الهبات الإلهية لرسول اللّه (ص) في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات، بل حتى علماء اُمته الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كلّ زمان ومكان.
ولا ننسى أنّ كلام اللّه سبحانه تعالى لنبيّه في هذه السّورة كان قبل ظهور الخير الكثير.
فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد، إخبار إعجازي يشكل دليلاً آخر على صدق دعوة الرسول الأعظم (ص).
هذا الخير الكثير يستوجب شكراً عظيماً، وإنّ كان المخلوق لا يستطيع أداء حقّ نعمة الخالق أبداً.
إذ أنّ توفيق الشكر نعمة اُخرى منه سبحانه.
ولذا يقول سبحانه لنبيّه: (فصل لربّك وانحر).
نعم، واهب النعم هو سبحانه.
لذلك ليس ثمّة معنى للعبادات إن كانت لغيره.
خاصّة وإن كلمة (ربّ) تعني استمرار النعمة والتدبير والربوبية.
بعبارة اُخرى، العبادات، سواء كانت صلاة أم نحراً، تختص بالربّ وولي النعمة، وهو اللّه سبحانه وتعالى.
والأمر بالصلاة والنحر للربّ مقابل ما كان يفعله المشركون من سجودهم للأصنام ونحرهم لها، بينما كانوا يرون نعمهم من اللّه.
وتعبير (لربّك) دليل واضح على وجوب قصد القربة في العبادات.
كثير من المفسّرين يعتقدون أنّ الآية تقصد صلاة عيد الأضحى والنحر فيه.
لكن مفهوم الآية عام وواسع.
وصلاة عيد الأضحى والنحر فيه من مصاديق الآية البارزة.
عبارة "وانحر" من النحر، وهو ذبح الناقة.
وقد يكون ذلك لأهمية الناقة بين أنواع الأضاحي.
والمسلمون الأوائل كانوا يعتزون بالإبل، ونحرها يحتاج إلى إيثار كثير.
وذكر للآية المباركة تفسيران آخران.
1 - المقصود من كلمة (وانحر) أن استقبل القبلة في الصلاة.
لأنّ النحر أعلى الصدر، والعرب تستعمل الكلمة لإستقبال الشيء فيقولون: منازلنا تتناحر، أي تتقابل.
2 - المقصود رفع اليد عند النحر لدى التكبير ولذا ورد في الرّواية أنّه لما نزلت هذه السّورة قال النّبي6 لجبريل: "ما هذه النحيرة (4) التي أمرني بها ربّي؟" قال: "ليست بنحيرة، ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت، فإنّه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع.
فإن لكلّ شيء زينة، وإنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة" (5).
وروي عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية أنّه أشار بيده وقال: "هكذا".
أي استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة (رفع يديه جاعلاً كفه مقابل القبلة) (6).
والتّفسير الأوّل أنسب، لأنّ المقصود هو الردّ على أعمال المشركين الذين كانوا يعبدون وينحرون لغير اللّه، ولكن لا مانع من الجمع بين هذه المعاني، خاصّة وقد وردت بشأن رفع اليد عند التكبير روايات كثيرة في كتب الشيعة والسنة.
وبذلك يكون للآية مفهوم جامع يشمل هذه المعاني أيضاً.
وفي آخر آية يقول اللّه سبحانه لنبيّه ردّاً على ما وَصَمه به المشركون: (إنّ شانئك هو الأبتر).
"الشانيء" هو المعادي من "الشنان" - على وزن ضربان - وهو العداء والحقد.
و"أبتر" في الأصل هو الحيوان المقطوع الذنب (7).
وصدر هذا التعبير من أعداء الإسلام لإنتهاك الحرمة والإهانة.
وكلمة (شانيء) فيها ايحاء بأنّ عدوك لا يراعي أية حرمة ولا يلتزم بأي أدب، أي أنّ عداوته مقرونة بالفظاظة والدناءة.
والقرآن يقول لهؤلاء الأعداء في الواقع: إنّكم أنتم تحملون صفة الأبتر لا رسول اللّه.
من جهة اُخرى، كما ذكرنا في سبب نزول السّورة، قريش كانت تترقب انتهاء الرسالة بوفاة النّبي (ص) لأنّهم كانوا يقولون: إنّ النّبي بلا عقب.
والقرآن يقول للنّبي: "لست بلا عقب، بل شانئك بلا عقب".
1- مجمع البيان، ج10، ص549.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- "النحيرة" آخر الشهر، لأنّ الإنسان يستقبل فيه الشهر الجديد. وسؤال النّبي لجبريل عن هذا الإستقبال للشهر الجديد، لذلك قال له جبريل: ليست بنحيرة.
5- مجمع البيان، ج10، ص550.
6- المصدر السابق.
7- مجمع البيان، ج1، ص548.