الآيات 1 - 7
﴿أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُ الْيَتِيمَ2 وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)﴾
التّفسير:
إنكار المعاد وآثاره المشؤومة:
هذه السّورة المباركة تبدأ بسؤال موجّه للنّبي (ص) عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول: (أرأيت الذي يكذب بالدين).
وتجيب عن السؤال:
(فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين)
"الدين" هنا "الجزاء" أو يوم الجزاء، وإنكار يوم الجزاء له عواقبه الوخيمة وانعكاسات على أعمال الإنسان.
وفي هذه السّورة ذكرت خمسة آثار لهذا الإنكار منها: "طرد اليتيم، وعدم الحثّ على إطعام المسكين".
أي إنّ الشخص المنكر للمعاد لا يطعم المساكين، ولا يدعو الآخرين إلى إطعامهم.
واحتمل بعض أن يكون المقصود من الدين هنا القرآن أو الإسلام.
والمعنى الأوّل أنسب.
ونظيره ورد في قوله تعالى: (كلاّ بل تكذبون بالدين) (1) وقوله سبحانه: (فما يكذّبك بعد بالدين) (2).
وفي هذه الآيات ورد "الدين" بمعنى يوم الجزاء أيضاً بقرينة الآيات الأُخرى.
"يدع" أي يدفع دفعاً شديداً، ويطرد بخشونة.
و"يحضّ" أي يحرضّ ويرغب الآخرين على شيء، والحضّ مثل الحثّ، إلاّ أن الحث - كما يقول الراغب - يكون بسوق وسير، والحضّ لا يكون بذلك.
وصيغة المضارع في الفعلين (يدع) و (يحضّ) تدل على استمرارهم على مثل هذا العمل في حق الأيتام والمساكين.
ويلاحظ هنا بشأن الأيتام، أنّ العواطف الإنسانية تجاه هؤلاء أكثر أهمية من إطعامهم وإشباعهم.
لأنّ آلام اليتيم تأتي من فقدانه مصدر العاطفة والغذاء الروحي والتغذية الجسمية تأتي في المرحلة التالية.
ومرّة اُخرى نرى القرآن يتحدث عن إطعام المساكين، وهو من أهم أعمال البرّ، وفي الآية إشارة إلى أنّك إذا لم تستطع إطعام المساكين، فشجّع الآخرين على ذلك.
الفاء في "فذلك" لها معنى السببية، وتعني أنّ التكذيب بالمعاد هو الذي يسبب هذه الإنحرافات.
والحقّ أنّ المؤمن بالمعاد وبتلك المحكمة الإلهية الكبرى وبالحساب والجزاء يوم القيامة، إيماناً راسخاً تظهر عليه الآثار الإيجابية لهذا الإيمان في كلّ أعماله.
ولكن فاقد الإيمان والمكذب بيوم الدين تظهر آثار التكذيب عليه متمثلة في الجرأة على ارتكاب الذنوب والجرائم بشكل محسوس.
ويتواصل وصف هؤلاء المكذبين بالدين فتقول الآيات التالية: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون).
لا يقيمون للصلاة وزناً، ولا يهتمون بأوقاتها، ولا يراعون أركانها وشروطها وآدابها.
"ساهون" من السهو، وهو في الأصل الخطأ الذي يصدر من الإنسان عن غفلة، سواء كان مقصراً في المقدمات أم لم يكن.
في الحالة الاُولى لا يكون الساهي معذوراً، وفي الحالة الثّانية معذور.
والمقصود في الآية السهو المقرون بالتقصير.
ويلاحظ أنّ الآية لم تقل "في صلاتهم ساهون"، لأنّ السهو في الصلاة يعرض لكلّ فرد، ولكنّها قالت: "عن صلاتهم ساهون".
فهم يسهون عن الصلاة بأجمعها.
واضح أنّ هذه الحالة لو إتفق وقوعها مرّة أو مرات لأمكن أن يكون ذلك عن قصور.
لكن الذي يسهو عن صلاته دائماً فهو المهمل لصلاته، لعدم إيمانه بها وإذا صلى أحياناً فلخوف من ألسن النّاس وأمثال ذلك.
إضافة لما ذكرناه من معاني لكلمة "ساهون" ذكر المفسّرون معاني اُخرى من ذلك تأخير الصلاة عن وقت فضيلتها.
أو إشارة إلى المنافقين الذين ما كانوا يؤمنون بثواب الصلاة ولا بعقاب تركها.
أو المقصود الذين يراؤون في صلاتهم (بينما جاء ذكر هذا المعنى في الآية التالية).
الجمع بين هذه التفاسير ممكن طبعاً، وإنّ كان التّفسير الأوّل أنسب.
على أي حال، حين يكون الساهون عن الصلاة مستحقين للويل، فما بالك بتاركي الصلاة؟!
الصفة الرابعة والخامسة للمكذبين بالدين تذكرها الآيتان الأخيرتان. (الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون).
من المؤكّد أنّ أحد عوامل التظاهر والرياء عدم الإيمان بيوم القيامة، وعدم الإنشداء بطلب الثواب الإلهي.
وإلاّ كيف يمكن للإنسان أن يترك مثوبة اللّه ويتجه إلى النّاس ليتزلف إليهم؟!
"الماعون" من "المَعن" وهو الشيء القليل.
وكثير من المفسّرين قالوا إنّ المقصود من "الماعون" الاشياء البسيطة التي يستعيرها أو يقتنيها النّاس وخاصّة الجيران من بعضهم، مثل حفنة الملح، والماء، والنّار (الثقاب)، والأواني وأمثالها.
واضح أنّ الذي يبخل في إعطاء مثل هذه الاشياء إلى غيره إنسان دنيء عديم الإيمان.
أي إنّه بخيل إلى درجة الإباء عن إعطاء مثل هذه الأشياء.
بينما يمكن لهذه الأشياء البسيطة أن تسدّ الإحتياجات الكبيرة.
ومنعها يؤدي إلى بروز مشاكل كثيرة في حياة الأفراد.
وقيل: إنّ الماعون يعني الزكاة.
لأنّ الزكاة تشكل نسبة قليلة من أصل المال قد تبلغ عشرة بالمائة وأحياناً خمسة بالمائة وأحياناً اثنين ونصف بالمائة.
منع الزكاة طبعاً من أفظع السيئات، لأنّ الزكاة تحل كثيراً من مشاكل المجتمع الإقتصادية.
عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) في تفسير الماعون قال: "هو القرض يقرضه، والمتاع يعيره، والمعروف يصنعه" (3).
وفي رواية اُخرى عن الصادق (ع) فسّر الماعون بنفس المعنى السابق.
فسأله سائل قال: لنا جيراناً إذا أعرناهم متاعاً كسروه وأفسدوه فعلينا جناح أن نمنعهم؟
فقال: "لا ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك" (4).
وفي معنى الماعون ذكرت احتمالات اُخرى ذكر القرطبي منها اثني عشر رأياً يرجع كثير منها إلى معنى مشترك والمهم ما ذكرناه أعلاه.
ذكر هاتين الصفتين بشكل متوال (الرياء ومنع الماعون) كأنه إشارة إلى أن هؤلاء المكذبين بالدين يؤدون ما للّه بنية النّاس، وما للناس يمنعونه عنهم، ومن هنا لا يصيب أي ذي حقّ حقّه.
مسك الختام حديث عن رسول اللّه (ص) قال: "من منع الماعون جاره منعه اللّه خيره يوم القيامة، ووكّله إلى نفسه، ومن وكّله إلى نفسه فما أسوأ حاله"؟! (5)
1- الإنفطار، الآية 9.
2- التين، الآية 7.
3- الكافي، نقلاً عن نور الثقلين، ج5، ص679، الحديث18.
4- المصدر السابق، الحديث 19.
5- نور الثقلين، ج5، ص679، الحديث 20.