الآيات 1 - 4

﴿لاِِيلَـفِ قُرَيْش (1) إِلَـفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِى أَطْعَمَهُمْ مِّن جُوع وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْ ف (4)﴾

التّفسير:

ربّ هذا البيت يجب أن يعبد:

في سورة "الفيل" جاء ذكر إبادة أصحاب الفيل الذين جاؤوا لهدم الكعبة وهذه السّورة التي تعتبر امتداداً للسورة السابقة تقول: نحن جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول: (لإيلاف قريش) (1)، أي لكي تأتلف قريش في هذه الأرض المقدسة وتتهيأ بذلك مقدمات ظهور نبيّ الإسلام (ص).

"إيلاف" مصدر آلف، و"آلفه" أي جعله يألف، أي جعله يجتمع اجتماعاً مقروناً بالإنسجام والأنس والإلتيام.

وقال بعضهم: "الإيلاف" من المؤالفة، وهي العهد والميثاق، ولا تناسب بين هذا المعنى وبين الكلمة وهي مصدر باب الأفعال، وبين محتوى السّورة.

على كلّ حال، المقصود إيجاد الألفة بين قريش وهذه الأرض المقدسة وهي مكّة والبيت العتيق، لأنهم وكلّ أهل مكّة اختاروا السكن في هذه الأرض لمكانتها وأمنها.

كثير من أهل الحجاز كانوا يحجّون البيت كلّ سنة، ويقترن حجّهم بنشاط أدبي واقتصادي في هذا البلد الأمين.

كلّ ذلك كان يحدث في ظل الجو الآمن.

ولو أنّ هذا الأمن قد انعدم أو أنّ الكعبة قد انهدمت بفعل هجوم أبرهة وأمثاله لما كان لأحد ألفة بهذه الأرض.

كلمة "قريش" في الأصل نوع من الأحياء البحرية الضخمة التي تبتلع كلّ ما يصادفها، كما يقول المفسّرون واللغويون، وعن ابن عباس في معنى قريش قال: "لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه، يقال لها القريش، لا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلاّ أكلته"! واستشهد لذلك بأبيات ممّا قالته العرب.

من هنا فإنّ انتخاب هذا الإسم لهذه القبيلة يعود إلى اقتدار هذه القبيلة وقوتها، وإلى استغلال هذه القوّة في الإنقضاض على الآخرين.

وقيل إنّ قريش من القرَش، وهو الإكتساب، لأنّ قريشاً كانت مشغولة دوماً بالتجارة والكسب.

وقيل: إنّ معنى "القرش" التفتيش والمراجعة، وسمّيت قريش بذلك لتفقدها أحوال الحجاج والمسارعة لمساعدتهم.

و"القرش" في اللغة ورد بمعنى الإجتماع أيضاً، وإذا كان هذا المعنى مقصوداً في التسمية فذلك يعود إلى ما كانت تتصف به هذه القبيلة من اجتماع وانسجام.

على أي حال اسم قريش لم يقترن بسمعة طيبة.

فهم وإن كانوا عشيرة الرسول - إلاّ أنّهم ناصبوا الإسلام أشدّ العداء، ولم يألوا جهداً في وضع العراقيل أمام الدعوة والوقوف بوجهها وتعذيب الدعاة، وبعد انتصار الإسلام عليهم، عمدوا إلى التآمر الخفي على المسلمين، ثمّ بعد وفاة النّبي (ص) خلقوا أحداثاً مؤلمة لا ينساها لهم تاريخ الإسلام أبداً.

ونعلم أنّ بني اُمية وبني العباس الذين أقاموا حكومة الجبابرة والطواغيت كانوا من قريش.

القرائن التاريخية تشير إلى أنّ هذه القبيلة كانت في الجاهلية أيضاً تستثمر النّاس وتستغلهم.

ولذلك وجدت في الإسلام خطراً على مصالحها لدعوته إلى تحرير الإنسان، وشنت عليه حرباً لا هوادة فيها، إلى أن اندحرت أمام قدرة الإسلام. (إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) (2).

مكّة تقع في واد غير ذي زرع، والرعي فيها قليل، لذلك كانت عائدات أهل مكّة غالباً من قوافل التجارة، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف.

والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ، ومكّة والمدينة حلقتا اتصال بينهما.

هذه هي رحلة الشتاء... ورحلة الصيف.

والمقصود بـ "إيلافهم" في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدّسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من آمن، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام، فيسكنون فيها ويهجرون مكّة.

وقد يكون المقصود إيجاد الألفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين، لأنّ النّاس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية خاصّة بعد قصّة اندحار جيش أبرهة.

قريش لم تكن طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام، لكن اللّه لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنّبي الأكرم (ص) أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدّسة.

الآية الاخيرة تقول: إنّ هذه النعم الإلهية التي أغدقت على قريش ببركة الكعبة يجب أن تدفعهم إلى عبادة ربّ البيت لا الأوثان. (فليعبدوا ربّ هذا البيت). (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)... الذي جعل تجارتهم رائجة مريحة ومربحة، ودفع عنهم الخوف والضرر، كلّ ذلك باندحار جيش أبرهة.

وبفضل دعاء إبراهيم الخليل (ع) مؤسس الكعبة.

لكنّهم لم يقدّروا هذه النعمة، فبدلوا البيت المقدس ببيت للأوثان، وذاقوا في النهاية وبال أمرهم.

اللّهمّ! هب لنا توفيق العبادة والطاعة وشكر النعم وحراسة هذا البيت العظيم.

ربّنا! زد في عظمة هذا المركز الإسلامي الكبير واجعله حلقة اتصال بين المسلمين.

إلهنا! اقطع دابر الأعداء الظالمين القتلة المتلاعبين بمقدرات هذا المركز الإسلامي الكبير.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة قريش


1- "اللام" في "لإيلاف" بمعنى العلة، وجار ومجرور متعلق بـ "جعل" في السّورة السابقة في آية (فجعلهم كعصف مأكول)أو أحد الأفعال التي كانت في السّورة، بينما يرى البعض أن الجار والمجرور يتعلقان بجملة "فليعبدوا" القادمة، لكن هذا الإحتمال لا يتفق مع مضمون الآيات، والمعنى الأوّل أحسن.

2- "إيلافهم" بدل من في الآية السابقة، و(هم) مغعول أوّل، و(رحلة الشتاء) مفعول ثان، وقيل أنّه ظرف، وقيل منصوب بنزع الخافض، أي إيلافهم من رحلة الشتاء والصيف (يبدو أن المعنى الثّاني والثّالث أنسب).

"رحلة" في الاصل من "رحل" - على زنة شهر - بمعنى الغطاء الذي يغطي به ظهر الدابة لركوبها، ثمّ اطلقت على الإبل أو السفر بواسطته أو بوسائط اُخرى.