الآيات 6 - 8
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَالْمُشرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـلِدِينَ فِيهَآ أُولَـئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الْصَّـلِحَـتِ أُولَـئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَآؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّـتُ عَدْن تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَدَاً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُم وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ (8)﴾
التّفسير:
خير البريّة وشرّها:
الآيلات السابقة تحدثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من اللّه، لكنّهم تفرقوا من بعدما جاءتهم البيّنة.
هذه الآيات تذكر مجموعتين من النّاس مختلفتين في موقفهما من الدعوة "كافرة" و"مؤمنة" تذكر الكافرين أوّلاً بالقول: (إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم خالدين فيها اُولئك هم شرّ البريّة).
وإنّما قال "كفروا" لكفرهم بالدين المبين، وإلاّ فإنّ كفرهم ليس بجديد.
وعبارة (اُولئك هم شرّ البريّة) عبارة قارعة مثيرة، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضل واسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحق وإتمام الحجّة، وساروا في طريق الضلال، مثل هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى: (إنّ شرّ الدواب عند اللّه الصم البكم الذين لا يعقلون) (1).
وفي قوله سبحانه يصف أهل النّار: (اُولئك كالأنعام بل هم أضل اُولئك هم الغافلون) (2).
وهذه الآية التي نحن بصددها تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد ممّا تذهب إليه غيرها، لأنّها تصفهم بأنّهم شرّ المخلوقات، وهذا بمثابة بيان الدليل على خلودهم في نار جهنم.
ولم لا يكونون شرّ المخلوقات وقد فتحت أمامهم جميع أبواب السعادة فاعرضوا عنها كبراً وغروراً وعناداً.
تقديم ذكر "أهل الكتاب" على "المشركين" في هذه الآية أيضاً، قد يعود إلى ما عندهم من كتاب سماوي وعلماء ومن صفات صريحة لنبيّ الإسلام (ص) في كتبهم، لذلك كانت معارضتهم أفظع وأسوأ.
الآية التالية تذكر المجموعة الثّانية، وهم المؤمنون وتقول: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة).
والآية التالية تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند اللّه من مثوبة: (جزاؤهم عند ربّهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربّه).
يلاحظ أنّ الحديث عن المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان.
وفي ذلك إشارة إلى أن ادعاء الإيمان وحده لا يكفي، بل لابدّ أن تشهد عليه الأعمال الصالحة.
لكن الكفر وحده - وإن لم يقترن بالأعمال السيئة - مبعث السقوط والشقاء.
أضف إلى أن الكفر عادة منطلق لانواع الذنوب والجرائم والإنحرافات.
عبارة (اُولئك هم خير البريّة) تبيّن بجلاء أن الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الاُخرى تشهد على ذلك أيضاً، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: (ولقد كرمنا بني آدم) (3).
هذه الآية تحدثت عن الجزاء المادي الذي ينتظر المؤمنين، وعن الجزاء المعنوي الروحي لهم، وهو رضا اللّه عنهم ورضاهم عنه.
إنّهم راضون عن اللّه لأنّ اللّه أعطاهم ما أرادوه، واللّه راض عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم، وإنّ كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه.
وأية لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه.
نعم، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد، ونعيم روحه رضا اللّه ولقاؤه.
جملة (ذلك لمن خشي ربّه) تدل على أن كل هذه البركات تنطلق من "خشية اللّه".
لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كلّ طاعة وتقوى وعمل صالح.
بعض المفسّرين قرن هذه الآية، بالآية (28) من سورة فاطر حيث يقول سبحانه: (إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء) وخرج بنتيجة هي أنّ الجنّة للعلماء طبعاً لابدّ أن نأخذ بنظر الإعتبار وجود مراتب ومراحل للخشية وهكذا مراتب للعلم.
قيل أيضاً أن "الخشية" أسمى من "الخوف"، لأنّها خوف مقرون بالتعظيم والإحترام.
1- الأنفال، الآية 22.
2- الأعراف، الآية 179.
3- الاسراء، الآية 70.