الآيات 1 - 8
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَاً (5) إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَاً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإلَى رَبِّكَ فَارْغَب (8)﴾
التّفسير:
نِعَم إلهية:
سياق الآيات ممزوج بالحب والحنان وبألطاف ربّ العالمين لنبيّه الكريم.
أهم هبة إلهية تشير إليها الآية الاُولى: (ألم نشرح لك صدرك).
"الشرح": في الأصل - كما يقول الراغب - توسعة قطع اللحم بتحويلها إلى شرائح أرق.
و"شرح الصدر" سعته بنور إلهي وبسكينة واطمئنان من عند اللّه، و"شرح معضلات الحديث" التوسّع فيه وتوضيح معانيه الخفية، و"شرح الصدر" في الآية كناية عن التوسعة في فكر النّبي وروحه، ولهذه التوسعة مفهوم واسع،
تشمل السعة العلمية للنّبي عن طريق الوحي والرسالة، وتشمل أيضاً توسعة قدرة النّبي في تحمله واستقامته أمام تعنت الأعداء والمعارضين.
ولذلك حين اُمر موسى بن عمران (ع) بدعوة فرعون: (اذهب إلى فرعون إنّه طغى) دعا ربّه وقال: (ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري) (1).
وفي موضع آخر يخاطب اللّه نبيّه بقوله سبحانه: (فاصبر لحكم ربّك ولا تكن كصاحب الحوت) (2) أي لا تكن كيونس الذي ترك الصبر فوقع في المشاكل ولاقى أنواع الإرهاق.
وشرح الصدر يقابله "ضيق الصدر"، كما في قوله تعالى: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون) (3).
ولا يمكن أساساً لقائد كبير أن يجابه العقبات دون سعة صدر.
ومن كانت رسالته أعظم (كرسالة النّبي الأكرم) كانت الضرورة لشرح صدره أكبر،... كي لا تزعزعه العواصف ولا تثني عزمه الصعاب ولا تبعث في نفسه اليأس مكائد الأعداء، ولا يضيق بالملتوي من الأسئلة.
وهذه كانت أعظم هبة إلهية لرسول ربّ العالمين.
لذلك روي عنه (ص) أنّه قال: لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أسأله.
قلت: أي ربّ إنّه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحي الموتى.
قال، فقال: ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ قال: قلت: بلى.
قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ قال: قلت: بلى أي ربّ، قال: ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟قال: قلت: بلى أي ربّ (4).
وهذا يعني أنّ نعمة شرح الصدر تفوق معاجز الأنبياء.
والمتمعّن في دراسة حياة الرّسول (ص)، وما فيها من مظاهر تدل على شرح عظيم لصدره تجاه الصعاب والمشاق يدرك بما لا يقبل الشك أن الأمر لم يتأت لرسول اللّه بشكل عادي، بل إنّه حتماً تأييد إلهي ربّاني.
وقيل أنّ شرح الصدر إشارة لحادثة واجهت الرّسول في طفولته حين نزلت عليه الملائكة فشقّت صدره وأخرجت قلبه وغسلته، وملأته علماً وحكمة ورأفة ورحمة. (5)
المقصود طبعاً من القلب في هذه الرّواية ليس القلب الجسماني، بل إنّه كناية وإشارة إلى الإمداد الإلهي من الجانب الروحي، وإلى تقوية إرادة النّبي وتطهيره من كل نقص خلقي ووسوسة شيطانية.
ولكن، على أي حال، لا يتوفر عندنا دليل على أنّ الآية الكريمة مختصة بالحادثة المذكورة، بل لها مفهوم واسع، وقد تكون هذه القصّة أحد مصاديقها.
وبسعة الصدر هذه اجتاز الرسول (ص) العقبات والحواجز والصعاب على أفضل وجه، وأدّى رسالته خير أداء.
ثمّ يأتي ذكر الموهبة الثّانية. (ووضعنا عنك وزرك) أي ألم نضع عنك الحمل الثقيل. (الذي انقض ظهرك).
"الوزر" بمعنى الثقل، ومنها "الوزير" الذي يحمل أعباء الدولة، وسمّيت الذنوب "وزراً" لأنّها تثقل كاهل صاحبها.
"انقض" من (النقض) أي حلّ عقدة الحبل، أو فصل الأجزاء المتماسكة من البناء، و"الإنتقاض" صوت انفصال اجزاء البناء عن بعضها، أو صوت فقرات الظهر حين تنوء بعبء ثقيل.
والكلمة تستعمل أيضاً في نكث العهود وعدم الإلتزام بها، فيقال نقض عهده.
والآية تقول إذن، اللّه سبحانه وضع عنك أيّها النّبي ذلك الحمل الثقيل القاصم الظهر.
وأي حمل وضعه اللّه عن نبيّه؟ القرائن في الآيات تدل على أنّه مشاكل الرسالة والنّبوّة والدعوة إلى التوحيد وتطهير المجتمع من ألوان الفساد، وليس نبيّ الإسلام وحده بل كلّ الأنبياء في بداية الدعوة واجهوا مثل هذه المشاكل الكبرى، وتغلبوا عليها بالإمداد الإلهي وحده، مع فارق في الظروف، فبيئة الدعوة الإسلامية كانت ذات عقبات أكبر ومشاكل... نزوله.
وقيل أيضاً: أنّ "الوزر" يعني ثقل "الوحي" في بدايه نزوله.
وقيل: إنّه عناد المشركين وتعنتهم.
وقيل: إنّه أذاهم.
وقيل: إنّه الحزن الذي ألمّ بالنّبي لوفاة عمّه أبي طالب وزوجه خديجة.
وقيل: أيضاً إنّه العصمة وإذهاب الرجس.
والظاهر أنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره والتفاسير الأُخرى تفريع من التّفسير الأوّل.
وفي الموهبة الثّالثة يقول سبحانه. (ورفعنا لك ذكرك) فاسمك مع اسم الإسلام والقرآن قد ملأ الآفاق، وأكثر من ذلك اقترن اسمك باسم اللّه سبحانه في الأذان يرفع صباح مساء على المآذن.
والشهادة برسالتك لا تنفك عن الشهادة بتوحيد اللّه في الإقرار بالإسلام وقبول الدين الحنيف.
وأي فخر أكبر من هذا؟ وأي منزلة أسمى من هذه المنزلة.
وروي عن الرّسول (ص) في تفسير هذه الآية قال: "قال لي جبرائيل قال اللّه عزّوجلّ: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي".
(وكفى بذلك منزلة).
والتعبير بكلمة (لك) تأكيد على رفعة ذكر النّبي رغم كل عداء المعادين وموانع الصّادين.
وقد ذكرنا أنّ هذه السّورة مكّية، بينما الآية الكريمة تتحدث عن انتشار الإسلام، وتجاوز عقبات الدعوة، وإزالة الأعباء التي كانت تثقل كاهل الرّسول (ص)، وارتفاع ذكر النّبي في الآفاق... وهذا ما حدث في المدينة لا في مكّة.
قيل: إنّ السّورة تبشّر النّبي بما سيلقاه في المستقبل، وكان ذلك سبباً لزوال الحزن والهم من قلبه، وقيل أيضاً: إنّ الفعل الماضي هنا يعني المستقبل.
ولكن الحق أنّ قسماً من هذه الاُمور قد تحقق في مكّة خاصّة في أواخر السنين الثلاث عشرة الاُولى من الدعوة قبل الهجرة، تغلغل الإيمان في قلوب كثير من النّاس وخفّت وطأة المشاكل، وذاع صيت النّبي في كلّ مكان، وتهيأت الأجواء لإنتصارات أكبر في المستقبل.
شاعر النّبي "حسان بن ثابت" ضمّن معنى الآية الكريمة في أبيات جميلة، وقال:
وضمّ الإله اسم النّبي إلى اسمه إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش "محمود" وهذا "محمّد"
الآية التالية تبشّر النّبي (ص) بأعظم بشرى، وتقول:
( فإنّ مع العسر يسراً)
ويأتي التأكيد الآخر:
(إنّ مع العسر يُسراً).
لا تغتمّ أيّها النّبي، فالمشاكل والعقبات لا تبقى على هذه الحالة، ودسائس الأعداء لن تستمر، وشظف العيش وفقر المسلمين سوف لا يظلّ على هذا المنوال.
الذي يتحمل الصعاب، ويقاوم العواصف سوف ينال يوماً ثمار جهوده، وستخمد عربدة الأعداء، وتحبط دسائسهم، ويتمهّد طريق التقدم والتكامل ويتذلل طريق الحق.
بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ هذه الآيات تشير إلى فقر المسلمين في معيشتهم خلال الفترة الاُولى من الدعوة، لكن المفهوم الواسع للآيات يستوعب كلّ ألوان المشاكل.
اُسلوب الآيتين يجعلهما لا تختصان بشخص النّبي (ص) وبزمانه، بل بصورة قاعدة عامّة مستنبطة ممّا سبق.
وتبشّر كلّ البشرية المؤمنة المخلصة الكادحة، وتقول لها: كّل عسر إلى جانبه يسر، ولم ترد في الآية كلمة "بعد" بل "مع" للدلالة على الإقتران.
نعم، كلّ معضلةً ممزوجة بالإنفراج، وكلّ صعوبة باليسر، والإقتران قائم بين الإثنين أبداً.
وهذا الوعد الإلهي يغمر القلب نوراً وصفاءً.
ويبعث فيه الأمل بالنصر، ويزيل غبار اليأس عن روح الإنسان (6).
وعن رسول اللّه (ص) قال: "واعلم أنّ مع العسر يسراً، وأنّ مع الصبر النصر، وأنّ الفرج مع الكرب...". (7)
وروي أنّ إمرأة شكت زوجها لأمير المؤمنين علي (ع)، لعدم إنفاقه عليها، وكان الزوج معسراً فأبى علي أن يسجن الزوج وقال للمرأة: إنّ مع العسر يسراً (ودعاها إلى الصبر). (8)
(فإذا فرغت فانصب) أي إذا انتهيت من أداء أمر مهم فابدأ بمهمّة اُخرى، فلا مجال للبطالة والعطل.
كن دائماً في سعي مستمر ومجاهدة دائمة، واجعل نهاية أية مهمّة بداية لمهمّة آُخرى. (وإلى ربّك فارغب)، أي فاعتمد على اللّه في كلّ الاحوال.
اطلب رضاه، واسع لقربه.
الآيتان - حسب ما ذكرناه - لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمّة جديدة بعد الفراغ من كلّ مهمّة.
وبالتوجه نحو اللّه في كلّ المساعي والجهود، لكن أغلب المفسّرين ذكروا معاني محددة لهما يمكن أن يكون كلّ واحد منها مصداقاً للآيتين.
قال جمع منهم: المقصود، إنّك إذا فرغت من فريضة الصلاة فادع اللّه واطلب منه ما تريد.
أو: عند فراغك من الفرائض إنهض لنافلة الليل.
أو: عند فراغك من اُمور الدنيا ابدأ بأمور الآخرة والصلاة وعبادة الربّ.
أو: عند فراغك من الواجبات توجه إلى المستحبات التي حثّ عليها اللّه.
أو: عند فراغك من جهاد الأعداء انهض إلى العبادة.
أو: عند فراغك من جهاد الأعداء ابدأ بجهاد النفس.
أو: عند انتهائك من أداء الرسالة انهض لطلب الشفاعة.
الحاكم الحسكاني - عالم أهل السنة المعروف - روي عن الإمام الصادق (ع) في "شواهد التنزيل" في تفسير الآية إنّها تعني: "إذا فرغت فانصب عليّاً بالولاية" (9).
القرطبي في تفسيره روى عن بعضهم أنّ معنى الآية: "إذا فرغت فانصب إماماً يخلفك".
(لكنّه ردّ هذا المعنى) (10).
موضوع "الفراغ" في الآية لم يذكر، وكلمة "فانصب" من النصب أي التعب والمشقّة، ولذلك فالآية تبيّن أصلاً عاماً شاملاً.
وهدفها أن تحث النّبي باعتباره القدوة - على عدم الخلود إلى الراحة بعد انتهائه من أمر هام.
وتدعوه إلى السعي المستمر.
انطلاقاً من هذا المعنى يتّضح أنّ التفاسير المذكورة للآية كلّها صحيحة، ولكن كل واحد منها يقتصر على مصداق معين من هذا المعنى العام.
وما أعظم العطاء التربوي لهذا الحثّ، وكم فيه من معاني التكامل والإنتصار!! البطالة والفراغ من عوامل الملل والخمول والتقاعس والإضمحلال.
بل من عوامل الفساد والسقوط في أنواع الذنوب غالباً.
وحسب الإحصائيات، مستوى الفساد عند عطلة المؤسسات التعليمية يرتفع إلى سبعة أضعاف أحياناً.
وبإيجاز، هذه السّورة تبيّن بمجموعها عناية ربّ العالمين الخاصّة للنّبي الأعظم (ص)، وتسلية قلبه أمام المشاكل، ووعده بالنصر أمام عقبات الدعوة، وهي في الوقت ذاته تحيي الأمل والحركة والحياة في جميع البشرية المهتدية بهدى القرآن.
1- طه، الآية 25 - 26.
2- القلم، الآية 48.
3- الحجر، الآية 97.
4- مجمع البيان، ج10، ص508.
5- تفسير الدر المنثور (نقلاً عن تفسير الميزان، ج20، ص452) وتفسير الفخر الرازي، ج32، ص2. وهذه الرّواية ذكرها البخاري والترمذي والنسائي أيضاً في قصّة المعراج.
6- ممّا ذكرنا يتّضح أنّ الألف واللام في (العسر) للجنس لا للعهد، و(يسراً) وردت نكرة، لكنّها تعني الجنس أيضاً، وتنكيرها في مثل هذه المواضع للتعظيم.
7- تفسير نور الثقلين، ج5، ص604، حديث 11، 13.
8- المصدر السابق.
9- شواهد التنزيل: ج2، ص349، الاحاديث 1116 إلى 1119.
10- القرطبي، ج10، ص7199.