الآيات 6 - 11
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَاً فَأَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)﴾
التّفسير:
الشكر على كلّ هذه النعم الإلهية:
ذكرنا أنّ هدف هذه السّورة المباركة تسلية قلب النّبي (ص) وبيان الطاف اللّه التي شملته، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسد للنّبي ثلاث هبات من الهبات الخاصّة التي أنعم اللّه بها على النّبي، ثمّ تأمره بثلاثة أوامر. (ألم يجدك يتيماً فآوى).
فقد كنت يا محمّد في رحم اُمّك حين توفي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطلب (سيد مكّة).
وكنت في السادسة حين توفيت والدتك، فزاد يتمك، لكنني زدت حبّك في قلب "عبد المطلب".
وكنت في الثامنة حين رحل جدّك "عبدالمطلب"، فسخرت لك عمّك "أبا
طالب"، وليحافظ عليك كما يحافظ على روحه.
نعم، كنت يتيماً فآويتك.
وقيلت في معنى هذه الآية آراء آُخرى تبتعد عن ظاهرها.
كقولهم إنّ اليتيم هو الفريد في فضائله وخصائله الحميدة، فتقول مثلاً للجوهرة الفريدة "درّة يتيمة"... ويكون المعنى حينئذ أنّ اللّه وجدك في فضائلك فريداً ليس لك نظير، ولذلك اختارك للنبوّة.
وكقولهم: إنّك كنت يوماً يتيماً، وأصبحت ملاذاً للأيتام وقائداً للبشرية.
المعنى الأوّل دون شك أنسب وبظاهر الآية الصق.
ثمّ يأتي ذكر النعمة الثّانية: (ووجدك ضالاً فهدى).
نعم، لم تكن أيّها النّبي على علم بالنبوّة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى أيضاً: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا). (1)
واضح أنّ النّبي (ص) كان فاقداً لهذا الفيض الإلهي قبل وصوله مقام النبوّة، فاللّه سبحانه أخذ بيده وهداه وبلغ به هذا المقام، وإلى هذا تشير الآية (رقم 3) من سورة يوسف: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين).
من المؤكّد أنّه لولا الهداية الإلهية والإمداد الغيبي ما استطاع الرّسول (ص) أن يهتدي المسير نحو الهدف المقصود.
من هنا فإنّ المقصود من الضلالة في كلمة "ضالاً" في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النّبي، بل بقرينة الآيات التي أشرنا إليها تعني نفي العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكّد على ذلك كثير من المفسّرين.
لكنّه (ص) بعد البعثة اهتدى إلى هذه الاُمور بعون اللّه تعالى.
(تأمل بدقّة).
في الآية (282) من سورة البقرة، عند ذكر الشهادة وسبب استشهاد أكثر من شاهدة واحدة في كتابة عقود الدَّين يقول سبحانه: (أن تضلّ إحداهما فتذكر إحداهما الاُخرى).
والضلالة في هذه الآية تعني "النسيان" بقرينة قوله "فتذكر".
وفي الآية تفاسير اُخرى من ذلك.
إنّك كنت خامل الذكر غير معروف، واللّه أنعم عليك من المواهب الفريدة ممّا جعلك معروفاً في كلّ مكان.
ومن هذه التفاسير، إنّك تهت وضللت الطريق مرّات في عهد الطفولة (مرّة في شعاب مكّة حين كنت في حماية عبد المطلب، ومرّة حين كانت حليمة السعدية تأتي بك إلى مكّة لتسلمك إلى عبد المطلب فتهت في الطريق.
مرّة ثالثة حين كنت برفقة عمّك أبي طالب ضمن قافلة متجهة إلى الشام فضللت الطريق في ليلة ظلماء واللّه سبحانه هداك في كلّ هذه المرات وأعادك إلى حضن جدّك أو عمّك).
ويذكر أنّ كلمة "ضال" تعني "المفقود" وتعني "التائه".
ففي عبارة: "الحكمة ضالة المؤمن"، الضالة تعني الشيء المفقود.
ومن ذلك جاءت هذه المفردة أيضاً بمعنى المخفي والغائب ولذا ورد في الآية (10) من سورة السجدة قوله تعالى على لسان منكري المعاد: (أإذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد)، أي ءإذا غبنا واختفينا في بطن الأرض.
وإذا كانت كلمة "ضالاً" في الآية تعني "المفقود" فلا يبرز إشكال في الموضوع... ولكن إذا كانت بمعنى "التائه" فالمقصود منها عدم الإهتداء إلى طريق النبوّة والرسالة قبل البعثة، وبعبارة اُخرى لم يكن النّبي مالكاً لشيء في ذاته الوجودية، وما كان عنده فمن اللّه، وبهذا المعنى يندفع كلّ إشكال أيضاً. (ووجدك عائلاً فأغنى) (2).
لقد جعلناك تستأثر باهتمام "خديجة" هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كلّ ثروتها تحت تصرفك ومن أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى.
وعن علي بن موسى الرضا (ع) في تفسير هذه الآيات قال: " (ألم يجدك يتيماً فآوى)، قال: فردا لا مثيل في المخلوقين، فآوى النّاس إليك. (ووجدك ضالاً) أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. (ووجدك عائلاً)، تعول أقواماً بالعلم فأغناهم بك" (3).
هذه الرّواية تتحدث طبعاً عن بطون الآية، وإلاّ فإنّ ظاهرها هو ما ذكرناه.
ولا يتصورنّ أحد أنّ تفسير الآيات بظاهرها يحط من مكانة النّبي (ص)، أو يضفي عليه صفات سلبية من قبل الباري تعالى، بل إنّها في الواقع بيان ما أغدق اللّه على نبيّه من ألطاف واكرام واحترام، حين يتحدث المحبوب عن ألطافه بحق العاشق الواله، فإنّ حديثه هذا هو عين اللطف والمحبّة، وهو دليل على عنايته الخاصّة، والعاشق بسماعه هذه الألفاظ تسري في جسده روح جديدة، وتصفو نفسه ويغمر قلبه سكينة وهدوء.
في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة... والخطاب، وإن كان متجهاً إلى الرسول (ص)، فإنّه يشمل أيضاً كل المسلمين. (فأمّا اليتيم فلا تقهر).
"تقهر" من القهر - كما يقول الراغب - الغلبة مع التحقير، ولكن تستعمل في كل واحد من المعنيين، ومعنى التحقير هنا هو المناسب.
وهذا يدل على أنّ هناك مسألة أهم من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفي، ولذا جاء في الحديث المعروف عن رسول اللّه (ص) قال: "من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمرّ على يده نور يوم القيامة" (4).
كأنّ اللّه يخاطب نبيّه قائلاً: لقد كنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن تهتم بالأيتام كل اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك. (وأمّا السائل فلا تنهر).
"نَهَرَ" بمعنى ردّ بخشونة، ولا يستبعد أن تكون مشتركة في المعنى مع "نهر" الماء، لأنّ النهر يدفع الماء بشدّة.
وفي معنى "السائل" عدّة تفاسير.
الأوّل: أنّه المتجه بالسؤال حول القضايا العلمية والعقائدية والدينية، والدليل على ذلك هو أنّ هذا الأمر تفريع ممّا جاء في الآية السابقة: (ووجدك ضالاً فهدى)، فشكر هذه الهداية الإلهية يقتضي أن تسعى أيّها النّبي في هداية السائلين، وأن لا تطرد أي طالب للهداية عنك.
والتّفسير الآخر: هوالفقير في المال والمتاع، والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال، وبعدم ردّ هذا الفقير السائل يائساً.
والثّالث: أنّ المعنى يشمل الفقير علمياً والفقير مادياً، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين، وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهية لنبيّه (ص)، ومع إيوائه حين كان يتيماً.
وذهب بعضهم إلى حصر معنى السائل في طالب المعرفة العلمية، زاعماً أنّ كلمة السائل لم ترد في القرآن الكريم بمعنى طالب المال والمتاع (5)، بينما تكرر في القرآن هذا المعنى كقوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (6) وبهذا المعنى أيضاً وردت في المعارج - 25، وفي البقرة - 77. (وأمّا بنعمة ربّك فحدّث).
والحديث عن النعمة قد يكون باللسان، وبتعابير تنمّ عن غاية الشكر والإمتنان، لا عن التفاخر والغرور.
وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل اللّه، انفاقاً يبيّن مدى هذه النعمة.
هذه هي خصلة الإنسان السخي الكريم... يشكر اللّه على النعمة، ويقرن الشكر بالعمل، خلافاً للسخفاء البخلاء الذين لا يكفون عن الشكوى والتأوه، ولا يكشفون عن نعمة ولو حصلوا على الدنيا وما فيها، وجوههم يعلوها سيماء الفقر، وكلامهم مفعم بالتذمّر والحسرة، وعملهم يكشف عن فقر!
بينما روي عن رسول اللّه (ص) قال: "إنّ اللّه تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه" (7)
من هنا يكون معنى الآية: بيّن ما أغدق اللّه عليك من نِعَم بالقول والعمل، شكراً على ما أغناك اللّه إذ كنت عائلاً.
بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ النعمة في الآية هي النعمة المعنوية ومنها النبوّة والقرآن، والأمر للنبيّ بالإبلاغ والتبيين، وهذا هوالمقصود من الحديث بالنعمة.
ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى شاملاً للنعم المادية والمعنوية، لذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) في تفسير هذه الآية قوله: "حدث بما أعطاك اللّه، وفضلك، ورزقك، وأحسن إليك وهداك" (8).
وعن رسول اللّه (ص) قال: "من اُعطي خيراً فلم يُر عليه، سمّي بغيض اللّه، معادياً لنعم اللّه" (9).
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال: "إنّ اللّه جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده" (10).
1- الشورى، الآية 52.
2- "العائل" في الأصل كثير العيال، وجاءت أيضاً بمعنى الفقير، وهي في الآية بهذا المعنى، ويستفاد من كلام الراغب أنّ (عال) إذا كانت أجوفاً يائياً فهي بمعنى افتقر، وإن كانت أجوفاً واوياً فبمعنى كثر عياله. (ولانستبعد أن يكون المعنيان متلازمين).
3- مجمع البيان، ج10، ص506.
4- المصدر السابق.
5- تفسير محمّد عبده، جزء عم، ص113.
6- الذاريات، الآية 19.
7- نهج الفصاحة، حديث 683.
8- مجمع البيان، ج10، ص507.
9- تفسير القرطبي، ج10، ص7192، وقريب من هذا المعنى في الكافي، ج6، كتاب الزي والتجميل، حديث 2.
10- فروع الكافي، ج6، ص438.