الآيات 1 - 5
﴿وَالضُّحَى (1) وَالَّيْلِ اِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلاَْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4) وَلَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾
سبب النّزول:
روي عن ابن عباس قال: احتبس الوحي عن رسول اللّه (ص) خمسة عشر يوماً، فقال المشركون إنّ محمّداً قد ودعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من اللّه تعالى لتتابع عليه، فنزلت السّورة وروي أنّه لمّا نزلت السّورة قال النّبي (ص) لجبرائيل (ع) : "ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرائيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً ولكنّي عبد مأمور وما نتنزل إلاّ بأمر ربّك"0
وقيل: سألت اليهود رسول اللّه عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح، فقال: سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء اللّه، فاحتبس عنه الوحي هذه الأيّام، فاغتم لشماتة الأعداء فنزلت السّورة تسلية لقلبه، (ونستبعد هذه الرّواية لأنّ اتصال اليهود بالنّبي وطرحهم الأسئلة عليه كان في المدينة لا في مكّة عادة).
وقيل: إنّ المسلمين قالوا ما ينزل عليك الوحي يا رسول اللّه.
فقال: وكيف ينزل عليَّ الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم (هي عقد الأصابع يجتمع فيها الوسخ) ولا تقلمون أظفاركم) (1).
واختلفت الرّوايات في مدّة انقطاع الوحي، قيل اثنا عشر يوماً، وقيل خمسة عشر، وقيل تسعة عشر، وقيل خمسة وعشرون، وقيل أيضاً أربعون.
وفي رواية إنّها ليلتان أو ثلاث.
التّفسير:
يعطيك فترضى:
في بداية السّورة المباركة قسمان: الأوّل بالنّور، والثّاني بالظلمة، ويقول سبحانه:
(والضحى) وهو قسم بالنهار - حين تغمر شمسه كلّ مكان. (والليل إذا سجى) أي إذا عمّت سكينته كلّ مكان.
"الضحى" يعني أوائل النهار، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء، ويعم نورها الأرض، وهو في الحقيقة أفضل ساعات النهار، لأنّه - على حدّ تعبير بعضهم - شباب النهار، وفيه لا يكون الجوّ حاراً في فصل الصيف، ويكون الدفء قد عمّ في فصل الشتاء وتصبح خلاله روح الإنسان مستعدة لممارسة النشاط.
"سجى" من السَّجوِ أو السُّجو، أي سكن وهدأ، وتأتي الكلمة أيضاً بمعنى غطّى، وأقبل ظلامه.
والميت الملفوف بالكفن "مسجّى"، وفي الآية بمعنى سكن وهدأ، والليلة الخالية من الرياح تسمى "ليلة ساجية" أي هادئة، والبحر حين يستقر ويخلو من الأمواج الصاخبة يسمى "بحر ساج".
والمهم في الليل - على أي حال - هدوؤه وسكينته ممّا يضفي على روح الإنسان واعصابه هدوءً وارتياحاً، ويُعدّه لممارسة نشاط يوم غد، وهو لذلك نعمة مهمّة استحقت القسم بها.
بين القَسَمين ومحتوى السّورة تشابه كبير وارتباط وثيق.
النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النّبي (ص)، والليل كانقطاع الوحي المؤقت، وهو أيضاً ضروري في بعض المقاطع الزمنية.
وبعد القَسَمين، يأتي جواب القسم، فيقول سبحانه: (ما ودعك ربّك وما قلى).
"قلى" من "قلا" - على وزن صدا -، وهو شدّة البغض، ومن القَلَو أيضاً بمعنى الرّمي.
وكلا المعنيين يعودان إلى أصل واحد - في رأي الراغب الأصفهاني - فكأن المقلّو هو الذي يقذفه القلب من بُغضه فلا يَقبَلُه.
على أي حال، في هذا التعبير سَكنٌ لقلب النّبي (ص) وتسلّ له، ليعلم أن التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى، وليست - كما يقول الأعداء - لترك الله نبيّه أو لسخطه عليه.
فهو مشمول دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه. (وللآخرة خير لك من الأولى).
أنت في هذه الدنيا مشمول بالطاف الله تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل.
أنت آمن من غضب الله في الأمد القريب والبعيد.
وباختصار أنت عزيز في الدنيا والآخرة... في الدنيا عزيز وفي الآخرة أعزّ...قيل إن "الآخرة" و"الأولى" يشيران إلى بداية عمر النّبي (ص) ونهايته، أي إنّك ستستقبل في عمرك نصراً ونجاحاً أكثر ممّا استدبرت.
وفي ذلك إشارة إلى اتساع رقعة انتشار الإِسلام وانتصارات المسلمين المتلاحقة على الأعداء، وفتوحهم في الغزوات، ونمّو دوحة التوحيد، واندثار آثار الشرك وعبادة الأوثان.
ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.
وتأتي البشرى للنبي الكريم لتقول له:
(ولسوف يعطيك ربّك فترضى)، وهذا أعظم أكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد (ص).
فالعطاء الرّباني سيغدق عليه حتى يرضى...حتى ينتصر على الأعداء ويعّم نور الإِسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولا بأعظم الهبات الإِلهية.
النّبي الأعظم (ص) باعتباره خاتم الأنبياء، وقائد البشرية، لا يمكن أن يتحقق رضاه في نجاته فحسب، بل إنّه سيكون راضياً حين تُقبل منه شفاعته في أُمته.
ومن هنا جاءت الرّوايات لتؤكد أن هذه الآية أكثر آيات القرآن الكريم دلالة على قبول الشفاعة منه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفي حديث رواه محمّد بن علي (عليهما السلام) عن عمّه محمّد الحنفية عن أبيه أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: أنّ رسول اللّه (ص) قال: "أشفع لاُمّتي حتّى يناديني ربّي: أرضيت يا محمّد؟ فأقول: نعم يا ربّ رضيت"
ثمّ إنّ أمير المؤمنين التفت إلى جماعة وقال:
"يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عزَّوجلّ: ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...) الآية، وإنّا أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله: ( ولسوف يعطيك ربّك فترضى) وهي والله الشفاعة ليعطيها في أهل لا إله إلاّ الله حتى تقول: ربّ رضيت". (2)
وعن الإمام الصادق (ع) قال: دخل رسول اللّه على فاطمة (ع) وعليها كساء من خلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول اللّه لما أبصرها فقال: "يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل اللّه عليَّ ولسوف يعطيك ربّك فترضى". (3)
بحث
فلسفة انقطاع الوحي:
يتبيّن من الآيات الكريمة في هذه السّورة أنّ النّبي (ص) يملك لنفسه شيئاً إلاّ من عند الله... لم يكن له اختيار حتى في نزول الوحي.
متى ما شاء اللّه ينزل الوحي ومتى ما شاء ينقطع، ولعل انقطاع الوحي كان ردّاً على اُولئك الذين كانوا يطالبون النبيّ بمعاجز مقترحة وفق أذواقهم، أو كانوا يقترحون عليه تغيير بعض الأحكام والنصوص، وكان (ص) يقول لهم: (قل ما يكون لي أن اُبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلاّ ما يوحى اليّ...) (4).
1- مجمع البيان، ج10، ص504.
2- تفسير نور الثقلين، ج5، ص595، الحديث رقم 12، في الأصل تفسير أبوالفتوح الرازي، ج12، ص110.
3- مجمع البيان، ج10، ص765.
4- يونس، الآية 15.