الآيات 12 - 21

﴿إِنَّ عَلَينَا لَلهُدَى (12) وإِنَّ لَنَا لَلأَخِرَةَ وَالأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارَاً تَلَظَّى (14) لاَ يَصْلَـهَآ إِلاَّ الاَشْقَى (15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لاَِحَد عَنْدَهُ مِن نِعْمَة تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوفَ يَرْضَى (21)﴾

التّفسير:

الإنفاق والنجاة من النّار:

عقب الآيات الكريمة السابقة التي قسمت النّاس على مجموعتين: مؤمنة سخية، وعديمة الإيمان بخيلة، وبيّنت مصير كلّ منهما، تبدأ هذه الطائفة من الآيات بالتأكيد أن على اللّه الهداية لا الإجبار والإلزام، ويبقى الإنسان هو المسؤول عن اتخاذ القرار اللازم، وأن انتخاب الطريق المستقيم يعود بالنفع على الإنسان نفسه ولا حاجة للّه سبحانه بعمل خير يقدمه الفرد.

يقول تعالى: (إنّ علينا للهدى) الهدى عن طريق التكوين (الفطرة والعقل) أو عن طريق التشريع (الكتاب والسنة)... فقد بيّنا ما يلزم وأدينا الأمر حقّه.

وبعد (وإنّ لنا للآخرة والاُولى) (1) فلا حاجة بنا لإيمانكم وطاعتكم، ولا طاعتكم تجدينا نفعاً ولا معصيتكم تصيبنا ضرّاً، وكلّ منهج الهداية لصالحكم أنفسكم.

حسب هذا التّفسير الهداية تعني "اراءة الطريق".

ويحتمل أن تكون الآيتان لتشجيع المؤمنين الأسخياء، والتأكيد على أنّ اللّه سبحانه سيشملهم بمزيد من الهداية، وييسر لهم الطريق في هذه الدنيا وفي الآخرة، فاللّه قادر على ذلك لأنّ له الآخرة والاُولى.

صحيح أنّ الدنيا مقدمة على الآخرة زمنياً، ولكن الآخرة أهم وهي الهدف النهائي، ولذلك تقدم ذكرها على الدنيا في الآية الإنذار والتحذير من سبل الهداية، ولذلك قال سبحانه: (فانذرتكم ناراً تلظى).

"تلظى" من اللظى، وهو الشعلة المتوهجة الخالصة والشعلة الخالصة من الدخان ذات حرارة أكبر، وتطلق "لظى" أحياناً على جهنم (2).

ثمّ تشير الآية إلى المجموعة التي ترد هذه النّار المتلظية الحارقة وتقول: (لايصلاها إلاّ الأشقى).

وفي وصف الأشقى تقول الآية: (الذي كذّب وتولى).

معيار الشقاء والسعادة - إذن - هو الكفر والإيمان وما ينبثق عنهما من موقف عملي، إنّه لشقي حقّاً هذا الذي يعرض عن كلّ معالم الهداية وعن كلّ الإمكانات المتاحة للإيمان والتقوى... بل إنّه أشقى النّاس.

عبارة (الذي كذّب وتولى) قد يكون التكذيب إشارة إلى الكفر، والتولي إشارة إلى ترك الأعمال الصالحة، إذ هو ملازم للكفر، وقد يشير الفعلان إلى ترك الإيمان، ويكون التكذيب بنبيّ الاسلام، والتولي الإعراض عنه.

كثير من المفسِّرين يعالجون هنا مسأله ترتبط بما طرحته الآية من اختصاص جهنم بالكافرين: (لا يصلاها إلاّ الأشقى... الذي كذّب وتولى)، وهذا يتنافى مع آيات اُخرى وروايات تتحدث عن شمول عذاب جهنم للمؤمنين المذنبين أيضاً.

والآيتان استدل بهما المرجئة في قولهم: لا تضرّ مع الإيمان معصية!.

ولتوضيح ما يبدو هنا من تعارض يجب الإلتفات إلى مسألتين: الاُولى - المقصود بصلي جهنم هنا الخلود فيها، والخلود مختص بالكافرين، والقرينة على هذا القول تلك الآيات التي تتحدث عن دخول غير الكافرين أيضاً جهنم.

والاُخرى، أنّ الآيتين المذكورتين وما بعدهما حيث يقول تعالى: (وسيجنبها الأتقى) تريد بمجموعها أن تبيّن فقط حال مجموعتين: عديمة الإيمان البخيلة، والمؤمنة السخية التقية، وتذكر أنّ مصير الاُولى جهنم، والثّانية الجنّة، ولا تتطرق أساساً إلى المجموعة الثّالثة وهي المؤمنة المذنبة.

بعبارة اُخرى الحصر هنا من النوع الإضافي، أي كأن الجنّة خلقت للمجموعة الثّانية فقط، وجهنم للمجموعة الاُولى فحسب، وبهذا البيان تتّضح الإجابة على إشكال آخر بشأن التضاد بين الآيتين اللتين نحن بصددهما وما يلي من آيات تحصر النجاة بالأتقى.

ثمّ تتحدث السّورة عن مجموعة قد جُنّبت النّار وأبعدت عنها، تقول الآية: (وسيجنبها الأتقى).

ومن هو هذا الأتقى؟ تقول الآية الكريمة: (الذي يؤتى ماله يتزكى).

وعبارة "يتزكى" تشير إلى قصد القربة، وخلوص النية، سواء أريد منها معنى النمو الروحي والمعنوي، أم قصد بها تطهير الأموال، لأنّ التزكية جاءت بمعنى "التنمية"، وبمعنى "التطهير".

قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم) (3)، أي تربيهم وتنميهم بها.

وللتأكيد على خلوص النيّة في إنفاقهم تقول الآية: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) فلا أحد قد أنعم على هذا "الأتقى" ليكون إنفاقه جزاء على هذه النعمة.

بل هدفه رضا اللّه لا غير: (إلاّ إبتغاء وجه ربّه الأعلى).

بعبارة اُخرى: كثير من الإنفاق بين النّاس يتمّ ردّاً على إنفاق مشابه سابق من الجانب الآخر، طبعاً ردّ الإحسان بالإحسان عمل صالح، لكن حسابه يختلف عمّا يصدر عن الأتقياء من إنفاق مخلص.

الآيات المذكورة أعلاه تقول: إنفاق المؤمنين الأتقياء ليس رياء ولا ردّاً على خدمات سابقة قدمت إليهم، بل دافعها رضا اللّه لا غير، ومن هنا كان إنفاقهم ذا قيمة كبرى.

التعبير بكلمة "وجه" هنا يعني "الذات"، أي رضا ذات الباري تقدست أسماؤه.

وعبارة "ربّه الأعلى" تشير إلى أن هذا الإنفاق يتمّ عن معرفة كاملة... عن معرفة بربوبية الباري تعالى، وعلم بمكانته السامية العليا، وهذا الإستثناء ينفي أيضاً كلّ نية منحرفة، مثل الإنفاق من أجل السمعة والوجاهة وأمثالها... ويجعله منحصراً في طلب رضا اللّه سبحانه (4).

وفي خاتمة السّورة ذكر بعبارة موجزة لما ينتظر هذه المجموعة من أجر عظيم تقول الآية: (ولسوف يرضى).

نعم، ولسوف يرضى، فهو قد عمل على كسب رضا اللّه، واللّه سبحانه سوف يرضيه، إرضاء مطلقاً غير مشروط إرضاء واسعاً غير محدود... إرضاء عميق المعنى يستوعب كلّ النعم...إرضاء لا يمكننا اليوم حتى تصوّره... وأي نعمة أكبر من هذا الرضى!

نعم، اللّه أعلى، وجزاؤه أعلى، ولا أعلى من رضا العبد رضا مطلقاً.

احتمل بعض المفسّرين أن يكون الضمير في "يرضى" عائداً إلى اللّه سبحانه أي إن ّ اللّه سوف يرضى عن هذه المجموعة، وهذا الرضا أيضاً نعمة ما بعدها نعمة.

نعمة رضا اللّه عن هذا العبد بشكل مطلق غير مشروط، ومن المؤكّد أنّ هذا الرضا يتبعه رضا العبد الأتقى.

فالآثنان متلازمان، وقد جاء في الآية (رقم 8) من سورة البينة قوله سبحانه: (رضي اللّه عنهم ورضوا عنه) وقوله تعالى في الآية (28) من سورة الفجر: (راضية مرضية).

لكنّ التّفسير الأوّل أنسب.


1- "للام" في (للآخرة) و(للاُولى) وكذلك في (للهدى) لام تأكيد تدخل على خبر إنّ، ودخلت هنا على اسمها لتقدم الخبر.

2- تلظى أصلها تتلظى حذفت إحدى التائين للتخفيف.

3- التوبة، الآية 103.

4- "ابتغاء" منصوبة على الإستثناء، والإستثناء في الآية منقطع، أي إنّ المستثنى ليس من جنس المستثنى منه أي: ما لأحد عنده من نعمة إلاّ إبتغاء وجه ربّه، ويجوز أن يكون النصب على أنّ الكلمة مفعول له على المعنى، لأنّ معنى الكلام، لا يؤتى ماله إلاّ إبتغاء وجه ربّه.