ملاحظات

وهنا يلزم الإلتفات إلى عدّة ملاحظات:

1 - المقصود من "فك رقبة" على الظاهر هو تحرير العبد والرقيق.

روي أنّ أعرابياً جاء إلى النّبي (ص) فقال: يا رسول اللّه علمني عملاً يدخلني الجنّة.

أجابه رسول اللّه (ص) : "إن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة (1) اعتق النسمة وفك الرقبة".

فقال الأعرابي: أوَليسا واحداً؟!

قال: "لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها"

ثمّ قال: "والفيء على ذي الرحم الظالم، فإنّ لم يكن ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإنّ لم تطق ذلك، فكفّ لسانك إلاّ من الخير" (2).

2 - قال بعض المفسّرين أن معنى "فك رقبة" تحرير الفرد رقبته من الذنوب بالتوبة، أو تحرير نفسه من العذاب الإلهي بتحمل الطاعات، غير أن ما جاء في الآيات التالية من توصية باليتيم والمسكين يؤيد أن المقصود هو تحرير رقبة العبد.

3 - "المسغبة" من "سغب" على وزن "غضب" وهو الجوع، و"يوم ذي مسغبة" أي وقت المجاعة، والجياع موجودون في المجتمع عادة، والآية إنّما تؤكّد على إطعامهم في زمان المجاعة لأهمية الموضوع، وإلاّ فإنّ الجياع هو دائماً من أفضل الأعمال.

وروي عن النّبي (ص) قال: "من أشبع جائعاً في يوم سغب ادخله اللّه يوم القيامة من باب من أبواب الجنّة لا يدخلها إلاّ من فعل مثل ما فعل" (3).

4 - "المقربة" بمعنى القرابة والرحم، والتأكيد على الأقرباء من اليتامى في الآية إنّما هو لمراعاة الأولوية وللتأكيد على تصاعد المسؤولية تجاههم، لا لحصر الإطعام بهذا القسم من اليتامى.

ثمّ إنّ غمط حقوق اليتامى في ذلك العصر خاصة على يد الأقرباء استدعى التحذير من هذه العقبة بالذات.

وذهب "أبو الفتوح الرازي" إلى أنّ "المقربة" ليست من القرابة، بل من "القرب" إشارة إلى التصاق بطون الجياع من شدّة الجوع (4).

ونستبعد كثيراً هذا المعنى في تفسير الآية.

5 - "المتربة" مصدر ميمي من "ترب"، وساكن التراب من شدّة فقره هو ذو المتربة، والتأكيد على هذا النمط من المساكين لأولويتهم أيضاً، إذ إطعام أي مسكين عمل مستحسن.

وروي أنّ الإمام علي بن موسى الرضا (ع) إذا أكل أتى بصحفة فتوضع قرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كلّ شيء شيئاً فيضع في تلك الصفحة ثمّ يأمر بها للمساكين، ثمّ يتلو هذه الآية: (فلا اقتحم العقبة)

ثمّ يقول: "علم اللّه عزّوجلّ أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنّة" (5).

ثمّ تواصل الآية التالية بيان طبيعة هذه العقبة، وسبل اجتيازها فتقول: (ثمّ كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة).

فالقادرون على اجتياز هذه العقبة متحلون بالإيمان ومتواصون بالصبر والإستقامة على الطريق، ومتواصون بالرحمة والعطف.

وبهذا السياق القرآني لبيان طبيعة العقبة نفهم أن القادرين على اجتيازها هم المتحلون بالإيمان والخلق الكريم كالتواصي بالصبر والرحمة، وذوو أعمال البّر والإحسان كتحرير العبيد وإطعام الأيتام والمساكين، إنّهم بعبارة اُولئك الذين يلجون ميادين الإيمان والأخلاق والعمل ويخرجون منها ظافرين منتصرين.

العطف بالحرف "ثمّ" لا يعني دائماً التأخير الزمني، أي لا يعني أن عملية الإطعام والإنفاق يجب أن تتقدم على الإيمان، بل إن هذا الحرف في مثل هذه الموارد - كما صرّح بذلك جمع من المفسّرين - لبيان علو المرتبة، إذ من المؤكّد أنّ رتبة الإيمان والتوصية بالصبر والمرحلة أسمى وأعلى من مساعدة المحتاجين، بل الأعمال الصالحة تنبثق من ذلك الإيمان وتلك الأخلاق، وكلّ ما يفعله الإنسان تجد جذوره في معتقداته وأخلاقياته.

واحتمل بعضهم أن "ثمّ" تفيد هنا التأخير الزمني، لأن أعمال الخير قد تكون منطلقاً للتوجه نحو الإيمان، وهي بخاصة ذات تأثير في ترسيخ دعائم الأخلاق، إذ أن أخلاق الإنسان تبدأ بشكل "فعل" ثمّ تتحول إلى "حالة" ثمّ تتحول إلى "عادة" ثمّ تصبح "ملكة".

والتعبير بكلمة "تواصوا" وتعني تبادل التوصية، لها دلالة اجتماعية هامّة، هي إن عملية التواصي بالسير على طريق الحق وبالإستقامة على طاعة اللّه ومكافحة جموح الأهوآء النفسية، وبالحبّ والرحمة ليست عملية فردية يل يجب أن يتخذ طابعاً اجتماعياً عامّاً في كلّ المجتمع الإيماني، وكلّ الأفراد مسؤولون أن يوصي بعضهم الآخر بحفظ هذه الاُصول.

وعن هذا الطريق أيضاً تتعمق عرى التلاحم والإجتماعي.

وقال بعضهم إنّ "الصبر" في الآية إشارة إلى توطين النفس على طاعة اللّه والإهتمام بأوامره، و"المرحمة" إشارة إلى علاقة الودّ مع النّاس، ونعلم أن أساس الدين هو تنظيم هذه الرابطة بين العبد وربّه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.

وفي خاتمة هذه الأوصاف تذكر السّورة مكانة المتحلين بها فتقول: (اُولئك أصحاب الميمنة).

فصحيفة أعمالهم تسلّم إليهم، في محضر اللّه سبحانه وتعالى، بيدهم اليمنى.

ويحتمل أن تكون "الميمنة" من "اليُمن" والبركة، أي إنّ أصحاب هذه الصفات ذوو بركة لأنفسهم ولمجتمعهم.

ثمّ تتعرض الآية لتصوير حالة الفاشلين في إجتياز "العقبة" فتقول: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة).

و"المشئمة" من "الشؤم" تقابل "الميمنة" من "اليُمن"، أي إنّ هؤلاء الكافرين مشؤومون لا يُمن فيهم ولا بركة، بل هم عامل شقاء لأنفسهم ولمجتمعهم ثمّ إنّ علامة شؤم الفرد يوم القيامة تسلّمه صحيفة أعماله بيده اليسرى، ومن هنا ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ "المشئمة" هي اليسار مقابل اليمين، أي إنّ الذين كفروا بآيات اللّه الذين يتسلمون صحائف أعمالهم بيدهم اليسرى خاصّة وأنّ مادة "شؤم" جاءت في اللغة بمعنى اليسار أيضاً (6).

وفي الآية الأخيرة من السّورة إشارة قصيرة ذات دلالة عميقة إلى جزاء هذه الفئة الأخيرة: (عليهم نار مؤصدة).

و"الإيصاد" إحكام الغلق، وواضح أنّ الإنسان - حين يكون في غرفة حارّة الجوّ - يتوق إلى فتح أبوابها، ليهبّ عليه نسيم يلطف الهواء، فما بالك إذا كان في محرقة جهنّم والأبواب كلها موصدة عليه؟!

اللّهم! قنا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً...

اللّهم! وفقنا لإجتياز ما يعتري طريقنا من عقبات... ولا توفيق إلاّ بك.

اللّهم! اجعلنا من أصحاب الميمنة: واحشرنا مع الصالحين والأبرار.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة البلد


1- أي لقد طرحت بوضوح سؤالك، وإن كنت اجملت في الكلام.

2- نور الثقلين، ج5، ص 583.

3- مجمع البيان، ج10، ص 495.

4- تفسير أبي الفتوح الرازي، ج12، ص 96.

5- تفسير الميزان، ج20، ص 295، نقلاً عن الكافي.

6- تفسير أبي الفتوح الرازي، ج12، ص97، ولسان العرب، مادة شأم.