الآيات 1 - 7
﴿لاَ أُقْسِمُ بِهـذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَـذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالد وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـنَ فِى كَبَد (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)﴾
التّفسير:
(لا اُقسم بهذا البلد) (1)
في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل... بالقسم المرتبط ارتباطاً خاصّاً بالموضوع المطروح.
وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم: قسماً بهذه المدينة المقدسة مكّة: (لا اُقسم بهذا البلد) لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان، هي إنّ هذه الحياة مقرونة بالآلام والأسقام. (وأنت حلٌّ بهذا البلد) لم يرد ذكر "مكّة" في الآية صريحاً، لكن الدلالات تشير إلى أن المقصود بالبلد مكّة، فالسّورة مكّية، وأهميّة هذه المدينة المقدّسة لا تبلغها مدينة، والمفسّرون مجمعون على ذلك.
أرض مكّة مشرّفة ومعظمة، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة اللّه سبحانه، وكان هذا المركز مطاف أنبياء اللّه العظام... ولذلك أقسم اللّه بها... ولكنّ السّورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفاً وكرامة: (وأنت حِلّ بهذا البلد)... فالبلد استحق أن يقسم به اللّه لوجودك أنت أيّها النّبي الكريم فيه!
فلا يتصورنَّ كفار مكّة أنّ القرآن يقسم ببلدهم تكريماً لهم ولأوثانهم، لا فهذا البلد مكرم لما يحمله من تاريخ الرسالات السماوية... ولما يحتضنه من رسالة خاتمة، ونبي خاتم.
وفي الآية تفسير آخر يعتبر (لا) في الآية السابقة نافية ويكون المعنى: "لا اُقسم بهذا البلد المقدس حال كون حرمته قد هتكت والأنفس والأموال والأعراض فيه قد اُحلّت واُبيحت".
ويكون ذلك - على هذا التّفسير - توبيخاً وتقريعاً لكفار قريش وهم الذين يعتبرون أنفسهم خَدَمَة الحرم وسدنته، ويكنّون له احتراماً يفوق كلّ احترام حتى أن الرجل منهم يرى قاتل أبيه فيه فلا يتعرّض له... بل حتى قيل إنّ الرجل يحمل معه شيئاً من لحاء أشجار مكّة فلا يتعرّض له أحد.
فلماذا إذن لم تراعوا هذه الآداب والتقاليد في حقّ النّبي الأكرم (ص) ؟!
لماذا تماديتم في إيذائه وإيذاء صحابته، حتى سولت لكم أنفسكم استباحة دمه؟!
وقد ورد هذا التّفسير في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) أيضاً (2).
(ووالد وما ولد) للمفسّرين آراء عديدة عن المقصود بالوالد والولد في الآية.
قيل: إنّ الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح.
والتّفسير هذا يتناسب مع القسم بمكّة... ونعلم أنّ إبراهيم وإبنه رفعا القواعد من البيت، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين.
والعرب في الجاهلية كانوا يجلّون إبراهيم وإبنه ويفخرون في الإنتساب إليهما.
وقيل: إنّ المقصود بالوالد والولد آدم وذرّيته.
وقيل: آدم والأنبياء من ذرّيته.
وقيل: كلّ والد وما ولد.
متوالي الأجيال.
وتعاقبها بالولادة من أعجب بدائع الكون، ولذلك خصّها اللّه تعالى بالقسم ولا يُستبعد الجمع بين هذه التفاسير وإن كان الأوّل أنسب. (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
وهذا هو الهدف النهائي للقسم "الكبد" كما يقول الطبرسي في مجمع البيان في الأصل بمعنى "الشدّة" ولذا يقال للّبن إذا استغلظ "تكبّد اللّبن" ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أنّ "كبد" ألم يصيب الكَبِد، ثمّ اُطلق على كلّ ألم ومشقّة.
نعم... الإنسان يمرّ في دورة حياته بمراحل كلّها مشوبة بالألم ومقرونة بالعناء.
منذ أن يستقرّ نطفة في رحم اُمه حتى ولادته، ثمّ بعد ولادته في مراحل طفولته وشبابه وشيخوخته يعاني من ألوان والمشاق والآلام، هذه طبيعة الحياة، ومن توقّع منها غير ذلك خيّبت ظنّه.
يقول الشاعر:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأكدار والأقذار ومكلّف الأيّام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وهذه الحالة تشمل كلّ أبناء البشر دونما استثناء، بمن فيهم أنبياء اللّه وأولياؤه الصالحون.
وإذا خُيل إلينا أن ثمّة مجتمعات تبدو بعيدة عن الآلام والأتعاب وتعيش في دعة ورفاه، فذلك نتيجة نظرة سطحية، ولو تعمقنا في دراسة هذه المجتمعات، ونظرنا إليها عن كثب لتلمسنا ما تعانيه من عميق الألم وشدّة النصب... ثمّ إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد). (3)
فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدلّ على ضعف قدرته، هذه الحقيقة تردّ على أُولئك الذين يمتطون مركب الغرور، ويخالون أنّهم في مأمن من العقاب الإلهي أو أنّهم مانعتهم حصونهم ومناصبهم وثرواتهم، فيرتكبون الذنوب ويمارسون العدوان ويديرون ظهورهم لشريعة اللّه.
ويحتمل أنّ المقصود هم الأثرياء الذين يتصورون أنّ لا أحد بإمكانه سلب ثروتهم منهم... وقيل أنّ المراد من الآية الأشخاص الذين يتصورون بأنّه لا أحد يحاسبهم على أعمالهم.
ولكن مفهوم الآية عام بإمكانه أن يستوعب جميع هذه التّفاسير.
وقيل إنّ الآية أشارت إلى "أبي الأسد بن كلدة" وهو رجل من "جمح" كان قوياً شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجرّه عشرة رجال من تحته فينقطع ولا يبرح من مكانه (4).
غير أن إشارة الآية إلى فرد، أو أفراد مغرورين لا يمنع شمولية مفهومها. (يقول أهلكت مالاً لبداً).
إشارة إلى قول الذين يُطلب منهم أن ينفقوا أموالهم في الخيرات، فيأبون ويقولون بغرور: إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيراً من الأموال، بينما لم ينفق هؤلاء شيئاً، وإنّ أعطوا لأحد شيئاً فللرياء ولتحقيق هدف شخصي.
وقيل إنّها نزلت في نفر أنفقوا الأموال الطائلة في معاداة الرّسول والرسالة، وتباهوا بذلك، يؤيد ذلك قول "عمرو بن عبد ود" في حرب الخندق حين عرض عليه علي (ع) الإسلام قال: فأين ما أنفقت فيكم مالاً لبداً؟ (5) أي أنفقت مالاً كثيراً في عداوة النّبي.
وقيل إنّها نزلت في بعض رجال قريش وهو "الحرث بن عامر"، وذلك أنّه أذنب ذنباً، فستفتى رسول اللّه (ص)، فأمره أن يكفّر.
فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخولي دين محمّد (6).
والجمع بين التّفاسير المذكورة جائز، وإن كان التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع سياق الآيات التالية:
والفعل "أهلكت" يوحي إبادة الأموال وعدم الحصول على عائد منها.
و"لبد": تعني الشيء المتراكم، وهنا تعني المال الوفير. (أيحسب أن لم يره أحد).
إنّه غافل عن هذه الحقيقة... حقيقة اطلاع الباري تعالى على كلّ الاُمور وعلى ظواهر الأعمال، بل على ما يختلج في أعماق النفس والقلب، وما يدور في الخلد والنّية... وهل من المعقول أن لا يحيط المطلق الحق بكلّ شيء؟!
هؤلاء الغافلون دفعهم جهلهم لأن يروا أنفسهم بمعزل عن الرقابة الإلهية.
نعم، اللّه سبحانه يعلم مصدر حصولهم على هذه الأموال، ويعلم السبيل الذي انفقوها فيه.
وروي عن ابن عباس أنّ النّبي (ص) قال: "لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من اين جمعه، وفى ماذا أنفقه، وعن عمله ماذا عمل به، وعن حبّنا أهل البيت" (7).
بعبارة موجزة: كيف يعتري الإنسان الغرور ويدعي القدرة وحياته ممزوجة بالآلام والأكدار؟!
وكيف يدعي أنّه أنفق مالاً كثيراً في سبيل اللّه بينما الباري سبحانه عليم بنواياه، عليم بالطريق غير المشروع للحصول على هذه الأموال، وعليم بأهداف الرياء والذاتية في إنفاق هذه الأموال.
1- (لا): زائد للتأكيد، وقيل إنّها نافية (لمزيد من التوضيح راجع مطلع سورة القيامة).
2- مجمع البيان، ج10، ص493.
3- "أن" في الآية مخففة من الثقيلة والتقدير: أنّه لن يقدر عليه أحد.
4- مجمع البيان، ج10، ص493.
5- تفسير نور الثقلين، ج5، ص580، الحديث 10.
6- مجمع البيان، ج10، ص493.
7- مجمع البيان، ج10، ص494; وبهذا المعنى أيضاً ورد في تفسير روح البيان ،ج10، ص435.