الآيات 1 - 5

﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَال عَشْر (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَالَّيلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْر (5)﴾

التّفسير:

والفجر...!

بدأت السّورة بخمسة أقسام:

الأوّل: (والفجر)... والثّاني: (وليال عشر).

"الفجر": في الأصل، بمعنى الشقّ الواسع، وقيل للصبح "الفجر" لأنّ نوره يشقّ ظلمة الليل.

وكما هو معلوم فالفجر فجران، كاذب وصادق.

الفجر الكاذب: هو الخيط الأبيض الطويل الذي يظهر في السماء، ويشبّه بذنب الثعلب، تكون نقطة نهايته في الاُفق، وقسمه العريض في وسط السماء.

الفجر الصادق: هو النور الذي يبدأ من الاُفق فينتشر، وله نورانية وشفافية خاصة، كنهر من الماء الزلال يغطي اُفق الشرق ثمّ ينتشر في السماء.

ويعلن الفجر الصادق عن انتهاء الليل وابتداء النهار، وعنده يمسك الصائمون، وتصلى فريضة الصبح.

وفُسّر "الفجر" في الآية بمعناه المطلق، أي: بياض الصبح.

ولا شك فهو من آيات عظمة اللّه سبحانه وتعالى، ويمثل انعطافاً في حركة حياة الموجودات الموجودة على سطح الأرض، ومنها الإنسان، ويمثل كذلك حاكمية النور على الظلام، وعند مجيئه تشرع الكائنات الحية بالحركة والعمل، ويعلن انتهاء فترة النوم والسكون.

وقد أقسم اللّه تعالى ببداية حياة اليوم الجديد.

وفسّره بعض، بفجر أوّل يوم من محرم وبداية السنة الجديدة.

وفَسّره آخرون، بفجر يوم عيد الأضحى، لما فيه من مراسم الحج المهمّة ولإتصاله بالليالي العشرة الاُولى من ذي الحجّة.

وقيل أيضاً: إنّه فجر أوّل شهر رمضان المبارك، أو فجر يوم الجمعة.

ولكنّ مفهوم الآية أوسع من أن تحدد بمصداق من مصاديقها، فهي تضم كلّ ما ذكر.

وذهب البعض إلى أوسع ممّا ذكر حينما قالوا: هو كلّ نور يشع وسط ظلام... وعليه، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفى (ص) في ظلام عصر الجاهلية هومن مصاديق الفجر، وكذا بزوغ نور قيام المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) في وسط ظلام العالم (كما جاء في بعض الرّوايات) (1).

ومن مصاديقه أيضاً، ثورة الحسين (ع) في كربلاء الدامية، لشقها ظلمة ظلام بني اُميّة، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام النّاس.

ويكون من مصاديقه، كلّ ثورة قامت أو تقوم على الكفر والجهل والظلم على مرّ التاريخ.

وحتى انقداح أوّل شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة، فهو "فجر".

وممّا لا شك فيه أنّ المعاني هي توسعة لمفهوم الآية، أمّا ظاهرها فيدل على "الفجر" المعهود.

والمشهور عن "ليال عشر": إنّهن ليالي أوّل ذي الحجّة، التي تشهد أكبر اجتماع عبادي سياسي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض، (وورد هذا المعنى فيما رواه جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن النّبي (ص) (2).

وقيل: ليالي أوّل شهر محرم الحرام.

وقيل أيضاً: ليالي آخر شهر رمضان، لوجود ليلة القدر فيها.

والجمع بين كلّ ما ذُكر ممكن جدّاً.

وذكر في بعض الرّوايات التي تفسّر باطن القرآن: إنّ "الفجر" هو "المهدي" المنتظر" "عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف"... و"ليال عشر" هم الأئمّة العشر قبله (ع)... و"الشفع" - في الآية - هما عليّ وفاطمة (عليهما السلام).

وعلى أيّة حال، فالقسم بهذه الليالي يدّل على أهميتها الإستثنائية نسبة لبقية الليالي، وهذا هو شأن القسم (3)، ولا مانع من الجمع بين كلّ ما ذكر من معان.

ويأتي القسم الثّالث والقسم الرّابع: (والشفع والوتر).

للمفسّرين آراء كثيرة فيما أُريد بـ "الشفع والوتر" حتى ذكر بعضهم عشرين قولاً (4)، فيما ذهب آخرون لذكر (36) قولاً في ذلك (5).

وأهم تلك الأقوال، ما يلي:

1 - مراد الآية العددان الزوجي والفردي، فيكون القسم بجميع الأعداد، تلك الأعداد التي تدور عليها وبها كلّ المحاسبات والأنظمة والمغطية لجميع عالم الوجود، وكأنّه سبحانه وتعالى يقول: قسماً بالنظم والحساب.

وحقيقة الحساب والنظم في عالم الوجود، تمثل الاُسس الواقعية التي تقوم عليها الحياة الإنسانية.

2 - المراد بـ "الشفع" المخلوقات، لوجود قرين لكلّ منها، والمراد بـ "الوتر" الباري جلّ شأنه، لعدم وجود شبيه له ولانظير.

إضافة إلى أنّ الممكنات تتركب من (ماهية) و (وجود)، وهو ما يعبّر عنه بالفلسفة بـ (الزوج التركيبي)، أمّا الوجود المطلق الخالي من الماهية فهو "اللّه" حده، (وأشارت بعض الرّوايات المنقولة عن المعصومين (ع) إلى ذلك) (6).

3 - المراد بـ "الشفع والوتر" جميع المخلوقات، لأنّها من جهة بعضها زوج والبعض الآخر فرد.

4 - المراد بـ "الشفع والوتر"الصلاة، لأنّ بعضها زوجي والبعض الآخر فردي، (وورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت (ع) أيضاً) (7)... أو هما ركعتي الشفع وركعة الوتر في آخر صلاة الليل.

5 - المراد بـ "الشفع" يوم التروية (الثامن من شهر ذي الحجة، حيث يستعد الحجاج للوقوف على جبل عرفات)، و"الوتر" يوم عرفة (حيث يكون حجاج بيت للّه الحرام في عرفات... أو "الشفع" هو يوم عيد الأضحى (العاشر من ذي الحجّة، و"الوتر" هو يوم عرفة.

ووردت الإشارة إلى هذا المعنى في روايات أهل البيت (ع) أيضاً (8) والمهم...إنّ الألف واللام في "الشفع والوتر" إن كانا للتعميم، فكلّ المعاني تجتمع فيهما، وكلّ معنى سيكون مصداق من مصاديق "الشفع" و"الوتر"، ولا داعي والحال هذه إلى حصر التّفسير بإحدى المعاني المذكورة، بل كلّ منها تطبيق على مصداق بارز.

أمّا إذا كانا للتعريف، فستكون إشارتهما إلى زوج وفرد خاصين، وفي هذه الحال سيكون تفسيران من التّفاسير المذكورة أكثر من غيرهما مناسبة وقرباً مع مراد الآية، وهما:

الأوّل: المراد بهما يومي العيد وعرفة، وهذا ما يناسب ذكر الليالي العشر الاُولى من شهر ذي الحجّة، وفيهما تؤدى أهم فقرات مناسك الحج.

الثّاني: أنّهما يشيران إلى "الصلاة"، بقرينة ذكر "الفجر"، وهو وقت السحر ووقت الدعاء والتضرع إلى اللّه عزّوجلّ.

وقد ورد هذان التّفسيران في روايات عن أئمّة أهل البيت المعصومين (ع).

ونصل هنا، إلى القسم الخامس: (والليل إذا يسر) (9).

فما أدّق هذا التعبير وأجمله؟!

فقد نسب السير إلى الليل، وذلك لأنّ "يسر" من (سرى) وهو السير ليلاً على قول الراغب في مفرداته.

وكأنّ الوصف يقول: بأنّ الليل موجود حسي، له حس وحركة، وهو يخطو في ظلمته وصولاً لنور النهار.

نعم، قسماً بالظلام السائر نحو النور، قسماً بالظلام المتحرك، لا الثابت الذي يثير الخوف والرعب في الانسان، والليل يكون ذا قيمة فيما لو كان سائراً نحو النور.

وقيل: هو ظلمة الليل التي تتحرك على سطح الكرة الأرضية، والليل نافع بحركته وتناوبه مع النهار على سطح الأرض، لينعم نصفها بالسبات والنوم، وينعم النصف الآخر بالحركة والعمل تحت نور الشمس الرائع.

اختلف المفسّرون في مراد الآية من "الليل"، هل هو مطلق الليل أم ليلة مخصوصة، فإن كانت الألف واللام للتعميم فجميع الليالي، كآية من آيات اللّه ومظهر من مظاهر الحياة المهمّة.

وإن كانت الألف واللام للتعريف، فليلة عيد الأضحى، بلحاظ الآيات السابقة، حيث يتجه حجاج بيت اللّه الحرام من (عرفات) إلى (المزدلفة) - المشعر الحرام - ويقضون ليلهم في ذلك الوادي المقدس، وعند الصبح يتجهون نحو (منى). (وقد ورد في هذا روايات عن أئمّة أهل البيت (ع) (10).

والذين حضروا مثل تلك الليلة في عرفات ومشعر، قد رأوا كيف يتحرك أكثر من مليون مسلم وهم متجهون من عرفات إلى المشعر وكأن الليل بكلّه يتحرك وتشاطره في ذلك الأرض وكذا الزمان.

وهناك يتلمس الإنسان معنى (والليل إذا يسر) بكلّ دقائقه.

وعلى أيّة حال، فالليل سواء كان بمعناه المطلق أم المحدد فهو من آيات عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وهو من الضرورات الحياتية في عالم الوجود.

فالليل يكيّف حرارة الجو، ويعم على جميع الكائنات الإستقرار والسكون بعد جهد الحركة والتنقل، وفوق هذا وذاك ففيه أفضل أوقات الدعاء والمناجات مع اللّه جّل وعلا.

وأمّا ليلة عيد الأضحى (ليلة الجمع) فهي من أعجب الليالي في ذلك الوادي المقدس (المشعر الحرام).

وتتجسد تلك العلاقة الموجودة بين الأشياء الخمس التي أقسم بها (الفجر، ليال عشر، الشفع، الوتر، الليل إذا يسر) إذا ما اعتبرناها ضمن أيّام ذي الحجّة ومراسم الحج العظيمة.

وفي غير هذا فسيكون إشارة إلى مجموعة من حوادث عالم التكوين والتشريع المهمّة، والتي تبيّن جلال وعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

ثمّ تأتي الآية التالية لتقول: (هل في ذلك قسم لذي حجر).

"الحجر" هنا بمعنى: العقل، وفي الأصل بمعنى (المنع)، كأن يقال: حجر القاضي فلاناً، أو كأن يطلق على الغرفة (حجرة) لأنّها محل محفوظ ويمنع دخوله من قبل الآخرين، وكذلك يقال للحضن (حجر) - على وزن فكر - لحفظه وإحاطته، واُطلق على العقل (حجر) لمنعه الإنسان عن الأعمال السيئة، كما أنّ مصطلح (العقل) هو بمعنى (المنع) أيضاً، ومنه (العقال) الذي به تربط أرجل البعير ليمنعه من الحركة.

ولكن... أين جواب القسم؟

ثمّة احتمالان، هما:

الأوّل: قوله تعالى: (إنّ ربّك لبالمرصاد).

الثّاني: جواب القسم محذوف وتدلّ عليه الآيات التالية، التي تتحدث عن عقاب الطغاة، والتقدير: (قسماً بكلّ ما قلناه لنعذبنّ الكافرين والطغاة).


1- راجع تفسير البرهان، ج4، ص457، الحديث 1.

2- تفسير أبي الفتوح الرازي، ج12، ص74.

3- جاءت "ليال عشر" بصيغة النكرة للدلالة على عظمتها وأهميتها، وإلاّ فهي تنطبق على كلّ ما ذكر أعلاه.

4- تفسير الفخر الرازي، ج31، ص164.

5- نقل ذلك كلّ من: العلاّمة الطباطبائي في الميزان عن بعض المفسّرين في الجزء 20، ص406.. وفي كتاب روح المعاني عن كتاب التحرير والتحيير، ج30، ص120.

6- روي ذلك أبو سعيد الخدري عن النّبي(ص) راجع مجمع البيان، ج10، ص485.

7- المصدر السابق.

8- المصدر السابق.

9- "يسر": في الأصل (يسري) من (السري)، وحذفت الياء للتخفيف، ولمناسبة الآيات السابقة.

10- راجع تفسير نور الثقلين، ج5، ص571.