الآيات 14 - 19
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَوةَ الدُّنْيَا (16) وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىْ (17) إِنَّ هَـذا لَفِى الصُّحُفِ الاُْولى (18) صُحُفِ إِبْرهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾
التّفسير:
اُسس دعوة الأنبياء جميعاً (ع) :
بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة العذاب ومعاناة أهله، يأتي الحديث عن الذين نفعتهم الذكرى، ممن استمعوا إلى دعوة الهدى فطهروا أنفسهم من المعاصي والآثام، وخشعت قلوبهم لذكر اللّه... ويقول القرآن: (قد أفلح مَن تزكّى). (وذكر اسم ربّه فصلى).
فأساس الفلاح بالنجاة من العذاب والفوز بالنعيم الخالد، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية: "التزكية"، "ذكر اسم اللّة" و"الصلاة".
وقيل في معنى "التزكية" عدّة أقوال:
أوّل: تطهير الروح وتزكيتها من الشرك، بقرينة الآيات السابقة، وباعتبار أن التطهير من الذنوب وعبادة اللّه، يعتمد بالأساس على التطهير من الشرك، فهو مقدمته اللازمة.
الثّاني: تطهير القلب من الرذائل الأخلاقية، والقيام بالأعمال الصالحة، بدلالة آيات الفلاح الواردة في كتاب اللّه الكريم، كالآيات الاُولى من سورة المؤمن التي ذكرت أعمالاً صالحة بعد أن قالت: (قد أفلح المؤمنون)، وكذا الآية (رقم 9) من سورة الشمس التي قالت، بعد ذكر مسألة التقوى والفجور: (قد أفلح مَن زكّاها).
الثّالث: "زكاة الفطرة" التي تؤدى يوم عيد الفطر، لأنّها تدفع أوّلاً ثمّ يصلى صلاة العيد، وهذا المعنى قد ورد في جملة رّوايات، رويت عن الإمام الصادق (ع) (1)، كما وروي في كتب أهل السنة ما يؤيد هذا المعنى نقلاً عن أمير المؤمنين (ع) (2).
ويواجه القول الثّالث بالإشكال التالي: إنّ سورة الأعلى مكيّة، في حين أن تشريع زكاة الفطرة وصوم شهر رمضان وصلاة العيد قد نزل في المدينة.
فأجاب البعض: لا مانع من اعتبار أوائل آيات السّورة مكّية وأواخرها مدنية، فتكون الآيات المبحوثة مدنية.
ويحتمل أن يكون التّفسير المذكور من قبيل بيان مصداق واضح للآية، وليس مطلق مراد الآية.
الرّابع: يراد بـ "التزكية" في الآية بمعنى: إعطاء الصدقة.
المهم أن "التزكية" ذات مداليل واسعة تشمل: تطهير الروح من الشرك، تطهير الأخلاق من الرذائل، تطهير الأعمال من المحرمات والرياء، تطهير الأموال والأبدان بإعطاء الزكاة والصدقات في سبيل اللّه، (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
وبهذا تجمع كلّ الأقوال المذكورة لتدخل في مفهوم التزكية الواسع المداليل.
والجدير بالذكر أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن التزكيّة أولاً، ثمّ ذكر اللّه ثمّ الصلاة.
وقد أشار بعض المفسّرين إلى هذه المراتب، بعد أن جدولها بالمراحل العملية الثلاثة للمكلف:
الاولى: إزالة العقائد الفاسدة من القلب.
الثّانية: حضور معرفة اللّه وصفاته وأسمائه في القلب.
الثّالثة: الإشتغال بخدمته وفي سبيله جلّ وعلا.
ويمكن القول: إنّ الصلاة فرع لذكر اللّه، فإذا لم يذكر الإنسان ربّه، لم يسطع نور الإيمان في قلبه، وعندها فسوف لن يقوى على الوقوف للصلاة، والصلاة الحقّة هي تلك التي يصاحبها التوجّه الكامل والحضور التام بين يديه عزّوجلّ وهذان التوجّه والحضور إنّما يحصلان من ذكره سبحانه وتعالى.
أمّا ما ذكره البعض، من أنّ ذكر اللّه هو قول "اللّه أكبر" أو "بسم اللّه الرحمن الرّحيم" في بداية الصلاة، فإنّما هو بيان لأحد مصاديق الذكر ليس إلاّ.
ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الإنحراف عن جادة الفلاح: (بل تؤثرون الحياة الدنيا)... (والآخرة خير وأبقى).
ونقل الحديث النّبوي الشريف هذا المعنى، بقوله: "حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة". (3)
فالإنسان العاقل لا يجيز لنفسه أن يبيع الدار الباقية بأمتعة فانية، ولا أن يستبدل اللذائذ المحدودة والمحفوفة بألوان الآلآم بالنعم الخالدة والنقية الخالصة.
وتختم السّورة بـ : (إنّ هذا لفي الصحف الاُولى)... (صحف إبراهيم وموسى). (4)
ولكن، ما المشار إليه بـ "هذا"؟
فبعض قال: إنّه إشارة إلى الأمر بالتزكية وذكر اسم اللّه والصلاة وعدم إيثار الحياة الدنيا على الآخرة.
وذلك من أهم تعاليم جميع الأنبياء (ع)، كما وورد هذا الأمر في جميع الكتب السماوية.
واعتبره آخرون: إنّه إشارة لجميع ما جاء في السّورة، حيث أنّها ابتدأت بالتوحيد مروراً بالنبوة حتى ختمت بالأعمال.
وعلى أيّة حال، فهذا التعبير يبيّن أهميّة محتوى السّورة، أو خصوص الآيات الأخيرة منها، حيث اعتبرها من الاُصول الأساسية للأديان، وممّا حمله جميع الأنبياء (ع) إلى البشرية كافة.
"الصحف": جمع و (صحيفة)، وهي اللوح الذي يكتب عليه.
ونستدل بالآية الأخيرة بأنّ لإبراهيم وموسى (عليهما السلام) كتباً سماوية.
وروي عن أبي ذر (رضي الله عنه)، إنّه قال: قلت يارسول اللّه، كم الأنبياء؟
فقال: "مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً".
قلت: يارسول اللّه، كم المرسلون منهم؟
قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيتهم أنبياء".
قلت: كان آدم (ع) نبيّاً؟
قال: "نعم، كلمة اللّه وخلقه بيده... يا أباذر، أربعة من الأنبياء عرب: هود وصالح وشعيب ونبيّك".
قلت: يار سول اللّه، كم أنزل اللّه من كتاب؟
قال: "مائة واربعة كتب، أنزل اللّه منها على آدم (ع) عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزّبور والفرقان" (5).
(اُنزلت على موسى وعيسى وداود ومحمّد على نبيّنا وآله وعليهم السلام).
و"الصحف الاُولى": مقابل "الصحف الأخيرة" التي اُنزلت على المسيح (ع) وعلى النّبي الأكرم (ص).
1- نور الثقلين، ج5، ص556، الحديثين (19 و 20).
2- روح المعاني، ج30، ص110، وتفسير الكشّاف، ج4، ص740.
3- وروي الحديث بصور عدّة عن الإمام الصادق(ع) والإمام السجاد(ع)، وورد معنى الحديث عن الإنبياء(عليهم السلام)أيضاً، ممّا يشير إلى أهميته البالغة.
4- يمكن أن تكون "صحف إبراهيم وموسى" توضيحاً للصحف الاُولى، كما ويمكن أن تكون إشارة لأحد مصاديق الصحف، وإلاّ فهي تشمل جميع كتب الأنبياء السابقين.
5- مجمع البيان، ج10، ص746.