نهاية تجربة
وبداية تجربة اُخرى
ها نحن بفضل اللّه ومنّه وتوفيقه في نهاية المطاف مع "التّفسير الأمثل"، بعد جولة في كتاب اللّه استغرقت خمسة عشر عاماً: ومن المناسب أن يكون لنا مع القارىء الكريم، الذي رافقنا في هذه الرحلة الطويلة، حديث نستعرض فيه عصارة تجربتنا مع هذا التّفسير على أن يكون مفيداً للسائرين على طريق الدراسة والتعمّق في القرآن الكريم.
1 - خلال جولتنا في رحاب كتاب اللّه ازددنا تفهّماً لما ورد في الحديث الشريف بشأن وصف القرآن، بل تلمّسنا هذه الأوصاف بكلّ وجودنا، ورأينا باُم أعيننا.
من ذلك ما ورد عن النّبي عليه أفضل الصلاة والسّلام أنّه قال في القرآن:
"له نجوم، وعلى نجومه نجوم، ولا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنازل الحكمة". (1)
وعن علي بن موسى الرضا (ع) أنّه في جواب من سأله: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ قال:
"لأنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة". (2)
نعم: إنّه الشجرة الطيبة التي (تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها)، وهو البحر الواسع العميق الذي يجد فيه الغواص درّاً جديداً كلما ازداد فيه غوصاً.
هذه الحقيقة تتّضح لكلّ السالكين طريق القرآن، وتبعث فيهم الشوق والإندفاع نحو طلب المزيد من مائدة كتاب اللّه، ونحو مواصلة هذا الطريق حتى نهاية رحلة العمر.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال في حديثه عن القرآن:
"فيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره". (3)
وهذه حقيقة اُخرى تلمّسناها خلال جولتنا في رحاب القرآن الكريم.
وكلما عاش الإنسان جوّ القرآن أكثر يحسّ بتفتح جديد في القلب والروح.
وهذا الإحساس واضح لكلّ من دخل غمار التجربة.
وباب الدخول مفتوح لمن أراد أن يجرّب.
2 - من خلال هذه الجولة التّفسيرية تبيّن مدى شمول التعاليم القرآنية، واتضح أنّ القرآن الكريم لم يترك مجالاً من المجالات الحيويّة في الساحة الإنسانية دون أن يبيّن اُصولها ويعيّن إطارها (التفاصيل تكفلت السنّة ببيانها).
من هنا لا يحتاج الإنسان المسلم في تنظيم حياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية إلى أن يولّي وجهه شطر مدارس الشرق أو الغرب، وكما قال أمير المؤمنين علي (ع) :
"واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى". (4)
مشكلة المسلمين تكمن في عدم معرفتهم بما بين ظهرانيهم من كنز عظيم:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
وهنا نشير مرّة اُخرى إلى أن معارف القرآن وتعاليمه لا يمكن أن نتلقاها من كتاب اللّه العزيز إلاّ إذا جلسنا عنده متتلمذين متعلمين.
أمّا إذا اقبلنا على القرآن بذهنية مملوءة بأحكام مسبقة ملتقطة من مدارس الشرق والغرب، فسوف نلجأ إلى زجّ آيات القرآن في إطار مفاهيم غريبة عليه، لتنسجم مع ما نحمله من أحكام ونظريات مسبقة، وبذلك نُحرم من عطاء القرآن، ونحوله إلى "آلة" لتبرير أخطائنا وإسناد أفكارنا الناقصة.
3 - بعد هذه الجولة القرآنية التي تلمّسنا فيها الحياة القرآنية بكلّ ما تحمله من عطاء ثرّ لحياة الفرد والجماعة، لابدّ أن نسجّل أسفنا لما يحمله كثير من المسلمين من نظرة إلى القرآن... نظرة تجعل القرآن محاطاً بهالة من القدسية غير أنّه معزول عن الحياة.
تتلمس الثواب والبركة في التلاوة، والفضيلة في الحفظ، دون أن ترى فيه منهجاً للحياة.
لقد نسي هؤلاء أنّ القرآن مدرسة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة، يرسم لها طريقها في جميع المجالات، ويوجهها الوجهة الصحيحة في كلّ المنعطفات، وهنا تكمن عظمة القرآن وقدسيته.
كثيرة هي مدارس القرآن وخلاوي التحفيظ ومجلس التلاوة في عالمنا الإسلامي، وكم يدور فيها من البحوث حول طريقة التجويد والترتيل! لكن الحديث عن المنهج العملي الذي يطرحه القرآن قليل، والإلتزام بهذا المنهج أقلّ.
ونحن في هذا التّفسير قلّما تعرّضنا لسورة دون أن نبيّن أنّ التلاوة التي بيّنت السنّة فضائلها إنّما هي التلاوة المتبوعة بالفكر والعمل... فضيلة التلاوة أن يكون مقدمة للتفكر، أن يؤدي التفكر إلى العمل.
نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفق علماء المسلمين لطرح منهج القرآن بين أبناء الاُمّة، وأن يوفق اتباع القرآن إلى العمل به في كلّ جوانب حياتهم، وهذه كلمتنا الأخيرة في التّفسير الأمثل، وندع بقية الحديث إلى (التّفسير الموضوعي).
والحمد للّه ربّ العالمين
1- مجمع البيان، ج10، ص571.
2- تفسير الميزان، ج20، ص557.
3- نهج البلاغة، الخطبة 176.
4- المصدر السابق.