الآيات 1 - 5

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىْ (5)﴾

التّفسير:

تسبيح اللّه:

تبدأ السّورة بخلاصة دعوة الأنبياء (ع)، حيث التسبيح والتقديس أبداً للّه الواحد الأحد، فتخاطب النبيّ الأكرم (ص) بالقول: (سبح اسم ربّك الأعلى).

يذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ المراد بالـ "اسم" هنا هو (المسمى)، في حين قال آخرون هو (اسم اللّه) سبحانه وتعالى.

وليس ثمّة فرق كبير بين القولين، فالإسم يدّل على المسمى.

وعلى أيّة حال، فمراد الآية أن لا يوضع اسمه جلّ شأنه في مصاف أسماء الأصنام، ويجب تنزيه ذاته المقدسة من كلّ عيب ونقص، ومن كلّ صفات المخلوق وعوارض الجسم، أي أن لا يحد.

فينبغي على المؤمنين ألاّ يتعاملوا مع اسمه الجليل كتعامل عبدة الاصنام، بأن يضعوا اسمه تعالى مع أسماء أصنامهم، ولا يفعلوا كما يفعل المجسمة، ممن وقعوا في خطأ كبير وفاحش حينما نسبوا إلى الباري جلّ جلاله الصفات الجسمية. (الأعلى) : أي الاعلى من كلّ: أحد، تصوّر، تخيّل، قياس، ظن، وهم، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي. (ربّك) : إشارة إلى أنّه غير ذلك الرّب الذي يعتقد به عبدة الأصنام.

وبعد ذكر هاتين الصفتين (الربّ والأعلى)، تذكر الآيات التالية خمس صفات تبيّن ربوبية اللّه العليا: (الذي خلق فسوّى)

(سوّى) : من (التسوية)، وهي الترتيب والتنظيم، ويضم هذا المفهوم بين جناحيه كلّ أنظمة الوجود، مثل: النظام السماوي بنجومه وكواكبه، والأنظمة الحاكمة على المخلوقات في الأرض، ولا سيما الإنسان من حيث الروح والبدن.

أمّا ما قيل، من كونها إشارة إلى نظام اليد أو العين أو اعتدال القامة، فهذا في واقعه لا يتعدى أن يكون إلاّ بيان لمصداق محدود من مصاديق هذا المفهوم الواسع.

وعلى أيّة حال، فنظام عالم الخليقة، بدءاً من أبسط الأشياء، كبصمات الأصابع التي أشارت إليها الآية (رقم 4) من سورة القيامة (بلى قادرين على أن نسوّي بنانه)، وانتهاءً بأكبر منظومة سماوية، كلها شواهد ناطقة على ربوبية اللّه سبحانه وتعالى، وأدلة إثبات قاطعة على وجوده عزّوجلّ.

وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال: (والذي قدّر فهدى).

والمراد بـ (قدّر)، هو: وضع البرامج، وتقدير مقادير الاُمور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلاّ لأجلها.

والمراد بـ (هدى) هنا، هي: الهداية الكونية، على شكل غرائز وسنن طبيعية حاكمة على كل موجود (ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية).

فمثلاً، إنّ اللّه خلق ثدي المرأة وجعل في اللبن لتغذية الطفل، وفي ذات الوقت جعل عاطفة الاُمومة شديدة عند المرأة، ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلاً غريزياً نحو ثدي اُمّه، فكلّ هذه الإستعدادات والدوافع وشدّة العلاقة الموجودة بين الاُم والابن والثدي مقدّر بشكل دقيق، كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة.

وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات.

وبنظرة ممعنة لبناء كلّ موجود، وما يطويه في فترة عمره من خطوات في مشوار الحياة، تظهر لنا بوضوح الحقيقة التالية: (ثمّة برنامج وتخطيط دقيق يحيط بكل موجود، وثمّة يد مقتدرة تهديه وتعينه على السير على ضوء ما رسم له)، وهذه بحد ذاتها علامة جليّة لربوبية اللّه جلّ وعلا.

وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم السلام، لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه.

وتوصلنا الآية (50) من سورة طه لهذا المعنى، وذلك لمّا نقلت لنا سؤال فرعون إلى موسى (ع) بقوله: (ومَن ربكما يا موسى)، فأجابه (ع) : (ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى).

وقد فُهم قول موسى (ع) بشكل مجمل في زمانه، وحتى في زمان نزول الآية المباركة في صدر الدعوة الإسلامية، ولكنّ... مع دوران عجلة الأيّام، وتقدم العلوم البشرية، توصل الإنسان إلى معارف كثيرة ومنها ما يختص بمعرفة أنواع أحوال الموجودات الحيّة، فتوضح قول موسى (ع) أكثر فأكثر، حتى كتبت الآف الكتب في موضوع (التقدير) و (الهداية التكوينية)، ومع ما توصل إليه العلماء من معلومات باهرة، إلاّ إنّهم يؤكّدون على أنّ ما بقي خافي عليهم، هو أكثر بكثير ممّا توصلوا لمعرفته!

وتشير الآية التالية إلى النباتات، وما يخصّ غذاء الحيوانات منها: (والذي أخرج المرعى).

واستعمال كلمة (أخرج) فيه وصف جميل لعملية تكوّن النباتات، حيث إنّه يتضمّن وجودها داخل الأرض فأخرجها الباري منها.

وممّا لا شك فيه إنّ التغذية الحيوانية هي مقدمة لتغذية الإنسان، وبالنتيجة فإنّ فائدة عملية تغذية الحيوان تعود إلى الإنسان.

ثمّ: (فجعله غُثاء أحوى).

"الغثاء": هو ما يطفح ويتفرق من النبات اليابس على سطح الماء الجاري، ويطلق أيضاً على ما يطفح على سطح القدر عند الطبخ، ويستعمل كناية عن: كلّ ضائع ومفقود، وجاء في الآية بمعنى: النبات اليابس المتراكم.

"أحوى": من (الحوة) - على زنة قوّة - وهي شدّة الخضرة، أو شدّة السواد، وكلاهما من أصل واحد، لأنّ الخضرة لو اشتدّت قربت من السواد، وجاء في الآية بمعنى: تجمع النبات اليابس وتراكمه حتّى يتحول لونه تدريجياً إلى السواد.

ويمكن أن يكون اختيار هذا التعبير في مقام بيان النعم الإلهية، لأحد أسباب ثلاث:

الأوّل: إنّ حال هذه النباتات يشير بشكل غير مباشر إلى فناء الدنيا، لتكون دوماً درساً وعبرة للإنسان، فهي بعد أن تنمو وتخضر في الربيع، شيئاً فشيئاً ستيبس وتموت بعد مرور الأيّام عليها، حتى يتحول جمالها الزاهي في فصل الربيع إلى سواد قاتم، ولسان حالها يقول بعدم دوام الدنيا وانقضائها السريع.

الثّاني: إنّ النباتات اليابسة عندما تتراكم، فستتحول بمرور الوقت إلى سماد طبيعي، ليعطي الأرض القدرة اللازمة لإخراج نباتات جديدة اُخرى.

الثّالث: إنّ الآية تشير إلى تكوّن الفحم الحجري من النباتات والأشجار.

فكما هو معلوم، إنّ الفحم الحجري، والذي يعتبر من المصادر المهمّة للطاقة، قد تكوّن من النباتات والأشجار التي يبست منذ ملايين السنين، ودفنت في الأرض حتى تحجرت واسود لونها بمرور الزمان.

ويعتقد بعض العلماء، بأنّ مناجم الفحم الحجري قد تكوّنت من جراء النباتات اليابسة المدفونة في داخل الأرض منذ (250) مليون سنة تقريباً!

ولو أخذنا بنظر الاعتبار مقدار الاستهلاك الفعلي للفحم الحجري في العالم، لوجدنا أنّها تؤمن احتياج النّاس لأكثر من (4000) سنة.

وتفسير الآية بالمعنى الأخير دون غيره بعيد حسب الظاهر، ولا يستبعد أن تكون الآية قد أرادت كل ما جاء في المعاني الثلاث أعلاه.

وعلى أيّة حال، فللغثاء الأحوى منافع كثيرة... فهو غذاء جيد للحيوانات في الشتاء، ويستعمل كسماد طبيعي للأرض، وكذا يستعمله الإنسان كوقود.

فما ذكرته الآيات من صفات: الربوبية، الأعلى، الخلق، التسوية، التقدير، الهداية وإخراج المرعى، توصلنا إلى الربوبية الحقّة للّه جلّ وعلا، وبقليل من التأمل يتمكن أيّ إنسان من إدراك هذا المعنى، ليصل نور الإيمان إلى قلبه، فيشكر المنعم على ما أعطى.

بحث

مسألة التقدير والهداية العامّة للموجودات، التي تناولتها الآيات الآنفة الذكر كمظهر من مظاهر ربوبية اللّه عزّوجلّ، تعتبر من المسائل الحيوية والتي كلما تقدم الزمان وتوسعت مدارك وعلوم الإنسان، إزداد في الوصول إلى حقائق جديدة تضاف إلى معلوماته السابقة.

فالإكتشافات العلمية الجديدة في كلّ يوم تحيطنا علماً لرؤية وجوه جديدة رائعة لتقدير اللّه مخلوقاته وهدايته لها.

ويزيّن المفسّرون تفاسيرهم ببعض النماذج من تلك الأسرار الرائعة في خصوص الهداية التكوينية لحركة الحيوانات، واعتمد البعض على ما ذكره العالم المعروف (كريسي موريسن) في كتابه (أسرار خلق الإنسان)، وإليكم مختصراً ممّا جاء فيه:

1 - تقطع الطيور المهاجرة - في بعض الأحيان - الآف الكيلومترات في السنة، عابرة الصحارى والغابات والبحار، وعند عودتها تعرف طريق موطنها الأصلي بكل دقّة، ولا تضل عنه أبداً.

ومن النحل ما يبتعد عن خليته لمسافات بعيدة جدّاً، ولكنّه يعود إلى خليته بكلّ سهولة ويسر، في حين نرى الإنسان في حال عودته إلى وطنه يحتاج إلى عناوين وعلامات دقيقة، حتى لا يضل الطريق!

2 - الحشرات تتمتع بعيون مجهرية ذات دقّة فائقة حيّرت عقول العلماء، من حيث بنائها وقدرتها على النظر في حين أن عيون الصقور تلسكوبية تعينها على النظر لمسافات بعيدة جدّاً.

3 - حينما يسير الإنسان بين عتمة الليل الداكنة فلابدّ له من إضاءة تعينه في مسيره، إلاّ أنّ كثيراً من الطيور تصل أهدافها في حلكة الليل الدامس، مستعينة بما لعيونها من قدرة على التحسس بالأشعة ما دون الحمراء! ولبعضها مراكز حسّاسة تشبه في عملها الرادارات المتطورة!

4 - للكلاب حاسة شم مميزة، تستطيع من خلالها معرفة أيّ كائن حي يقع في طريقها، وهذا ما لا يتوفر عند الإنسان، بالرغم من التقدم التقني الذي وصل إليه.

5 - حاسة السمع عند جميع الحيوانات أقوى وأدق من سمع الإنسان بدرجات، على الرغم من استعمال الإنسان للأجهزة العلمية المتطورة في سمعه، بحيث يستطيع أن يستمع إلى حركة أجنحة ذبابة على بُعد عدّة كيلومترات منه!

ولعل السرّ في هذا التفاوت بين قدرة حواس الإنسان والحيوان، يرجع إلى القدرة العقلية المودعة في الإنسان، والتي بها يسد كلّ نقص، فيما لا تمتلك الحيوانات هذه القدرة الفعالة.

6 - وثمّة حركة عجيبة عند بعض الأسماك الصغيرة، فهي تقضي السنين من عمرها في البحار، ولكن حين يحين وقت وضع البيض، فإنّها تترك البحار متجهة إلى تلك الأنهار التي فيها ولدت، فتسير بعكس التيار لمدّة طويلة حتى تصل إلى مسقط رأسها، المكان المناسب لتكاثرها!

7 - والاعجب منها حياة بعض الأسماك وحيوانات الماء التي تسلك في حياتها عكس الصنف السابق.