الآيات 1 - 9
﴿إذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَت لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَـأَيُّهَا الإِنسَـنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحَاً فَمُلَـقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوفَ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسرُورَاً (9)﴾
التّفسير:
نحو الكمال المطلق:
تبدأ السّورة في ذكرها لأحداث نهاية العالم المهولة بالإشارة إلى السماء فتقول: (إذا السماء انشقت) (1) (فتلاشت نجومها وأجرامها واختل نظام الكواكب فيها)، كإشارة الآيتين (1 و2) من سورة الإنفطار التي أعلنت عن نهاية العالم بخرابه وفنائه: (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت).
وتحكي الآية التالية حال السماء: (وأذنت لربّها وحقّت).
فلا يتوهم أن السماء بتلك العظمة بامكانها اظهار أدنى مقاومة لأمر اللّه...بل ستستجيب لأمر اللّه خاضعة طائعة، لأنّ إرادته سبحانه في خلقه هي الحاكمة، ولا يحق لأي مخلوق أن يعصي أمره جلّ وعلا.
"أذِنَتْ": من (الاذن) على وزن (اُفق)، وهي آلة السمع وتستعار لمن كثر استماعه، وفي الآية: كناية عن طاعة أمر الآمر والتسليم له.
"حُقّت": من (الحق)، أي: وحق لها أن تنقاد لأمر ربّها.
وكيف لها لا تسلّم لأمره عزّوجلّ، وكلّ وجودها وفي كلّ لحظة من فيض لطفه، ولو انقطع عنها بأقل من رمشة عين لتلاشت.
نعم، فالسماء والأرض مطيعتان لأمر ربّهما منذ أوّل خلقهما حتى نهاية أجلهما، كما تشير الآية (11) من سورة فصّلت عن قولهما في ذلك: (قالتا أتينا طائعين).
وقيل: يراد بـ "حقّت": إنّ الخوف من القيامة سيجعل السماء تنشق... ولكنّ التّفسير الأول أنسب.
وفي المرحلة التالية تمتد الكارثة لتشمل الأرض أيضاً: (وإذا الأرض مدَّت).
فالجيال - كما تقول آيات قرآنية اُخرى - ستندك وتتلاشى، وستستوي الأرض في كافة بقاعها، لتلمّ جميع العباد في عرصتها، كما أشارت الآيات (105 - 107) من سورة طه إلى ذلك: (ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً) !
فمحكمة ذلك اليوم من العظمة بحيث تجمع في عرصتها جميع الخلق من الأولين والآخرين، ولابدّ للأرض من هذا الانبساط الواسع.
وقيل في معنى الآية: إنّ اللّه عزّوجلّ سيمدّ الأرض يوم القيامة أكثر ممّا هي عليه الآن لتسع حشر الخلائق جميعاً (2).
وفي ثالث مرحلة تقول الآية التالية: (وألقت ما فيها وتخلّت).
والمعروف بين المفسّرين أنّ الآية تشير إلى إلقاء الأرض بما فيها من موتى فيخرجون من باطن القبور إلى ظاهر الأرض، مرتدين لباس الحياة من جديد.
وقد تناولت آيات اُخرى هذا الموضوع، كالآية (رقم 2) من سورة الزلزال: (وأخرجت الأرض أثقالها)، والآيتين (13 و14) من سورة النازعات: (فإنّما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة).
وقال بعض المفسّرين: إنّ المعادن والكنوز المودعة في الأرض ستخرج مع الأموات أيضاً.
وثمّة احتمال آخر في تفسير الآية، يقول: إنّ المواد المذابة التي في باطن الأرض ستخرج نتيجة الزلازل الرهيبة التي تقذفها إلى الخارج، فتملأ الحفر والمنخفضات الموجودة على سطح الأرض، وستهدأ الأرض بعد أن يخلو باطنها من هذه المواد.
والجمع بين المعاني التي وردت في تفسير الآية، ممكن.
و: (وأذنت لربّها وحقّت).
فتسليم الموجودات لما سيحدث من كوارث كونية مدمرة ينم عن جملة اُمور، فمن جهة: إنّ الفناء سيعم الدنيا بكاملها بأرضها وسمائها وإنسانها وكلّ شيء آخر، ومن جهة اُخرى: فالفناء المذكور يمثل انعطافة حادّة في مسير عالم الخليقة، ومقدّمة للدخول في مرحلة وجود جديدة، ومن جهة ثالثة، فكلّ ما سيجري سينبأ بعظمة قدرة الخالق المطلقة، وخصوصاً في مسألة المعاد.
نعم، فسيرضخ الإنسان، بعد أن يرى باُمّ عينيه وقوع تلك الحوادث العظام، وسيرى حصيلة أعماله الحسنة والسيئة.
وتبيّن الآية التالية معالم طريق الحياة للإنسان مخاطبة له: (ياأيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه).
"الكدح": - على وزن مدح - السعي والعناء الذي يخلق أثراً على الجسم والروح، ويقال: ثور فيه كدوح، أي آثار من شدّة السعي.
وجاء في (تفسير الكشّاف) و (روح المعاني) و (تفسير الفخر الرازي) : الكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده: إذا خدشه.
والآية تشير إلى أصل أساسي في الحياة البشرية، فالحياة دوماً ممزوجة بالتعب والعناء، وإن كان الهدف منها الوصول إلى متاع الدنيا، فكيف والحال إذا كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان اللّه ونيل حسن مآب الآخرة؟!
فالحياة الدنيا قد جبلت على المشقة والتعب والألم، حتى لمن يرفل بأعلى درجات الرفاه المادي.
وما ذكر "لقاء اللّه" في الآية إلاّ لتبيان أنّ حالة التعب والعناء والكدح حالة مستمرة إلى اليوم الموعود، ولا يتوقف إلاّ بانتهاء عجلة حياة الدنيا، ولا فرق في توجيه معنى "اللقاء" سواء كان لقاء يوم القيامة والوصول إلى عرصة حاكمية اللّة المطلقة، أو بمعنى لقاء جزاء اللّه من عقاب أو ثواب، أو بمعنى لقاء ذاته المقدسة عن طريق الشهود الباطني.
نعم، فراحة الدنيا لا تخلو من تعب، والراحة الحقة... هناك، حيث ينعم الإنسان بين فيافي جنان الخلد.
وكان نداء الآية مخاطباً عموم "الإنسان"، ليشير إلينا بأن اللّه عزّوجلّ قد وضع القدرة والقوّة اللازمة لهذه الحركة الإلهية المستمرة في وجود وتكوين هذا المخلوق، والذي جعل من أشرف المخلوقات قاطبة.
واستعمال كلمة "ربّ" فيه إشارة إلى ثمّة ارتباط ما بين سعي وكدح الإنسان من جهة وذلك البرنامج التربوي الذي أعدّه الخالق لمخلوقه في عملية توجيه الإنسان نحو الكمال المطلق من جهة اُخرى.
نعم، فمشوار حركة الوجود قد بدأ من العدم، والأقدام سائرة في خطوها صوب لقاء اللّه، شاء ذلك الموجود أمّ أبى.
وقد تحدثت لنا آيات قرآنية اُخرى عن السير التكاملي المستمر للمخلوقات نحو خالقها سبحانه وتعالى، ومنها.
الآية (42) من سورة النجم: (وأنّ إلى ربّك المنتهى).
والآية (18) من سورة فاطر: (وإلى اللّه المصير)... بالإضافة إلى آيات مباركات اُخر.
وإلى ذلك المطاف، ستنفصل البشرية إلى فريقين: (فأمّا مَن اُوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً).
فالذين ساروا على هدي المخطط الربّاني لحركة الإنسان على الأرض، وكان كلّ عملهم وسعيهم للّه دائماً، وكدحوا في السير للوصول إلى رضوانه سبحانه، فسيعطون صحيفة أعمالهم بيمينهم، للدلالة على صحة إيمانهم وقبول أعمالهم والنجاة من وحشة ذلك اليوم الرهيب، وهو مدعاة للتفاخر والإعتزاز أمام أهل المحشر.
وحينما توضع أعمال هؤلاء في الميزان الإلهي الذي لا يفوته شيء مهما قلّ وصغر، فإنّه سبحانه وتعالى: سييّسر حسابهم، ويعفو عن سيئاتهم، بل ويبدل لهم سيئاتهم حسنات.
أمّا ما المراد من "الحساب اليسير"؟ فذهب بعض إلى أنّه العفو عن السيئات والثواب على الحسنات وعدم المدافة في كتاب الأعمال.
وحتى جاء في الحديث الشريف: "ثلاث مَن كنّ فيه حاسبه اللّه حساباً يسيراً، وأدخله الجنّة برحمته.
قالوا: وما هي يا رسول اللّه؟!
قال: تعطي من حرمك، وتصل مَن قطعك، وتعفو عَمَّن ظلمك" (3).
وجاء في بعض الرّوايات، أنّ الدقّة والتشديد في الحساب يوم القيامة تتناسب ودرجة عقل وإدراك الإنسان.
فعن الإمام الباقر (ع)، أنّه قال: "إنّما يداق اللّه العباد في الحساب يوم القيامة على ما آتاهم من العقول في الدنيا" (4).
ووردت أقوال متفاوتة في تفسير كلمة "الأهل" الواردة في الآية (إلى أهله).
فمنهم مَن قال: هم الزوجة والأولاد المؤمنين، لأنّه سيلتحق بهم في الجنّة، وهي بحدّ ذاتها نعمة كبيرة، لأنّ الإنسان يأنس بلقاء مَن يحب، فكيف وسيكون معهم أبداً في الجنّة!
ومنهم مَن قال: الأهل: الحور العين اللاتي ينتظرنّهم في الجنّة.
وآخرين قالوا: هم الاُخوة المؤمنين الذين كانوا معه في الدنيا.
ولا مانع من قبول كلّ هذه الأقوال في معنى الآية وما رمزت له.
بحثان:
1 - خذ العلم من عليّ (ع)
في تفسير الآية المباركة: (إذا السماء انشقت)، روي عن أميرالمؤمنين (ع) أنّه قال: "إنّها تنشق من المجرّة". (5)
والحديث يعتبر من الإعجاز العلمي لأمير المؤمنين (ع)، حيث أنّه قد كشف الستار عن حقيقة علمية قائمة لم يكن قد سبقها من علماء تلك الأزمان أحد قبله (ع)، وبقيت هذه الحقيقة خافية عن أنظار النّاس (سوى الراسخين في العلم)، إلى أن تمّ صنع التلسكوبات الكبيرة، فتوصل علماء الفلك المعاصرين إليها.
فعالم الوجود، يتكون من مجموعة مجرات، والمجرة عبارة عن مجموعة عظيمة من النجوم والمنظومات الشمسية، ولذا فقد اُطلق على المجرات اسم (مدن النجوم).
ومن هذه المجرات، مجرة (درب التبانة) المعروفة والتي يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، والمتكونة من مجموعة من النجوم والشموس على شكل دائرة، ويبدو لنا طرفها البعيد عنّا بصورة سحاب أبيض، وما هو في حقيقته إلاّ مجموعة من النجوم، تبدو لنا بهذه الصورة نتيجة لبعدها وعجز عيوننا عن تشخيصها.
وما نراه ليلاً على سطح السماء هو طرفها القريب.
ومنظومتنا الشمسية جزء من هذه المجرة العظيمة.
وكما يقول حديث أمير المؤمنين (ع)، فإنّ النجوم التي نراها في السماء اليوم، ستنفصل عن المجرة، وبها تنشق السماء.
فمن كان يعلم في زمانه (ع) إنّ النجوم المتناثرة على القبة السماوية هي جزء من مجرّة عظيمة؟!
نعم، لا يعلم بذلك، إلاّ مَن كان قلبه متصلاً بعالم الغيب، ومَن يستقي من علم اللّه تعالى استقاءً.
2 - الدنيا دار بلاء
التعبير بـ "كادح" للإشارة إلى أن طريق الحياة شاق وصعب، وخوضه يستلزم العناء والألم والمشاكل، في كافة خطوات المسير ولا يستثنى من ذلك الروح أو البدن، بل كليهما وبكلّ ما يحملان من جوارح وجوانح لا يخلوان من التأثر بهذه الطبيعة الحاكمة على الحياة الدنيا.
ويحدثنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، فيما روي عنه أنّه قال: "الراحة لم تخلق في الدنيا ولا لأهل الدنيا، إنّما خلقت الراحة في الجنّة ولأهل الجنّة، والتعب والنصب خلقا في الدنيا، ولأهل الدنيا، وما اُعطي أحد منها جفنة إلاّ أعطى من الحرص مثليها، ومَن أصاب من الدنيا أكثر، كان فيها أشد فقراً لأنّه يفتقر إلى النّاس في حفظ أمواله، ويفتقر إلى كلّ آلة من آلات الدنيا، فليس في غنى الدنيا راحة...".
وجاء في آخر حديثه (ع) : "كلاّ ما تعب أولياء اللّه في الدنيا للدنيا، بل تعبوا في الدنيا للآخرة". (6)
1- "إذا"، أداة شرط، حُذف جزاؤها، والتقدير: (إذا السماء انشقت... لاقى الإنسان ربّه فحاسبه وجازاه).
2- الفخر الرازي، في تفسيره للآية المذكورة.
3- مجمع البيان، في تفسير الآية.
4- تفسير نور الثقلين، ج5، ص537.
5- روح المعاني، ج30، ص87; وفي الدر المنثور، ج6، 329.
6- الخصال، للشيخ الصدوق(رحمه الله): الجزء الأول، باب: الدنيا والآخرة ككفتي الميزان، الحديث 95.