الآيات 11 - 17

﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَد أثِيم (12) إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـتُنَا قَالَ أَسَـطِيرُ الأَوَّلِينَ (13) كلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَومَئِذ لَّمحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَـذَا الَّذِى كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)﴾

التّفسير:

صدأ الذنوب:

بعدما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذّبين، تأتي الآيات أعلاه لتشرح حالهم، فتقول: (الذين يكذّبون بيوم الدين)، وهو يوم القيامة.

وتقول أيضاً: (وما يكذّب به إلاّ كلّ معتد أثيم).

فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والإستدلال العقلي، بل هو نابع من حبّ الإعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة "أثيم" تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب).

فهم يريدون الإستمرار بالذنوب والإيغال بالإعتداءات وبكامل اختيارهم، ومن دون أيّ رادع يردعهم من ضمير أو قانون، وهذا الحال شبيه ما أشارت إليه الآية (رقم 5) من سورة القيامة: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه)، وعليه، فهو يكذّب بيوم الدين.

وعلى هذا الأساس، فإنّ للممارسات السيئة أثر سلبي على عقيدة الإنسان، مثلما للعقيدة من أثر على سلوكية وتوجيهات الإنسان، وهذا ما سيتوضح أكثر في تفسير الآيات القادمة.

وتشير الآية التالية للصفة الثّالثة لمنكري المعاد، فتقول: (وإذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين).

فبالاضافة لكون منكر المعاد معتد وأثيم، فهو من الساخرين والمستهزئين بآيات اللّه، ويصفها بالخرافات البالية (1)، وما ذلك إلاّ مبرر واه لتغطية تهربه من مسؤولية آيات اللّه عليه.

ولم تختص الآية المذكورة بذكر المبررات الواهية لاُولئك الضالّين المجرمين فراراً من الإستجابة لنداء الدعوة الربانية، بل ثمّة آيات أُخرى تناولت ذلك، منها الآية (رقم 5) من سورة الفرقان: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملي عليه بكرة وأصيلاً)، والآية (17) من سورة الأحقاف، حكاية عن قول شاب طاغ وقف أمام والديه المؤمنين مستهزءاً بنصائحهما قائلاً: (ما هذا إلاّ أساطير الأولين).

وقيل في شأن نزول الآية: إنّها نزلت بشأن (النضر بن حارث بن كلدة)، ابن خالة النّبي (ص)، وكان من رؤوس الكفر والضلال.

ولا يمنع نزول الآية في شخص معين، من تعميم ما جاء فيها لكلّ من يشارك ذلك الشخص في الصفة والحال.

فالطغاة، كثيراً ما يتذرعون بأعذار واهية، عسى أن يتخلصوا من لوم وتأنيب الضمير من جهة... ومن اعتراضات النّاس ورجال الحق من جهة اُخرى، والعجيب أنّ الطغاة من الحماقة والتحجّر بحيث أنّ اُسلوب مواجهتهم للأنبياء (ع) وعلى مرّ التاريخ قد جاء على وتيرة واحدة، وكأنّهم قد وضعوا لأنفسهم مخططاً لا ينبغي الحيد عنه، فعند مواجهتهم لدعوة الأنبياء (ع) بتعاليم السماء، ليس عندهم سوى أن يقولوا: سحر، كهانة، جنون، أساطير!

ويعري القرآن مرّة أُخرى جذر طغيانهم وعنادهم، بالقول: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).

ما أشد تقريع العبارة! فقد احتوى صدأ أعمالهم كلّ قلوبهم، فأُزيل عنها ما جعل اللّه فيها من نور الفطرة الاُولى وذهب صفائها، ولذا... فلا يمكن لشمس الحقيقة أن تشرق بعد في اُفق قلوبهم، ولا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها.

"ران": من (الرين) على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشيء الجليل (كما يقول الراغب في مفرداته)، ويقول عنه بعض أهل اللغة: إنّه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء، وهي علامة لتلفه، وضياع بريقه وحسن ظاهره.

وقيل: ران عليه: غلب عليه، ورين به: وقع في ما لا يستطيع الخروج منه ولا طاقة له به (2) وكل هذه المعاني هي من لوازم المعنى الأوّل.

وسنتناول موضوع تأثير الرين على صفاء القلب ونورانيته في البحوث القادمة.

ويستمر البيان القرآني: (كلاّ إنّهم عن ربّهم يؤمئذ لمحجوبون).

وهو أشدّ ما سيعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء باللّه ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذةً واستئناساً.

"كلاّ": عادةً ما تستعمل لنفي ما قيل سابقاً، وللمفسرين أقوال في تفسيرها:

القول الأوّل: إنّها تأكيد لـ "كلاّ" المتقدمة في الآية السابقة، أي: يوم القيامة ليس بأُسطورة كما يزعمون.

والقول الثّاني: "كلاّ" بمعنى لا يمكن إزالة الرين الذي فقأ البصيرة في قلوبهم، فهم محرومون من رؤية جمال الحقّ في هذا العالم وفي عالم الآخرة أيضاً.

القول الثّالث: إنّ الآية تجيب زعم اُولئك من أنّ القيامة (حتى على فرض وجودها!) فهم سينعمون بها كما (يتصورون) بأنّهم منعمين في الدنيا، (وقد تناولت الآيات الأُخرى ما جاء في زعمهم) (3).

ولكنّ أحلامهم ستتلاشى أمام حقيقة وقوع القيامة، وما سينالونه من شديد العذاب.

نعم، فأعمال الإنسان في دنياه ستتجسم له في آخرته شاء أم أبى، ولما كان أُولئك قد أغلقوا عيونهم عن رؤية الحق، ورانت أعمالهم على قلوبهم، فسيحجبون عن ربّهم في ذلك اليوم العظيم، وعندها فسوف لن يتمتعوا برؤية جمال الحق أبداً، وسيحرمون من نعمة اللقاء بالحبيب الحقيقي، الذي لا حبيب سواه.

و: (ثمّ إنّهم لصالوا الجحيم).

فدخولهم جهنم نتيجة طبيعية لاحتجابهم عن اللّه تعالى وأثر لازم له، وممّا لا شك فيه إنّ لهيب الحرمان من لقاء اللّه أشدّ إيلاماً وإحراقاً من نار جهنم!

وتقول الآية التالية: (ثمّ يقال هذا الذي كنتم به تكذّبون).

يقال لهم ذلك توبيخاً ولوماً لزيادة تعذيبهم روحياً، وهو ما ينتظر كلُّ من عاند الحق وتخبط متاهات الضلال.

ملاحظتان:

1 - لِمَ كانت الذنوب صدأ القلب؟!

تناول القرآن الكريم في مواضع متعددة ما للذنوب من تأثيرات سلبية على إظلام القلب وتلويثه، فقد جاء في الآية (35) من سورة المؤمن: (كذلك يطبع اللّه على قلب كلّ متكبر جبّار).

وقال في موضع آخر: (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (4).

وجاء في الآية (46) من سورة الحج: (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور).

نعم... فأسوأ ما للإستمرار في الذنوب من آثار: إسوداد القلب، فقدان نور العلم، موت قدرة التشخيص بين ما هو حق وباطل.

فآثار ما تقترفه الجوارح من ذنوب تصل إلى القلب وتحوله إلى مستنقع آسن، وعندها لا يقوى الإنسان على تشخيص طريق خلاصه، فيهوى في حفر الضلالة التي توصله لأدنى دركات الإنحطاط، وتكون النتيجة أن يرمي ذلك الإنسان مفتاح سعادته بنفسه من يده، ولا يجني حينها إلاّ الخيبة والخسران.

وروي عن النّبي (ص) أنه قال: "كثرة الذنوب مفسدة للقلب". (5)

وفي حديث آخر: "إنّ العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرين الذي ذكر اللّه في القرآن: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) (6).

وروي الحديث (بتفاوت يسير) عن الإمام الباقر (ع) (7).

وعن رسول اللّه (ص) أنّه قال: "تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب، إنّ القلوب لترين كما يرين السيف، وجلائه الحديث". (8)

ومن الثابت في علم النفس، أنّ للأعمال الأثر الكبير على نفسية وروحية الإنسان، فنفسية الإنسان تتكيف تدريجياً على ضوء تلك الآثار، وبالنتيجة سينعكس ذلك على فكر وآراء الإنسان.

وينبغي التنويه إلى: أنّ روح الإنسان تتعامل طردياً مع الذنوب، فمع استمرار الذنوب تغوص الروح في أعماق الظلام لحظة بلحظة، حتى تصل إلى درجة يبدأ الإنسان يرى سيئاته حسنات، وربّما يتفاخر بها! وعندها... ستغلق أمامه أبواب العودة: (إلاّ أن يشاء اللّه)، وهذه الحال من أخطر ما تعرض للإنسان في حياته الدنيوية من حالات.

2 - حجاب الروح!

حاول كثير من المفسّرين أن يجعل للآية: (كلاّ إنّهم عن ربّهم لمحجوبون) تقديراً، واحتاروا بين أن يجعلوا التقدير (الحجاب عن رحمة اللّه)، أم الحجاب عن إحسانه، أم كرامته، أم ثوابه...

ولكنّ ظاهر الآية لا يبدو فيه الإحتياج لتقدير، فإنّهم سيحجبون عن ربّهم على الحقيقة، بينما سينعم الصالحون الطاهرون بقرب اللّه وجواره ليفعموا بلذيذ لقاء الحبيب، والرؤية الباطنية لهذا الحبيب الأمل، بينما الكفرة الفجرة ليس لهم من هذا الفيض العظيم والنعمة البالغة من شيء.

وبعض المؤمنين المخلصين يتنعمون بهذا اللقاء حتى في حياتهم الدنيا، في حين لا يجني المجرمون المعمية قلوبهم سوى الحرمان...

فهؤلاء في حضور دائم، واُولئك في ظلام وابتعاد!

فلمناجاة المؤمنين مع بارئهم حلاوة لا توصف، وأمّا مَن اسودت قلوبهم فتراهم غرقى في بحر ذنوبهم وتتقاذفهم أمواج الشقاء، (أعاذنا اللّه من ذلك).

ويقول أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل: "... هبني صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك".


1- "أساطير": جمع (اُسطورة) من (السطر)، وغالباً ما تستعمل في وصف الشخصيات الموهومة والأحاديث الملفقة والقصص الكاذبة.

2- راجع: المنجد، وتفسير الفخر الرازي في الآية المبحوثة.

3- كما في الآية (32) من سورة الكهف: (وما أطنّ الساعة قائمة ولئن رددت الى ربّي لأجدن خيراً منها منقلباً)، كما وجاء نظير ذلك في الآية (50) من سورة فصلت.

4- البقرة، الآية 7.

5- تفسير الدر المنثور: ج6، ص326.

6- المصدر السابق، ص325.

7- نور الثقلين، ج5، ص531، الحديث 22.

8- المصدر السابق، الحديث 23.